مجلة الرسالة/العدد 443/مظاهر النظام التجاري النازي
مجلة الرسالة/العدد 443/مظاهر النظام التجاري النازي
للأستاذ فؤاد محمد شبل
أن دراسة طرائق ألمانية التجارية أمر من الأهمية بمكان، إذ يقودنا إلى تفهم أسلوبها في السيطرة الاقتصادية على وسط أوربا والبلقان التي تبعها النفوذ السياسي. كما تعتبر هذه الأساليب أهم جانب يشرح لنا النظام الجديد في أهم صوره العملية، ويظهر للعالم ما ينتظره من وراءه وما يتوقعه من تطبيقه من إلغاء حرية التعامل وتقييد التبادل تقييداً غير محدود المدى، وتدخل الدولة في كل ما جل ودق من شؤون الفرد. وسيظهر لنا تحليل السياسة التجارية التي أتبعت في فترة تولي النازي أزمة حكم ألمانيا أن هذا النظام معناه تسخير الشعوب لمد ألمانيا بما يعوز صناعاتها من المواد الخام، فضلاً عن إلغاء جميع الأوضاع النقدية المقررة التي ألفها العالم واطمأن إليها، كما يبين لنا شرح هذا النظام مدى مسئوليته عن الحرب الحاضرة.
1 - تقييد حرية نقل الأموال
يعتبر عام 1931 السنة التي ولد فيها نظام التحكم في التجارة الخارجية التي كانت الغاية المرجوة منه الحيلولة دون سحب القروض الأجنبية من ألمانيا التي كانت دعامة ترتكز عليها قيمة المارك في الخارج. ولما تولى النازي أزمة الحكم في ألمانيا، هرعت رؤوس الأموال الأجنبية فيها إلى الخروج منها حتى بلغت قيمة ما سحب منها 4. 5 مليار ريشمارك في المدة 1932 - 1934. هنا صدر مرسوم يقيد نقل الأموال التي يحصل عليها الأجانب من استثماراتهم داخل ألمانيا، وخول للمدينين الألمان التخلص من التزاماتهم تجاه الخارج بإبداع قيمتها ماركات في حساب خاص في برلين. على أنه أستمر تحويل الفوائد والأقساط المستحقة لغرض (داوز) والفوائد المستحقة لغرض (يونج). أما أقساط الاستهلاك للقروض الأخرى، فقد أوقف صرفها، ودفعت نصف الفوائد المستحقة لها، فحسب بالعملة الأجنبية إلى نهاية سنة 1933. أما الفوائد غير المحولة، فأن الدائنين الأجانب منحوا سندات في مكنهم بيعها لبنك خصم الذهب ليحصلوا مقابلها على العملة الأجنبية. بيد أن هذا البنك لم يكن ليقبل شراء هذه السندات إلا بنصف قيمتها الاسمية؛ أما النصف الأخر فكان يستخدمه البنك المذكور لإعانة الصادرات التي يأمل الحصول - ع طريقها - على النصف الذي يحول. فكان الدائن الأجنبي يخسر من هذه العملية ربع الفوائد المستحقة له. ولقد جلبت ألمانيا في هذا الحين على نفسها السخط من جراء تنظيمها التحكمى للنقد الأجنبي، وسماحها بوجود عدد من فئات الماركات تعمل في درجات مختلفة من الخصم، إلا إنها كانت تبرر هذه الإجراءات بأن الدول الدائنة ترفض أن تقبل ديونها بضائع
وفي صيف عام 1934 أصبح التبادل الألماني الخارجي في أسوأ الحالات، فعلى حين كانت الواردات الألمانية في ازدياد، كانت الصادرات في هبوط. فقاد هذا بالطبع إلى تواصل الضغط على الذهب وعلى العملة الأجنبية التي بها تدفع ألمانيا ديونها للخارج، فأصبح من المتعذر عليها الاستمرار في عمليات التحويل وفقاً للأساس السابق مما دعاها في يونية 934 إلى إيقاف صرف الفوائد المستحقة عليها بالعملة الأجنبية وعرضت على الدائنين الأجانب سندات أجلها عشر سنوات بفائدة 3 %. فأسرعت البلاد الدائنة إلى المفاوضة مع ألمانيا للحصول على شروط أسخى؛ وكثير منها قبل عقد اتفاقات مقاصة لتسوية ديونه، وهذه الاتفاقات كان أثرها مزدوجاً فزادت صادرات ألمانيا إلى البلاد التي قبلتها وزادت صادراتها هي إلى ألمانيا
ولقد كان النظام المتبع في الاستيراد منح المستوردين الألمان حصة من العملة الأجنبية بقيمة ما أستورده في عامة 1931. إلا إن هذه الحصة هبطت في فبراير 1934 إلى 50 % منها؛ وفي مايو من نفس السنة أصبحت 5 % وأخيراً غدت تقدر يوماً بيوم طبقاً لنظرة بنك الريخ وخطته إزاء العملة الأجنبية
2 - نظام المقاصة الفردية
في سبتمبر 1934 أعلن الدكتور شاخت وزير الاقتصاد منهاجاً جديداً للتجارة الخارجية، فألغى نظام الحصص السابق واستعيض عنه بنظام يقوم على الحصول على شهادة قبل إجراء كل عملية تتعلق بالتبادل الخارجي. وتنفيذاً لهذه الفكرة أنشأت سبع وعشرون إدارة تمثل سبعاً وعشرين صناعة أو مادة أولية؛ وهذه الإدارات أصبحت المسئولة عن إعطاء تصاريح الاستيراد وعلى تقرير لأي البلاد أو لأي السلع تستخدم هذه التصاريح. ولهذه الإدارات إشراف على الصادرات كذلك ولقد أظهر التطبيق العملي للسياسة الجديدة مدى قيامها على المتاجرة الثنائية ومبادلة السلعة بالسلعة. كما أنشأت نظاماً متشابك الناجي لاتفاقات المقاصة الفردية التي تمثلت في طرائق ثلاث نشرحها على الوجه التالي:
مدار الطريقة الأولى أن المستورد الألماني الراغب في شراء سلع من الولايات المتحدة مثلاً يسعى للعثور على مصدر ألماني يريد بيع سلع للولايات المتحدة، ولكنه لا يستطيع الحصول على ثمن ما باعه الذي يبلغ بسعر الصرف س % (مثلاً) أكثر من السعر العالمي. فعلى المستورد الألماني أن يدفع ال س % هذه وبذلك يكن المصدر من تقبل السعر العالمي لسلعته. وفي مقابل الحصول على هذه ال س % يقبل المصدر الألماني التنازل عن حقوقه في النقد الأجنبي الذي يحصل عليه من بيع بضاعته إلى الولايات المتحدة. ولما كان قد دفع علاوة س % للمصدر فإنه يتقاضاها برفع سعر السلعة داخل ألمانيا. ومن الواضح إن مقدار الإضافة سالفة الذكر (س % فرضاً) تتغير بتغير العلاقة بين مستوى الأثمان في الداخل والخارج كما يتعلق بطبيعة السلعة المستوردة ومدى الطلب عليها
والشكل الثاني الذي اتخذه نظام المقاصة يجري على النسق التالي: مستورد ألماني (1) يرغب الحصول على سلعة من مصدر إنجليزي (ب). فإنه يعرض عليه إضافة في السعر الذي يشتري به زيادة عن السعر العالمي للسلعة المشتراة. والمصدر الإنجليزي بدوره - لضمان حصوله على ثمن سلعته - يبحث عن مستورد إنجليزي (ج) على استعداد أو يمكن ترغيبه (بإعطائه جانباً من الإضافة المذكورة آنفاً) لشراء السلعة التي يصدرها مصدر ألماني آخر (د). وتتم العملية كلها بحدوث المقاصة بين (ج) و (ب) بالإسترليني وبين (ا) و (د) باليشمارك!
الشكل الثالث للمقاصة هو نظام ماركات الأسكي، ومضمونه أن المصدر الأجنبي الذي يبيع سلعته لألمانيا يتقاضى نضيرها اعتماداً بماركات الأسكي. وهذا النوع من الماركات يمكنه بيعها - بخصم كبير - لمستورد السلع الألمانية. وبهذا يستطيع أداء ما اشتراه من ألمانيا بهذه الماركات. ولما كانت ماركات الأسكي هذه لا يتأنى بيعها إلا بعد دفع جانب منها. فكان المصدر الأجنبي يدخل في حسبانه هذا الأمر فيزيد ثمن سلعته بما يحقق له الحصول على الثمن الأساسي. هذا وقد خصص لكل قطر نوع خاص من ماركات الأسكي
3 - مساوئ نظام المقاصة
العيب البارز في سياسة المقاصة كما ظهر تطبيقاً في ألمانيا هو تعقد أوجهها وتشابك مناحيها وعظم تكاليفها، عوامل كان لها أثر بالغ في الحد من تقدم تجارة ألمانيا الخارجية. يضاف إلى ذلك أن تقييد الواردات مع زيادة الطلب على المواد الخام قد حتم تقييد توزيع هذه المواد داخل ألمانيا، وتطبيق اتفاقات المبادلة والمقاصة في تجارة ألمانيا الخارجية معناه تقليل نصيبها من القطن الأمريكي والصوف الأسترالي وغير ذلك من حاصلات البلاد التي تعتنق مبدأ حرية التبادل. وفي كثير من الحالات كان التباين كبيراً بين المواد الأولية موضوع المقاصة والمواد التي تتطلبها حاجات للصناعة. وهذا ما ظهر أثره واضحاً على صناعة المنسوجات الألمانية بسب احتياجها إلى المواد الخام واختلاف نوع المواد المستوردة عن المطلوبة من الجهة الأخرى.
وأخيراً فإن تقرير سياسة القيمة الاسمية للمارك في الخارج جعل أسعار الجملة الألمانية أعلى من مثيلاتها في الخارج فأصبح من الضروري إعانة حركة الصادرات بشتى الوسائل. وهذا ما تحقق بقرض ضريبة على الصناعة بلغت في عام 1935 حوالي الألف مليون مارك أي من ربع إلى خمس القيمة الاسمية للصادرات الألمانية في هذه السنة. وقد حول الاقتصاديون الألمان تبرير هذا الأجراء بقولهم إنه تدبير اتخذ لمجابهة هبوط العملات الخارجية ولا يقصد به إغراء الأسواق الأجنبية بالبضائع الألمانية.
وإزاء هذه العيوب الخطيرة عمدت الحكومة الألمانية إلى تثبيت مستوى الأسعار في داخل ألمانيا، ومنع تصدير رؤوس الأموال منها على نطاق واسع، وذلك بأن لا تستورد إلا ما تستطيع دفعه مما تحصل عليه من صادراتها، وأن توجه صادراتها إلى تلك الأقطار التي تتقبل بضائعها، والتي ألمانيا في حاجة إلى منتجاتها. وتنفيذاً لهذه السياسة أنشأت شبكة من الإدارات لا تشرف على الواردات فحسب، ولكن على تنظيم حركة المواد الأولية داخل ألمانيا أيضاً.
4 - الميزان التجاري حققت سياسة توجيه السياسة والأشراف عليها الغاية المرجوة منها من توازن ميزان ألمانيا التجاري، فبينما نتج عن عام 1934 عجز في ميزان ألمانيا التجاري قدره 284 مليون ريشمارك أسفر عام 1935 عن موافقة الميزان التجاري لها بنحو 111 مليون ريشمارك، وصعد هذا الرقم إلى 550 مليون ريشمارك في عام 1936، وتعزى هذه النتيجة أساساً إلى تقييد الواردات التي هبطت في عام 1936 عن مثيلتها في عام 1934 بنحو 233 مليون ريشمارك. ويلاحظ تغير في نوع السلع المستوردة عام 1936 عن تلك في عام 1934، فقد زاد المستورد من المواد الغذائية قليلاً فشغلت 36. 6 % من مجموع الواردات في عام 1936 مقابل 34. 6 % في عام 1934. أما المواد الأولية ونصف المصنوعة فقد شغلت 55 % في عام 1936 مقابل 52. 4 % في عام 1934 في حين هبطت نسبة الوارد من البضائع التامة الصنع من 12 % من مجموع واردات 1934 إلى 9. 4 % من واردات 1936 كما كان هناك تغير ملحوظ في واردات ألمانيا. فقد زادت وارداتها من البلاد المجاورة لها وخاصة أوربا الجنوبية الشرقية وأمريكا الجنوبية بينما هبطت وارداتها كثيراً من الولايات المتحدة واستراليا وفرنسا وهولندا وروسيا
أما الصادرات فقد زادت في عام 1936 عن مثيلتها في عام 1934 بنحو 600 مليون ريشمارك، وتعزى هذه الزيادة إلى حد كبير إلى انتعاش أحوال التجارة العالمية كما يرد جانب منها إلى إعانة التصدير التي أشرنا إليها، وإذا ما علمنا أن ثمن واردات ألمانيا قد ارتفع بين عامي 1935 و1936 بمقدار 3. 8 % بينما هبط ثمن صادراتها في نفس المدة بمقدار 2. 8 % فأدركنا إن التبادل التجاري بمعناه الصحيح لم يكن موافقاً لها، مما جعل مركزها التجاري يزداد صعوبة، ولم يتح الفائض في الميزان التجاري في عامي 1936 و1937 لألمانيا إلا حظاً ضئيلاً إذ كان عليها إن تدفع فوائد ديونها الخارجية التي ارتفعي في عام 1935 إلى 550 مليون ريشمارك بسب بعض اتفاقات المقاصة مع فرنسا ويوجوسلافيا بصفة خاصة
ولقد زادت واردات ألمانيا من 4. 2 مليار ريشمارك في عام 1936 إلى 5. 5 مليار ريشمارك في عام 1937 وصادراتها من 4. 8 مليار إلى 5. 9 مليار. وبلغت زيادة صادراتها عن وارداتها 443 مليون ريشمارك في عام 1937 مقابل 550 مليون ريشمارك. وبهذه الزيادة في الصادر والوارد استطاعت ألمانيا أن تساهم في حركة الإنعاش العامة للتجارة الدولية في عام 1937. بيد أن التبادل التجاري ظل في غير مصلحتها بالنظر لزيادة أثمان وارداتها بمقدار 10. 2 % في حين زادت أثمان صادراتها بنحو 3. 6 % فحسب وكان الميزان التجاري غير موافق لألمانيا عام 1938 نظراً لهبوط معدل صادراتها من جهة وزيادة وارداتها من المواد الخام التي عملت على تخزينها استعداداً للحرب. ومن الأحرى بالذكر أن صادرات ألمانيا تتكون غالباً من المواد التامة الصنع التي تكون السلع الإنتاجية فيها نسبة كبيرة جداً وبالتالي فهي أكثر تأثراً بالأزمات الاقتصادية من الصادرات البريطانية مثلاً الأكثر تغيراً وشمولاً
وفي مقال تال سنشرح اتجاهات التجارة الألمانية قبل الحرب وطرائق التوسع التجاري الألماني.
فؤاد محمد شبل
مفتش تموين الإسكندرية