مجلة الرسالة/العدد 443/قيمة الحرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 443/قيمة الحرية

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 12 - 1941



للصحافي العالي ويكهام استير

بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي

(تتمة)

إذا ما غلب علي ظن الهيئات العادية من أولئك القوم الذين ينعمون بما لهم من رصيد في صناديق التوفير أو ممن يحيون حياة طيبة في أكواخهم أو ممن يهنأهم ما جمعوا أو جمع لهم من ظارف أو تليد، إن ما بيدهم على وشك أن يزول عنهم، ثم تركت لهم الحيرة بين نظامين أحدهما يضيع على الناس أموالهم وحريتهم، والأخر يميل إلى الاستبداد بهم والتضييق على حريتهم، لانصرفت رغبتهم إلى ثاني المصيرين، وفضلوا أن يضحوا بحريتهم في سبيل الاحتفاظ بأموالهم. وعندي إن هذه الرغبة هي من منبع الضلالة وعماد ما يتهدد الحرية عموماً وحرية الصحافة ضمناً من إرهاب أو طغيان هو أكثر أساليب الاستبداد تضليلاً للعقول البشرية، إذ لو ترك لأمثال هؤلاء الناس أن يدركوا ما سيسوقهم إليه خيارهم من مصير لعرفوا انهم سوف يندمون على ما صنعوا ولات ساعة مندم. وسوف تتكشف لهم الحقيقة عن أن خسارتهم في حرية التملك لم تكن بأقل من خسارتهم في حرية التفكير وحرية التصرف وحرية القول ونقائص ذلك النظام الذي يخلعون عليه اسماً غامضاً فيدعونه (بالنظام الرأسمالي) قد ترجح أولاً ترجح على فضائله. إلا أنه في الأمم التي احتفظت بنظامها النيابي الديمقراطي وبالتالي بحرة صحافتها ما زال (للرأسمالية) فضلها في ترك نقادها أحراراً في نقدها إياها، وبعون من النقد العام يتهيأ للإصلاح أن يقلم أظفار (الرأسمالية) ويخفف من غلوائها في استعمال حقوقها استعمالاً مضراً بالآخرين أن لم يسعه أن يضع الأمور في وضعها العادل. فإباحة النقد كما سبق لي بيانه هي سند الحرية في الجماعات التمدنية أو هي كما عبر عنها أحد خدام بريطانيا الممتازين: (ما لنا من حق في أن نقول لأية حكومة كائنة ما كانت لقد ضقنا بك ذرعاً فإلى صقر) فلا ضمان لحرية شخصية، ولا أمل في تحقيق نجاح، ولا عاصم من طغيان، ولا أثر فعل للآراء الخاصة، ما لم تتوفر لنقد حرمته وحريته.

والهيئات الاجتماعية الحرة الني ظفرت من حريتها بقسط كبير تنادي به صحافتها، ويجري على ألسنة جماهيرها في الطرق العامة، ويفصح عنه من يمثلها من نوابها تحت قبة دار النيابة بوسعها وقتما يكون الصالح العام بحاجة إلى تعديل الأساليب أو تغيير النظم أن تتخلص من حكامها وتغير قوانينها من غير أن تحدث حدثاً خطيراً أو توقدها ثورة شعواء. بينما نرى الأمر في الأمم الاستبدادية وهو يجري على غير هذا الوجه إذ لا يتيسر لها تغيير النظم وإصلاح المناهج إلا إذا تمرد الشعب على حكامه، فاشتعلت فيها نيران الثورة. ووثبت القوة الناقمة لمناهضة القوة الغاشمة.

وقد يتهيأ للنظم الاستبدادية في وقت ما وفي ظروف استثنائية خاصة تمليها الضرورة القاهرة أن تكون أكثر نفوذاً وأوفر كفاية من النظم الديمقراطية. إلا إن مثل هذا الفضل الموقوت لا يقتضي حتماً إن الديمقراطيات التي تضطلع شعوبها بشئونها العامة، وتوجهها صحافة يقضه جريئة سوف تضل دائماً وهي أقل كفاية واستبداداً من النظم الاستبدادية

ولا زال الحق الذي لا مريه فيه شاهد عدل على إن ما يتقيد به السلطان في الأمم الديمقراطية من قيود، وما يستنفذه من وقت بين الاعتراف بما يجب أن يكون والقيام به فعلاً عندما تنادي المصلحة العامة بوجوب التعديل أو التبديل هو من قبيل التعمق في التقوى والتحرز من أهوال الطفرة ونكبات الانقلاب

وما زال قيد النظر ومحك التجارب حتى في المسائل المتعلقة بالحياة أو الموت، كالحروب مثلاً ما إذا كانت الديمقراطيات الحرة كنظم سياسة أقل شأناً من تلك الجماعات التي تتنزل عليها الأوامر من عروش قادتها. ومع ذلك ما كانت الديمقراطيات هي الخاسرة في الحرب العظمى الماضية، ولو أن حاجتها الخطيرة إلى انسجام الرأي ووحدة القيادة في تلك الأوقات العصيبة كان من شأنها أن تنتهي بها إلى مصير موجع فاجع يفقدها أمنها وسلامها ويوردها موارد الهلاك

وعندي انهم من ممكن صياغة جميع المسائل المتعلقة بقيمة الحرية في أسئلة ثلاثة:

هل الشخصية الحرة كعنصر من عناصر الحياة البشرية أنبه شأناً وأنفس قيمة من تلك الشخصية التي تنطبع وتتشكل وفقاً لمشيئة القائد الأعلى الحاكم بأمره في مصادر وموارد الدولة الاستبدادية المطلقة؟ وهل يتوقع لإرادة الفرد الحرة أن تخطو بمصالح البشر إلى الأمام أكثر مما يتوقع لأرادته التي تشب عليها من المهد إلى اللحد على نهج موضوع يصيرها خاضعة لكلمة القيادة العليا خضوعاً غبياً، ومطيعة لأوامر الزعامة طاعة عمياء؟

أو ليس هنالك من ضرر يتهدد الجنس البشري ومن خطر على تقدم المعارف أو انتشار الثقافة ومن خوف على كل شئ نفهمه عن طريق (المدنية) بنشوء هذه الجماعات الغفيرة التي تسير في مناهجها على نمط واحد وتجري في تفكيرها على أسلوب واحد وتنطلق خائفة مذعورة كقطيع من الغنم أمام راعيها؟

وما زال رهن الدراسة وقيد البحث منذ زمن بعيد ما إذا كان عقل الفرد كعنصر من عناصر كيان الحياة البشرية وتوفير الحرية له في التفكير والاستنتاج وتكوين الرأي أغلى قيمة وأكثر نفعاً من عقل هذا الخليط من الكائنات البشرية أو ما يسميه هتلر (بوحدة القطيع)، وعنده أن اتحاد الشعوب البريطانية في الحرب العظمى الماضية كان نتيجة طبيعة لما امتازت به من (وحدة عقلية)، وإن ما صادفته ألمانيا من الفشل في تلك الحرب كان جزاء وفاقاً لشتات الآراء وتقلب الأهواء في الشعوب الألمانية. وغالب أمره أنه لم يفهم إن ما نعمنا به آنئذ من انسجام العقلية كان جني تعاون أعضاء الجماعات الحرة تعاوناً صادقاً للذود عن حياضهم ولإنقاذ حريتهم وقتما ادلهمت الحروب ودق ناقوس الخطر؛ أو أنه لم يدرك أن هؤلاء المواطنين الأحرار قد تخلو عند الشدائد وبمحض أرادتهم عن حقوق كانت صعبة المنال غالية الثمن فكانت أثيرة عندهم عزيزة عليهم، وصدروا في ذهابهم عنها أو ذهابها عنهم عن وجدان سليم وشعور طليق من تكريس حياتهم للصالح العام، وهو شعور كريم لا يتغلغل إلا في نفوس أفراد مارسوا مسائل الحرية مراساً حكيماً وطالت خبرتهم بها فألفوا الاضطلاع بمسؤولياتها. ولقد كان من نتيجة هذا الفهم الخاطئ أن شرع هتلر شريعته عن وحدة عقلية العشائر الألمانية على نهج من الطغيان والاستبداد؛ إذ فرضها على الجماعات جبراً وحملهم عليها بالدعاية تارة وبمجرد الإرهاب تارة أخرى، ظناً منه أن مثل هذا النهج قد ينهض بديلاً عن الانسجام الحر والتعاون الطليق في الشعوب الحرة

وشريعة هتلر هذه لم تكن في مناحيها الحربية والسياسية بأجنبية عن جبلة الشعب الألماني، فهي على استعداد لأن تخضع لسلطان النظام وتتحرك في كتل بشرية مرسومة. وليس في هذه الشريعة من جديد بالإضافة لتك الفطرة الألمانية. إلا إنها قد قضت على حية الرأي وحرية المعرفة وحرية الاستقراء وحرية النقد، تلك الحريات التي اشتهرت بها الفلسفة والعلوم الألمانية وشيدت على أساسها في الأزمان الخالية

إن تقدم المجتمع الإنساني كما أفهمه لم يكن نتاج نظر (الكتل البشرية) أو جنى العمل على توحيد (عقلية الشعوب). وتلك الخطوات التي خطاها الإنسان من بربريته الأولى إلى ما ينعم الآن من مدينته بل وحتى ما تهيأ له من أصغر نصيب منها كانت ثمرة تفكير أفراد عظماء نادوا بها ومهدوا السبيل إليها

وقوام الأمر من قيمة الحرية أن تهيأ لعقول الأفراد الفرصة في مناهضة الرذيلة والجهل، وإن تتقصى مظان الحق. فإذا ما صادفت منها ضالتها أشاعتها في الناس وقائع صادقة وشهدت بصحتها حقائق مقررة من غير تردد أو وجل. وأن تفسح الميدان أمام الفرد للجهاد والإنتاج. وأن تكون من الناحيتين السياسية والاجتماعية الطريق الموصل إلى الخدمة العامة

أو لا يخلص لنا أذن إنها والنظم الاستبدادية منهجان متناقضان ونقيضان لا يجتمعان، وأنها لا بقاء لها مع إرهاب الحاكم بأمره وطغيان المستبد برأيه.

وليت شعري اليوم ما هو نصيب أولئك الرجال الذين بيدهم مقود الصحافة البريطانية من أدراك قيمة الحرية؟؟ وما هو حظ قرائهم من فهم ما انطوت عليه (حرية الصحافة) من مبنى ومعنى؟؟ وحتى ما سيظل جهلهم بهذه الأمور وتهاونهم فيها عاملاً على الحط من قدر الصحافة حتى يتهيأ للشعب أن يظفر من صحافته بحاجته وغنيته؟

قد يصبح الجواب الشافي على هذه الأسئلة والعلاج الناجح لتلك الأدواء أيسر مطلباً وأقرب منالاً لو أنه تحقق لدينا أن غالبية الصحف البريطانية أو حتى أقليتها النابهة قد تولى أمرها وقام بتحريرها رجال ممن قدروا قيمة الحرية قدرها فعرفوا إنها أسمى ما يمتلكه البشر من متاع الحياة.

لقد حان لوقت لأن نرفع ذلك الغشاء البراق الخادع الذي يغشى ثوب مدينتنا (الديمقراطية) ونعمل على أن تظهر حقيقة ما انطوى عليه من لحمة نسجه. وآن الأوان ولا سيما للصحافة البريطانية وللرجال الذين يتولون أمرها لاختبار خيوط هذا الثوب ليعرفوا ما إذا كان قد نسج نسجاً متيناً أميناً في تلك الأيام الخالية أو أنه في وضعه الحاضر وفي حياكته تعوزه متانة الغزل، ويعيبه أنه صنع من خيوط ثياب قديمة عفا رسمها، وافتقدت قوتها.

وقد يقتضي بقاء المؤسسات الحرة والأوضاع السياسية لحرية الفرد إن تعجل بتجربتها وبحثها، وهي كما سماها (إيرل بالفور) (شريان الحياة) الهيئات السياسية بأجمعها. وليس بينها من شئ له من قوة الدلالة على ما اشتملت عليه من معانيها ومبانيها أكثر مما للصحافة الحرة منها، الصحافة التي تحرر من قوامة القيود التجارية أو الصناعية أو المالية مثلما تحرر من الخضوع لأية سلطة سياسية كانت ما كانت. ولعله ما زال هنالك متسع من الوقت أمام صحافتنا وملاكها لأن يتدبروا أمرهم، ويذكروا المواثيق التي تربطهم بالحرية وتربط الحرية بهم فيدللوا عن طريق رعاية هذه المواثيق والإخلاص لها أنهم قد ظفروا بالحل الصحيح لتلك المسألة التي تعتبر بحق (حجر الزاوية من المدينة الحديثة)

(المنصورة)

زين العابدين جمعة