مجلة الرسالة/العدد 442/قيمة الحرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 442/قيمة الحرية

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1941


3 - قيمة الحرية

للصحافي العالمي ويكهام أستيد

بقلم الأستاذ زين العابدين جمعة المحامي

(تابع)

تصبح مدارك الحرية اقتصادية كانت أو سياسية، وهي آراء نسبية أي خاضعة لمقتضيات الظروف. والعلاقة الصحيحة القائمة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية في وقت معين وفي ظروف خاصة هي عندي موضوع يجب أن يعرض في حينه للبحث الحر والدراسة الصحيحة والاستقراء السليم، وليست بتلك المذاهب السياسية أو الاقتصادية الموضوعة. فأصحاب المبدأ الذي نادى بحرية التجارة ورفع القيود الجمركية من ناحية، وأتباع العقيدة المرقصية من ناحية أخرى، مسئولون مباشرة أو من طريق غير مباشر عما أصاب لفلسفة الحرة من كسوف تلك الفلسفة التي كانت دعامة النظر الحر في القرن التاسع عشر. ولو قدر لدعاة الاشتراكية أن يقفوا اليوم وقد تملكهم العجب وحاروا من أثر ما يرونه من مقاومة الحكومات الاستبدادية لإقحام العقيدة المرقصية في روسيا وإكراه الناس على اعتناقها، فإنهم يحسنون صنعاً لو أنعموا في الأمر النظر ليعرفوا إلى أي حد قد يتكشف تحقير المرقصية والاشتراكية لمبادئ الحرية السياسية عن دواعي الشرور التي ألموا لها وبكوا عليها. إن ديكتاتورية الطبقات الدنيا ومذهب صراع الطبقات ليتناقضان مع النظر الفلسفي الصائب مثلما تتناقض معه عقائد الفاشية والنازية؛ إذ لا يتهيأ للناس مع الحكومات الاستبدادية التي تتولى السلطان باسم الطبقات الدنيا أو الطبقات المجردة من الملكية من كفالة العيش والاطمئنان للحياة أكثر مما يتهيأ لهم مع الحكومات الاستبدادية التي تنهض بالحكم على حساب جماعات الشعب الأخرى التي قد يكون لديها من حطام الدنيا ما يفرض عليها أن تفقده ويعز عليها أن تتخلى عنه أو تفقده. ولقد كان هتلر في عبارات قليلة من كتابه (كفاحي) أكثر فطنة وأبعد نظراً منه في تلك العبارات التي عبر بها عن مخاوف الطبقة المتوسطة الضعيفة من أن ترجع القهقرى فيلقى بها في غمار الطبقة الدنيا من الأجراء البائسين التي عملت على الإفلات من التردي في غمرتها. وما أصابه هتلر من النظر الألمعي الذي هداه إلى أن يجعل حركة (الاشتراكية الوطنية) في وضع يتفق إلى حد ما مع رغبات الطبقة المتوسطة الرقيقة الحال الضعيفة الشأن في ألمانيا، لم يكن في واقع الأمر بأقل مما أصابه مرقص والمرقصيون الاشتراكيون الذين أسسوا ما رسموه من خطة للانقلاب الثوري الناجح على عقيدة قوامها أنه إذا تهيأ للطبقات الدنيا في جميع أنحاء العالم أن تتحد وتظفر من وحدتها بقوة لا تقف أمامها قوة، وبسلطان لا يقهره سلطان، وسعها أن تحطم أغلالها وتحقق آمالها. والفاشية والنازية قد طبعتا الظلم بطابع رسمي وهما تحسبان أنهما تذودان عن الملكية وتسهران على حمايتها. ولقد أعرب (دون سالفادور دي مدارياجا) عن حقيقة الأمر في أوجز عبارة ممكنة وبما مرن عليه من قوة البيان ودقة الأسلوب بقوله: (ليست الفاشية سوى صورة للشيوعية تراها العين على صفحة ماء يضطرب من الخوف).

وهنا وكما قصدت أن أبينه تتكشف الحقيقة عن أنه لم يكن بدعاً أن ينتظم هذه السلطات الاستبدادية المطلقة معنى واحد، هو أنها لا تحتمل للصحافة حرية، بل لا بد لها، أن تقضي عليها؛ وأولئك الرجال الذين لا يتأصل معنى الحرية في أنفسهم نتيجة لشعور سليم وإيمان متين غالب أمرهم أن يضيقوا بحرية الصحافة ذرعاً. إلا أننا من جهة أخرى نجد مجرد التشدق بالفضائل الديمقراطية والتمدح بالانضواء تحت لوائها، وهو لا ينهض بديلاً عن الإيمان بالحرية إيماناً صادقاً رشيداً. والحق أن فقر الفكرة السياسية وعقمها في الجماعة والأحزاب القديمة العهد، وفي الأمم التي ما زالت تنعم بحريتها هو من أعظم الشواهد العقلية على ما تكابده من خمول الشأن في زماننا هذا.

ومادام الناس قد كتب عليهم أن تستأثر المادة برغباتهم وتملك عليهم عقولهم ومشاعرهم فلا يعملون إلا لها، ولا يهتفون إلا بها، ويتأصل في معتقداتهم أنهم يعيشون للخبز وللخبز وحده، ومادام أغلب ظنهم أن بيد الاقتصاد السياسي مفاتيح الغيب التي تنفتح معها جميع الأبواب لتنفذ منها الحكمة الاقتصادية، فسوف لا تصبح لغة الحرية يوماً ما وهي لغتهم الشعبية. وسوف لا يتحدثون بها بذلك الأسلوب القوي السليم الذي يجري على لسان عظماء القادة ممن يقدرون قيمة الحرية حق قدرها، وإذ يعرفون لها فضلها يؤثرونها لذاتها. ومع ذلك قد تتكشف لهم الحقيقة عن أولئك القوم من رعاع الناس المحتقرين، ومن أعداء البشر من الممولين النهمين، ومن العمال المستضعفين ما برحوا وهم ينعمون بنصيب كاف من الفطنة والرشد يدركون معه أن اختيار النظم الحرة للهيئات الاجتماعية اختياراً موفقاً صائباً لا يستقر في الأفكار والعقائد التي تنادي بها جماعة الشيوعية الاستبدادية من ناحية اليسار، والمذاهب والآراء التي تفرضها الهيئات الفاشية والنازية من ناحية اليمين، بل يجب أن ينهض على المبادئ الحرة المنظمة التي ظلت أعظم ما يصبو إليه النظر، وتنصب عليه التجارب في بريطانيا رجاء النهوض بمدينة الجنس البشري

إننا بحاجة لأن نمعن في تقصي هذا الموضوع والاستزادة من استقرائه ودراسته ما دمنا نترقب ما قد ينتهي إليه من التحكم في حرية الصحافة. وهنا نجد لزاماً علينا أن نتساءل لمَ بلغ تهديدهم للحرية هذا المبلغ الخطير، ولماذا انتهى إلى هذه الحال المروعة؟ ولماذا ضيع أمثال هؤلاء الناس العظام من الطليان والألمان حريتهم واستكانوا للذلة وخضعوا للطغيان؟ ولم يدلنا ظاهر أمرهم على أنهم يفخرون بتلك النظم التي تقضي على كرامة الإنسان وتضيق الخناق على الحرية؟ ولم نرى في بريطانيا هؤلاء القوم من عظماء الرجال العموميين وأصحاب الصحف الخطيرة الشأن الواسعة السلطان يطأطئون رؤوسهم ويطمئنون من نخوتهم أمام دعاة تلك النظم الاستبدادية وقادتها؟ ولم يتعامون عن تلك الجرائم النكراء التي تنادي بمسئولية قادة تلك النظم وهم إلى ذلك يعيرونهم آذاناً واعية ويمجدون أعمالهم؟

والجواب على ذلك هو أنه وقتما ينهض في الشعب نظام استبدادي كالشيوعية الروسية ويطبع نفسه بطابع من القوة الغاشمة والعنف المروع ثم يتأنى له بعون من رجال الشرطة الجبابرة القساة المنبثين في كل مكان أن يسحق الحربتين السياسية والشخصية ويحرم على الناس الملكيات الخاصة، تقف منه النظم الأخرى التي تزعم لنفسها حماية الملكيات الخاصة موقف المعارضة والمناضلة، ثم لا يكون منها هي الأخرى إلا أن تتخذ من سلاح القوة والعنف ومن رجال البوليس السري عوناً لها، لا للقضاء على أولئك الرجال وتلك الأحزاب من شيعة الشيوعية فحسب، بل ولتحطيم سند الحرية وحماتها وممثلي الديمقراطية أيضاً.

زين العابدين جمعة