مجلة الرسالة/العدد 442/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
لعناوين أخرى، أنظر الميتة (موباسان)

مجلة الرسالة/العدد 442/القصص

ملاحظات: الميتة هي قصة قصيرة بقلم غي دي موباسان نشرت عام 1887. نشرت هذه الترجمة في العدد 442 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 22 ديسمبر 1941



الميتة. . .

لجي دي موباسان

بقلم الأديب كمال رستم

أحببتها حباً عنيفاً! لم يحب الإنسان؟ أليس عجيباً ألا ترى في العالم إلا إنساناً! ألا تقوم في النفس إلا فكرة! ولا في القلب إلا رغبة! ولا في الفم إلا اسم! أسم يرقى دواماً!. . . يرقى كماء نبع ثجاج من أعماق نفس ولهى! يرقى إلى الشفاه! نذكره! ونذكره! نتمتم به دائماً، وفي كل مكان كأنه صلاة!

سوف لا أقص قصتنا؛ فليس للحب إلا قصة واحدة! قابلتها وأحببتها! هذا كل ما في الأمر! وعشت عاماً تغمرني برقتها، وتحتويني بين ذراعيها، وتخصني بظرفها وترعاني بلحظها؛ وتلفعني بأدثرتها، وتهمس إلي بكلماتها!. . محاطاً مطوقاً، حبيساً في كل ما يصدر عنها بهذه الطريقة الفاضلة التي لم أحاول أبداً أن أعرف غيرها، ليلاً كان أو نهاراً، حياً كنت أو ميتاً، على هذه الأرض العجوز أو في مكان آخر!

ماتت زوجتي إذن! كيف؟. . . لا أدري!

عادت ذات مساء مطير، يبلل المطر ثيابها، وفي اليوم التالي حملت، واستمرت تشغل حوالي أسبوع لزمت بعده سريرها!

كيف حدث ذلك؟. . . لا أدري!

عادها أطباء. . . وصفوا الدواء. . . ومضوا!. . .

واستحضرت أدوية. . . وامرأة تجرعها إياها!. . .

كانت يداها دافئتين وجبهتها متقدة منداة، ولحظها وامضاً حزيناً. حدثتها وأجابتني! ما الذي قلناه؟ لا أدري!

نسيت كل ما قيل! كله. . . كله!. . . ماتت إذن! وإني لأذكر جيداً آهتها الخافتة. آهتها الأخيرة!. . . وتأوهت الممرضة قائلة: (آه)! فأدركت. . . أدركت!. . .

لا شيء عرفت أكثر من ذلك أبصرت قساً انفرجت شفتاه عن كلمة (خليلتك)! خيل ألي أنه سبها فليس لنا الحق منذ ماتت أن ندعوها كذلك، ولذلك طردته!

وحضر آخر وكان طبيب القلب للغاية، لطيفاً للغاية حق لقد استعبرت عندما حدثني عنها! ولقد أخذ برأي في ألف شيء بخصوص الجنازة، لا أذكر الآن منها شيئاً مطلقاً وإن كنت أذكر جيداً صورة ناووسها؛ وصوت المطرقة حينما أغلقوه عليها!. . . أواه يا إلهي!. . . وووريت. . .! ووريت! هي! في هذه الحفرة! وحضر بعض الناس! بعض الأصدقاء! فررت منهم همت على وجهي طويلاً في الطرقات! ثم عدت أدراجي إلى منزلي؛ وفي اليوم التالي قمت بسفرة طويلة!. . .

رجعت أمس إلى باريس!. . .

وعندما رأيت ثانية غرفة نومي؛ غرفة نومنا! مهادنا أثاثنا، كل ما في هذا المنزل. . . كل ما بقى من حياة شخص بعد موته. . . أصبت برجعة حزن محض! فقمت إلى النافذة وأطلت منها على الطريق!. . .

ولما لم أستطع أن أصبر على الإقامة بين هذه الأشياء، بين هذه الجدران، تناولت قبعتي وخرجت أبغي فكاكا! وفي طريقي إلى الباب مررت بمرآة البهو الكبيرة التي وضعتها هناك، لترى فيها نفس من رأسها إلى أخمص قدميها كل يوم عند خروجها لتتأكد من زينتها كاملة، وأنها تبدو جميلة آسرة من حذائها إلى قبعتها!. . .

وقفت أحدق في هذه المرآة التي طالما عكست صورتها طالما! طالما!. حتى خيل إلى أنها تتراءى فيها!. . .

كنت ثم واقفاً، مرتجفاً، وعيناي مثبتتان على زجاج المرآة، على الزجاج المسطح! الضيق! الرحيب!. . . الزجاج الذي يحتويها بأكملها؛ يتمتع بمشاهدتها أكثر مني؛ أكثر من نظرتي الولهة!. . . خيل إلي أني أحببت هذه المرآة! لمستها؛ ألقيتها باردة أواه! يا لها من ذكرى يا لها من ذكرى!

مرآة مؤلمة! مرآة متقدة مرآة حية! مرآة مروعة!. . . سعداء هؤلاء الذين يحكى قلبهم مرآة؛ يدعون صور المرئيات تنزلق عليها، ويزيلونها متى شاءوا، فينسى كل قلب ما احتواه؟. . . كل ما سر أمامه! كل ما شاهده! كل ما سدد إلي عواطفه!. إلى حبه. . . كم أتألم!. .

وخرجت، وعلى غير وعي! على غير إدراك؛ دلفت إلى المقابر. وثم رأيت رمسها بسيطاً جداً. . . رأيت صليباً من الرخام نقشت عليه هذه الكلمات؟. . .

(أحبتني وأحببتها ثم ماتت)!

كانت هناك! في أسفل! عظاماً نخرة! يا للهول!

لبثت هناك طويلاً، طويلاً. . . ولما أقبل الليل قامت في نفسي رغبة غريبة، رغبة مجنونة، رغبة نفس قانطة! تشوقت إلى قضاء الليلة قريباً منها. . . ليلة أخيرة أذرف دمعي على قبرها!

ولكنهم سيبصرون بي وسيطردونني؛ فما العمل؟. . . نهضت، وأخذت أضرب في مدينة الموتى هذه. . . مضيت! مضيت! كم هي صغيرة هذه المدينة إلى جانب أختها؛ تلك التي نراها، ومع ذلك فالأموات أكثر عدداً من الأحياء.

وأنه لمن المفارقات حقاً أن تكون كل هذه الدور الفخيمة، والميادين الفسيحة؛ كل هذه المساحة الشاسعة للأحياء القليلين، يرقبون النهار ليتنفس، ويكرعون ماء الينابيع وسلاف الكروم، وينعمون بخيرات السهول، بينما لا يكون لكل أجيال الموتى شيء. . . حقل. . . تقريباً لا شيء. تستردهم الأرض. تجعلهم نسياً منسياً. . . تبتلعهم. . . ثم الوداع!. . .

وفي نهاية القبور المأهولة، أبصرت فجأة القبور المهجورة، حيث بليت جسوم الموتى على طول الزمن وتم اختلاطها بالثرى! حيث الصلبان نفسها قد تداعت. . . وحيث يرقد في الغد هؤلاء الذين قدر لهم أن يفنوا. . . مكان مليء بالورود المبعثرة، وأشجار السرو السوداء السامقات. . . حديقة حزينة شاسعة تعيش على جثث البشر. . .

وكنت هناك وحدي فتسلقت شجرة خضراء وتواريت بين أفنانها الغليظة الظليلة كغريق يتشبث بما يصادفه. . .

ولما إحلولك الليل. . . غادرت مكمني ومشيت في خطوات وئيدة في خطوات مخنوقة على هذه الأرض المفعمة بالموتى. . . وأخذت أجول طويلاً طويلاً دون أن أقف لقبرها على أثرها. . . الذراعان ممدودتان. . . العينان مفتوحتان. . .

متلمساً القبور بيدي، بقدمي، بساقي، بصدري، برأسي نفسه. . .؟

مضيت كضرير يتلمس طريقه. . . لمست الأحجار، والصلبان، والنوافذ الحديدية، والتيجان الزجاجية، والأكاليل الزهرية الجافة. . .

ورحت أقرأ الأسماء بأصابعي أمر بها على الحروف. . . يا لها ليلة، يا لها ليلة؟ لم أجد قبرها. . .

وكان القمر غائباً فاستولى علي الخوف، وخوف مروع في هذا المكان الموحش. . . بين صفين من القبور. . .؟

القبور! القبور! القبور. . .!

قبور. . . إلى اليمين وإلى اليسار. . . إلى الأمام وإلى الخلف. . . في كل صوب قبور. . .!

تهالكتُ على واحد منها، لأني لم أستطع أن أتابع السير أكثر من ذلك. . . لأن ساقي كانتا تلتويان. . . أصخت بأذني أصغى لو جيب قلبي. . . أصغي أيضاً لشيء آخر. . . ماذا. . .؟ نبأة مبهمة لا أسم لها. . . أكان ذلك في رأسي المجنونة. . . أكان ذلك في غبش الليل الضارب سجوفه وإسداله أم تحت الأرض الخفية. . . تحت الأرض المزروعة بجثث البشر؟!

كم من الوقت مكثت هناك؟ لا أدري. . . غدوت قعيداً من الخوف. . . أصبحت ثملاً من الرعب. . . على أهبة الصياح. . . على أهبة الموت. . . وفجأة، خيل إلي أن لوح الرخام الذي كنت جاثماً فوقه قد تحرك. . . حقاً، تحرك كما لو كان قد رفع. . . وبفطرة واحدة ألقيت بنفسي على الجدث المجاور. . . وشهدت. . . نعم، شهدت الحجر الذي غادرته قد انتصب واقفاً وظهر الميت. . . هيكل عظمي ليس غير. . .! وإن كان الليل وقتذاك قد نشز على الكون ذوائبه. . . فقد رأيت. . . رأيت جيداً على الصليب هذه الكلمات: (هنا يرقد (جاك أوليفان) المتوفى في الواحدة والخمسين من سني حياته، كان محباً لذويه، شريفاً، طيب القلب. . . وتوفي إلى رحمة الله. . .!)

ولما قرأ الميت هذه الكلمات المنقوشة على قبره، انحنى إلى الأرض، والتقط قطعة من الصخر. . . قطعة صغيرة مدببة. . . واخذ يزيل هذه الكلمات بعناية ودقة. . . أزالها عن آخرها ببطيء وهدوء، محدقاً بعينيه الواسعتين في المكان الذي كان منذ برهة متوارياً فيه. . . وبطرف العظمة التي كانت يوماً ما سبابته. . . كتب بحروف براقة لامعة: (هنا يرقد (جاك أوليفان) المتوفى في الواحدة والخمسين من سني حياته، تعجل بقسوة قلبه موت أبيه ليرثه، عذب زوجه، أشقى أولاده، خدع جيرانه، سرق كل ما استطاع سرقته، ومات شقياً. . .!)

. . . ولما انتهى الميت من كتابته أخذ يشهد نتيجة عمله. . . ولاحظت في عودتي أن كل القبور قد فتحت، وأن كل الهياكل العظمية خرجت منها، وان الجميع مسحوا تلك الأكاذيب التي خطها ذووهم على قبورهم ليوهموا على الناس؛ ورأيت أنهم كانوا جميعاً قساة القلوب، حقودين، مرائين، كذابين، خبثاء، مفترين، حساداً. . . رأيت أنهم سرقوا وخدعوا وارتكبوا كل الأفعال المخجلة، ووصموا بكل خلق دنيء. . . وهؤلاء الآباء الطيبون. . . هؤلاء الزوجات الوفيات. . . هؤلاء الأبناء المخلصون. . . هؤلاء الحفيدات العفيفات. . . هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء. . . لا لوم عليهم جميعاً، لأنهم لا يستطيعون أن يقرروا الحقيقة المؤلمة. . .!

وراحوا جميعاً يخطون في وقت واحد على عتبة مسكنهم الأبدي الحقيقة القاسية، الحقيقة المروعة، الحقيقة المقدسة، التي يجهلها الجميع أو يتجاهلونها وهم على قيد الحياة. . .!

وأيقنت أنها لا بد قد قامت تكتب على جدثها، وبدون أدنى خوف الآن. . . فركضت وسط التوابيت نصف المفتوحة، وسط الجثث، وسط الهياكل العظمية. . . مضت إليها واثقاً أني سأجدها في الحال. . . ورأيتها من بعد. . . من غير أن أستجلي وجهها، لأنها كانت قد غطته بالكفن. . . وعلى الصليب الرخامي الذي قرأت عليه منذ برهة:

(أحبتني وأحببتها ثم ماتت!)

لمحتها تكتب: (خرجت يوماً لتخون زوجها، فأصابها برد تحت شؤبوب منهمر وماتت!)

ورأيتني أهوى إلى الأرض مغشياً عليّ. وفي اليوم التالي وجدوني مسجى إلى جانب مقبرة. . .!

(المنصورة)

كمال أحمد رستم