مجلة الرسالة/العدد 44/في الأدب الفرنسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 44/في الأدب الفرنسي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1934



الدوق دي لاروشفوكو

للدكتور حسن صادق

كتب اديب فاضل في عدد الرسالة الغراء رقم (40) يقول ان السبب الأول في سقوط روايات كورني الاخيرة يرجع إلى غلو هذا الشاعر (في مبدئه الذي يعنى بتصوير الاشخاص كما يجب أن يكونوا، فجاءت شخصيات قصصه الأخيرة خارجة عن حدود المعقول)، لا إلى اضمحلال قواه الذهنية من أثر الهرم كما ذكرت في مقالي عن هذا الشاعر العظيم. وأعتقد اني محق فيما ذهبت إليه لأن كورني قال عن نفسه بعد فشل قصصه الأخيرة (شعري ذهب مع اسناني)، ولأن شخصيات قصصه الأولى الخالدة كالسيد وهوارس وسنا تعلو على الضعف الإنساني وعلى الرغم من ذلك أبلغت الشاعر قمة المجد وأكسبته لقب: كورني العظيم.

ثم قال الأديب الفاضل ان كلمات فولتير: (الشرح الوحيد لكتب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في أسفل كل صحيفة! جميل. جليل. إلاهي!)، على ما جاء في كتب الآداب الفرنسية، قيلت في راسين لا في كورني. وأصر على أن فولتير الذي عرف بالبخل الشديد دفعه اعجابه بكورني إلى أن يتبنى ابنة اخته ويزودها بمهر ثم يزوجها. ولم يكفه هذا بل نشر كتبه وشرحها إمعانا في اظهار إعجابه بالشاعر الأكبر، وكتب في مقدمة شرحه تلك الكلمات. وأرجو من الأديب الفاضل ان يتفضل بإرشادي إلى كتب الأدب التي ذكرت أن فولتير قال تلك الكلمات في راسين لا في كورني وله مني وافر الشكر.

والآن نتحدث عن الدوق دي لاروشفوكو الذي شغل أذهانس الناس في عصره وأقلام الكتاب والنقاد في العصور العصور التالية. ولم يخرج هذا الرجل للناس من الآثار الأدبية غير مذكراته شأن أمثاله النبلاء الاغنياء، وكتاب صغير الحجم عنوانه: (مواعظ أو تأملات وأحكام أخلاقية) جمع فيه كل آرائه في العواطف الإنسانية، بعد أن خيبت الحياة أماله ودكت أحداث الزمن صروح أحلامه، وذهبت الحقيقة المريرة بأوهام طموحه، فجاءت هذه الآراء معتمة حزينة تلقى على عواطف الإنسان رداء من الشك الأليم وتظهرها في صورة بشعة مخوفة، وهي تتلخص في كلمتين: فلسفة الاثرة، وهذه الفلسفة هي التي حركت الاقلام وأثارت المناقشة، وألقت باسم صاحبها إلى الاجيال في إطار الخلود.

ولا يستطيع الإنسان ان يفهم (مواعظ) هذا الكتاب إلا إذا درس حياته وعرف الحوادث التي اشترك فيها، وتركت في نفسه أثرا عميقا. وهذا السبب سيدعونا إلى الاطالة والتفصيل.

وسنقسم حياته إلى أدوار ثلاثة: دور الشاب الخيالي، ودور الرجل الطموح، ودور الشيخ الفيلسوف.

الشاب الخيالي

ولد فرانسوا السادس دوق دي لاروشفوكو بباريس (شارع بتي شان) في 15 سبتمبر عام 1613. وهو من أسرة عريقة لها تاريخ حربي مجيد، وتملك ثروة طائلة في (بواتو وانجوموا)، ومقام آل روشفوكو يلي مباشرة مقام أمراء البيت الملكي. وقد كتب في عام 1648 إلى الوزير مازاران يقول: (أستطيع أن أقول وأثبت أن ملوك فرنسا منذ ثلاثمائة سنة يعاملوننا معاملة ذوي الرحم، لا يجدون في ذلك عيبا ولا بأسا) وهذا يدل على مبلغ اعتزازه بأسرته واعتداده بأرومته.

ولما حان وقت تعلمه، أخذ منه في الريف قسطا ضئيلا، إذا اتجهت عناية أهله إلى التمرينات الجسدية ليجعلوه من حملة السيف شأن أبناء النبلاء في ذلك العصر. ثم زوجوه وهو في الخامسة عشر من فتاة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير جزيل، هي (أندريه دي فيفون). وقد قال في كبره: (يوجد زواج طيب، ولكن لا يوجد زواج عذب شهي). وما لبث بعد زواجه أن اتبع هذا الرأي قبل أن يقوله، وبحث خارج بيته عن ضرورة اللذة التي لا تهيئها العيشة الزوجية. وتناهت أخباره إلى امرأته، ولكنها صانت عفتها، ولم يتألفها العبث من نفرتها. وأنجبت له أولادا ثمانية.

ثم خاض أول معركة حربية في إيطاليا وهو في السادسة عشرة من عمره. ولما عاد منها دخل البلاط الملكي. وكان الفن السائد فيه كما قال فولتير، هو تدبير الدسائس لقهر الوزير الكبير الكادردينال ريشليو. فاستدرج هذا الفن فرانسوا ودفعه إلى أحضان النبلاء الذين كانوا يئنون من سلطان الوزير ويأتمرون به في كل حين. ورأى بعينيه سطوة الوزير وأنواع العذاب الذي ينزله بهؤلاء النبلاء ليخضعهم للقانون العام، ولكنه لم يجبن ولم يرجع عن سبيله.

وكان في ذلك الوقت كثير الكبرياء، طموحا بلا غرض معين، حي الذهن، دقيق الملاحظة، خجولا كلفا بالخيال، شديد الميل إلى مجالس النساء. وقد لازمه هذا الميل طيلة عمره. وعقب دخوله البلاط اتصل بأحب فتيات الملكة (آن دوتريش) إليها، وهي الآنسة دي هوتفور التي يحبها الملك لويس الثالث عشر حبا افلاطونيا. وهذه الصلة عبدت له الطريق إلى اكتساب ثقة الملكة البائسة المضطهدة من جراء الريبة في نيتها وأغراضها. وقد سببت له هذه الثقة ضررا كبيرا، كما ذكر في مذكراته: (أسباب أتفه من هذه كانت كافية لان تبهر نظر الرجل لم يسبر غور الحياة، وتدفعه في سبيل ضارة بمصلحته، وقد جلب على هذا السلوك غضب الملك والكاردينال ريشلييه، وسلسلة طويلة من المحن أدخلت الاضطراب على حياتي).

وفي عام 1633 سافر مختاراً مع شبان الطبقة العالية إلى محاربة الأسبان في الفلاندر، وأظهر ساحة القتال من ضروب البسالة والاقدام ما أثار الاعجاب. ولما عاد من الحرب، أمر بمغادرة باريس والاقامة في أملاك أبيه، لأنه اتهم ظلما بأنه أفشى جميع ما دار في الموقعة. ولكنه أدرك ان الملك أصدر هذا الأمر انتقاماً منه لصلته بالملكة والقهرمانة دى هوتفور.

حرم عليه دخول الحاضرة اربعة اعوام. وهيأت له المصادفة التعسة أثناء ذلك مقابلة الدوقة دي شفريز، شيطانة الدسيسة كما سماها سانت بيف، وعقد أواصر الصداقة معها. وقد وصفها الكادينال دي رتز بأنها (كانت تحوك الدسائس، لأنها جاءت في عصر الخداع والختل. ثم اتصلت بالدوق بوكنجهام والكونت دي هولاند فدفعاها في هذه السبيل، فاستفادت لأنها كانت تفعل كل ما يسر حبيبها. وكانت دائمة الوفاء للغرام، كثيرة التغيير للموضوعة. وإني لم أر إنسانا اقل اكتراثا للأخطار، ولا امرأة أكثر احتقارا للواجب منها. ما عرفت في حياتها غير واجب وأحد: هو أن تحصل على إعجاب صاحبها بها).

وكان ريشليو قد أبعدها إلى (داميير) حتى يقطع الصلة التي بينها وبين الملكة، ولكنها كانت تأتي لزيارته خفية، وتمهد لها طريق الاجتماع بالدوق بوكنجهام الانجليزي في حديقة اللوفر. وعرف ريشليو هذه الأخبار فأبعد الدوقة إلى التورين، وهناك قابلت لاروشفوكو، واستطاعت بدهائها أن تستخدمه رسولا بينها وبين الملكة. ولم تقف عند هذا الحد، بل نظمت مراسلة سرية خطرة بين ملكة فرنسا وملك أسبانيا. وعرف ذلك الوزير الساهر على مصلحة بلاده، فأوعز إلى الملك ان يطلق زوجه ويخرجها من الارض الفرنسية.

ولما شعرت الملكة بعزم الكاردينال، استدعت لاروشفوكو وتقدمت إليه ان يسهل لها طريق الهرب إلى بروكسل. وهو يقول في مذكراته عن هذه الحادثة: (لما وقعت في هذا المأزق لم تجد وفيا لها غيري وقهرمانتها الآنسة دي هوتفور، فعرضت على أن أختطفهما وإذهب بهما إلى بروكسل. وقد بعثت أخطار هذا العمل والصعاب التي تقوم في وجه إنفاذه سرورا كبيرا في دخيلتي. كنت في سن تحبب إلى الإنسان أن يأتي أعمالا خارقة ذات دوي عظيم. ولم أجد عملا يرضي هذا السن أكثر من اختطاف ملكة من زوجها، وفتاة من ملك يهواها).

ولكن ريشليو أحبط هذه الخطة، وآلم الملكة جد الألم. وخافت الدوقة دي شفريز بطش الوزير فاعتزمت الهرب. وكانت تجيد ركوب الخيل، فغادرت مدينة (تور) في زي رجل، ومعها خادمان وكان ذلك في السادس من شهر سبتمبر عام 1637. ولما صارت على مسيرة فرسخ من (فرتي) التي التجأ إليها لاروشفوكو، أرسلت إليه تقول إنها رجل من النبلاء اضطر إلى الهرب عقب مبارزة، وتسأله أن يرسل إليها عربة مقفلة وبعض الخدم. وما أن ألقى على الرسالة نظرة حتى عرف خطها، ولكنه لم يستطع الذهاب إليها لأن ضيوفه أرادوا أن يصحبوه. وأرسل إليها في الحال ما طلبت، فسارت آمنة حتى بلغت حدود أسبانيا. ثم أرسلت إليه جميع حليها وقيمتها 200000 دينار راجية منه أن يقبلها منها هدية إذا قضت نحبها، أو يردها إليها في أحد الأيام إذا قدر لها ان تعود إلى بلادها.

وقد ذكر مسألة الحلي في مذكراته للدلالة على الثقة التي يلهمها وفاؤه، مع انه ينكر في كتاب (مواعظه) الثقة النقية الخالصة ويقول: (ليس لنا أن نفخر باكتساب ثقة هي دائما مشوبة بالغرض) وذكر أمامه أحد أصدقائه جاك اسبريه هذه الحادثة وقال يداعب صديقه في شيخوخته: (مما يثير العجب أن يفخر الإنسان بأن أميرة لجأت إليه ووضعت بين يديه حياتها وحريتها، مع أنها لم تفعل ذلك إلا خشية الوقوع في يد العدالة، وأن يفخر بأن هذه الأميرة ائتمنته على حليها الثمينة وهي خارجة من وطنها، مع انها لم تفعل ذلك إلا في سبيل مصلحتها الذاتية، أي حرصا على مالها وخوفا عليه من السرقة في الطريق!) وهذا رد ساخر على كتاب لاروشفوكو الذي يرجع كل العواطف الإنسانية إلى مصدر وأحد هو: المصلحة الذاتية أو الاثرة.

ثم عرف ريشليو أن لاروشفوكو ساعد الدوقة على الهرب فاستقدمه إليه وأنبه. ولما رأى منه غلظة في الاجابة على أسئلته، أرسله إلى سجن الباستيل، ولكنه أمر مدير السجن بأن يتلطف في معاملته ويسمح له بالاستراضة على الشرف كل يوم. وبعد مرور ثمانية أيام على سجنه، أطلق سراحه فحمد الله على خروجه بعد هذه المدة الوجيزة في عهد حرص الباستيل فيه على حرفائه، وأنساه شعوره برضى الملكة وقهرمانتها والدوقة عن عمله، مرارة السجن قسوته.

وعقب استرداد حريته أمر بمغادرة باريس والاقامة في (فرتي) وهناك جاءه رسول من الدوقة وتسلم منه حليها، وعاش في ذلك لريف عامين هادئاً مطمئنا، وأصبح بيته ملتقى النبلاء والعظماء. وقد ذكر هذا العهد في مذكراته فقال (كنت شابا في ذلك الوقت، وكان الملك ووزيره يدانون رويداً من القبر، فرجوت أن أحصل على خير كثير بعد موتهما وتغير الحال. وكنت سعيداً في أسرتي، أحظى بكل مسرات الريف وأجد حولي كثيراً من النبلاء الأغنياء المغضوب عليهم من الوزير، لهم مثل أماني وآمالي). وهنا يظهر الرجل الطموح في ثوب الشفيق على ملكة تعسة.

ولما دارت رحى الحرب في (البلاد الواطئة)، سمح له بالانضمام إلى الجيش بعد طول إلحاحه، وأبلى بلاء حسنا في موقعتي سان نيقولا وسان فينان. وعرض عليه ريشليو رتبة سامية مكافأة له على بسالته فرفض إذعانا لأمر الملكة، إذ كان في نيتها إن تجنبه قيد الوزير حتى يستطيع أن يسل سيفه في وجهه لما تمكنها الظروف من إشهار عداوتها له.

يتبع

حسن صادق