مجلة الرسالة/العدد 44/حبل الأبد في الأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 44/حبل الأبد في الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1934



بقلم امين نخلة

في كفة الغروب أمس، بعد ان مال ميزان النهار، وغشى السواد الشفق، كنت أسألهم إلا يوقدوا المصباح في وجه الليل. بل ندع العتمة تتساقط على مهل وتتلبد، حتى إذا غمر السواد الجهات، غرق عبث الحياة في الليل، وسلم الأمر. . . هل مطلبي من الحياة غير هذا؟!

ثم اشرف من النافذة، فإذا المدينة قطعة واحدة في جوف الليل. خفى الشتات، وتألفت الدقائق، ومسح على الفضول. فلست أرى ما يتعالى في المشهد الأسود المنطرح إلا ذؤابات الأبنية تشمخ، وكأن بعضها في رأي العين يمشي إلى بعض، فتتلاقى وتتساند بعد البياض الفاني، والعبث المولى!

وهذا قمر الليل، يقهقه بلا صوت. . . ولقد جنح إلى المنحدر الاخر، كأنما يزلق من هنالك، فتدفق الفضة دفقا، غير العهد بها في مقاطر الصحو الازرق، حين تنقط ولا تبل الارض!

والليل فهرس البياض المنطفئ، ترى فيه العناوين، وعفاء على الحروف الضئال، والتنقيط المنمنم في كتاب النهار. فالعمود البعيد القائم الساعة ناحية الجنوب، ولا أتبين ما حواليه، عنوان طويل لبناية المسجد، ولقد خفيت المقالة وسلم العنوان. . .

وإننا في الأدب على أعقاب جيل مال ميزانه، وطفقت العتمة تتساقط عليه، فعما قليل تغمر نوافله، وتبتلع توافهه. ولا يسلم منه في الغرق الاعظم إلا العناوين الجديرة بالسلامة! ويسلم القمر ذو القرص الباقي، والشعاع المجدد

كنا في (الباروك) (1) - في مطلع الصبى - نجول بالضاحية، حيث كان (لامرتين) يهبط الخضرة والفيء على الينابيع. أو نصعد في الهضبات حيث مر جواد (ابي الطيب). . . (وعقاب لبنان وكيف بقطعها) فيقول وأحدنا للرفقة:

- ترى أي شئ من هذا الريف لفت صاحبنا؟!!

وكنا بعد لم نتعلم التريث في الجواب، فتنطلق الأجوبة في الرفقة كما يهتاج العش! فالطاحون الذي يهدر حتى آخر الأبد عند الشجر، كأنما يهوم للجمال الأخضر فينعس وينام، وقد افتن به (لامرتين) ولا ريب! وافتتن بالبحيرات الصغيرة التي يبسطها النهر بين مرجين حين يتهمل - وهي لا تبرح إلى اليوم تنتظر (صاحب البحيرة!) وبدرب النهر ساعة تحدر الفلاحات بالجرار الحمراء في العشايا، ويسلن فوجا غب فوج، فيغدو الدرب نهراً للاحاديث والغبطة يدفق من الضيعة إلى الوادي. . .

أما (أبو الطيب) وهو لم يعرج على الباروك في (وعقاب لبنان وكيف بقطعها) فقد كان حسبنا منه، ان يلتفت في رأس الجبل إلى خيمة الناطور التي تتلاقى عليها عيون القرويين من كل حقل. فيثنى رأس جواده، ويطل من شاهق - وهو الشتاء (2) - على البساط الأبيض الذي نقيم عليه أيام الثلج في (الباروك)! كذلك كنا في الصبى الاول، نحسب الدنيا تبتدئ. ويخيل الينا ان (لامرتين) كان عندنا أول أمس، وكان (أبو الطيب) أول من امس. وأن خيمة الناطور تلك، وطاحون الوادي، ودرب النهر، معالم ثابتة على الزمن، بذهابها ذهاب الباروك والينابيع والربوات والشجر وهاتيك الدنيا الصغيرة!! فلما كبرنا عن الصبى وكبرت الدنيا وصغرت (الباروك) - وكانت خيمة الناطور قد سقطت وانهد الطاحون، وعفت الدروب على النهر - لم يذهب من القرية شئ! بل ظلت لنا (الباروك) قرية بنهر وجبل وضاحية، كما كان عهدنا بها اول العمر. ذهب النافل من ذلك الجمال الباروكي في غرق الأيام وعتمة السواد، وسلم ما ينبغي له. فلو مر جواد (ابي الطيب) في رأس الجبل لثناه راكبه، وقف يتلفت! ولو نزل (لامرتين) بين البحيرات والدروب لآنس نعيما ظلا واخضراراً.

هكذا نقول لأصحابنا في مشادة العبث بين (القديم والجديد)، فالزمن يمسح النافل، ويبقى على المحتم النافع. وليس في الأدب قديم ولا جديد، بل الأدب كد على الحق، ووله بالجمال. تسقط عتمة الآباد ألف مرة على الصنيع الفني الذي غمس بألوان الوله والكد وهو السالم الباقي لا يأخذ الليل منه حرفا!

فالحسن حسن على كل جيل. والتافه تافه أبداً. ما أخر القدم قيد شبر، ولا قدمت الجدة قلامة ظفر.

ولقد سبقنا إلى الدنيا، وجاءها أناس كلفوا بالجمال والحق. وداروا على اللباب في الدروب. فآنسوا نارا ثم ألفوها ونزلوا رماداً. فكيف يسوغ لنا، ونحن في الدرب من ورائهم، ان نقطع ما بيننا وبينهم، ويقال أدب قديم وأدب جديد؟؟!

ان الكدح القاسي في صعيد الفكر، والتضحية السمحة على مذبح (فينيس)، والتنقيب في بياض الصحيفة عن الدنا المنحجبة، كل هذه عرفها الرصيف القديم (بين الدخول فحومل. . .). .

فطلب البلاغ الحر، وقلب النسق في الصنيع الفني، وإبدال ألوانه وصبه على شكيلة الحياة القائمة كانت في وكد الاساتذة السالفين جيلا تلو جيل. وهكذا يقال في شيوع الخاطر من المستهل إلى المقطع، وفي تماسك الحسن الذي لا يبذل للنور نفسه، وفي الميسم المطبوع والنفس الخاص، وفي المعنى الذي يسكن المبنى ولا يمد ساقيه على بحبوحة اللفظ - ذلك كله كان من أغراض الأساطير فيهم، يوفقون إليه حينا وينكصون عنه حينا. فليس الأدب ابن يومه، ما خطرت مطالب الحياة منه على بال أحد في الزمن لتقوم الضجة علينا، ويتنادوا بالويل بعد أن اردنا الأدب حياة وقوة وخفق جناح. . وأطفأنا الشمس بأكفنا!!!

وعندي ان الاساتذة الموتى الذين سلكوا السبيل قبلنا - وكأنهم مضوا ليفسحوا لنا المواضع - من حقهم ان يطرقوا خواطرنا، وان يرشفوا قليلا من الحياة في ألفاظنا. فهم، رحمهم الله، لم يبق لهم من سبيل إلى الضياء إلا هذه الحروف التي تشع فيها خواطرنا هذا حبل الابد هيهات ان ينقطع. والأدب بشرى قبل كل شئ، فليس في استطاعة أحد ان يقطع الحبل! والأدب أخو الحياة لا قديم فيه ولا جديد، بل هو وله الجمال وكد على الحق، وما عداهما فهراء!؟

لبنان

امين نخلة