مجلة الرسالة/العدد 44/بديع الزمان الهمذاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 44/بديع الزمان الهمذاني

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1934


5 - بديع الزمان الهمذاني

للدكتور عبد الوهاب عزام

عقيدته

وكان سني الاعتقاد يكره المعتزلة ويلعنهم قال في ديوان متغزلا:

ذات جفون ضعفت ... كمذهب المعتزلة

وله قصيدة يرد فيها على الخوارزمي قوله في الصحابة. ومن هم اجل ذلك اتهم في نيسابور بميله عن العلويين، فبرأ نفسه وروى لهم من شعره في رثاء الحسين، فهو على حبه آل البيت لا يذهب مذهب الشيعة في الخلافة وما يتصل بها. يقول في الديوان:

يقولون لي لا تحب الوصي ... فقلت الثرى بفم الكاذب

أحب النبي وأهل النبي ... وأختص آل أبي طالب

وأعطي الصحابة حق الولاء ... وأجري على السنن الواجب

فأن كان نصبا ولاء الجميع ... فأني كما زعموا ناصبي

وان كان رفضا ولاء الوصي ... فلا يبرح الرفض من جانبي. الخ

في رسائله واحدة كتبها إلى بعض الوزراء يشكو من ظهور التشيع في هراة ويحذر ان يصيبها ما أصاب نيسابور وقم والكوفة: (ورجع صاحبي آنفا من هراة فذكر انه سمع في السوق صبيا ينشد ان محمداً وعلياً، لعنا تيماً وعدياً. فقلت ان العامة لو علمت معنى تيم وعدي، لكفتني شغل الشكاية، وولي النعمة شغل الكفاية، ويل أم هراة، أنصب الشيطان بها هذه الحبالة، وصرنا نشكو هذه الحالة. والله ما دخلت هذه الكلمة بلدة إلا صبت عليها الذلة، ونسخت عنها الملة، ولا رضي بها أهل بلدة إلا جعل الله الذل لباسهم، وألقى بينهم بأسهم. هذه نيسابور منذ فشت فيها هذه المقالة في خراب واضطراب الخ)

أدبه

قدمت في المقالات الماضية طرفا من سيرة الهمذاني وأخبار أسرته وأحوال عصره، وأبين الآن عن أدبه: نثره وشعره

كان أحمد بين الحسين الهمذاني أعجوبة في ذكائه وحفظه، فتيسر له علم واسع باللغة والأدب. وهو يقول في حديثه عما شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزمي: (فقلت يا أبا بكر هذه اللغة التي هددتنا بها وحدثتنا عنها، وهذه كتبها وتلك مؤلفاتها، فخذ غريب المصنف ان شئت، واصلاح المنطق ان أردت، وألفاظ ابن السكيت ان نشطت، ومجمل اللغة ان اخترت، فهو الف ورقة، وأدب الكاتب ان اردت، واقترح على أي باب شئت من هذه الكتب حتى اجعله لك نقدا، واسرده عليك سردا، فقال اقرأ من غريب المصنف رجل ماس خفيف على مثال مال وما أمساه فاندفعت في الباب حتى قرأته فلم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه، ثم قلت اقترح غيره، فقالوا كفى ذلك، فقلت له اقرأ الآن باب المصادر من أخبار فصيح الكلام ولا اطالبك بسواه، ولا اسألك عما عداه، فوقف حماره، وخمدت ناره، وقال الناس اللغة مسلمة لك أيضاً فهاتوا غيره، فقلت يا أبا بكر هات العروض، فهو أحد أبواب الأدب وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها، وعللها وزحافها، فقلت هات الآن فأسرد كما سردته. . .).

وقد أعجب الناس بذكائه وبديهيته، وتحدى هو الناس بهما فجاءه كثير من منشآته عفو البديهية، ولو روى فيه لجاء خيراً من ذلك.

قال الثعالبي في اليتيمة: (ولم ير ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فانه كان صاحب عجائب، وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان شديد القصيدة التي لم يسمعها قط، وهي أكثر من خمسين بيتاً، فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفا ولا يخل معنى، وينظر في الاربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهد بها من ظهر قلبه هداً، ويسردها سرداً. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها. وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو انشاء رسالة في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها. وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطر منه ثم هلم جرا إلى الاول، يخرجه كأحسن شئ وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من انشائه، فيقرأ من النظم والنثر، ويروي من النثر والنظم، ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة. . . وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية بالأبيات العربية فيجمع فيها بين الابداع والاسراع، إلى عجائب لا تحصى، ولطائف تطول ان تستقصي).

لدينا من آثار الهمذاني ديوانه ورسائله ومقاماته. فأما الديوان فيتضمن زهاء ثلاثمائة والف بيت، منها ست وثلاثون قصيدة وقطعة من المدح مدح بها من الملوك والأمراء: شمس المعالي قأبوس بن وشمكير، والسلطان محموداً الغزنوي، وبنى فريغون وخلف بن احمد، وبني ميكال. ومن الوزراء الصاحب بن عباد، وأبا نصر بن زيد - ومدح جماعة من رؤساء جرجان ونيسابور ونسا وهراة. وهو يجري في المدح على السنن المعروف، ولكنه لا يلتزم الغزل في أول المدائح، ولا يطيل في معظمها.

ومن جيد شعره في المدح القصيدة التي أولها:

على إلا أريح العيس والقتبا ... وألبس البيد والظلماء واليلبا الخ

وقوله في بني فريغون:

ألم تر أني في نهضتي ... لقيت الغنى والمنى والأميرا

ولما التقينا شممت التراب ... وكنت أمرأ لا اشم العبيرا

لقيت امرأ ملء عين الزما ... ن يعلو سجايا ويرسو ثبيرا

لآل فريغون في المكرمات ... يد أولا واعتذار أخيرا

إذا ما حللت بمغناهم ... رأيت نعيما وملكا كبيرا

وأما الغزل فيه غير ما في قصائد المدح ست قطع تحوي وأحداً وعشرين بيتاً. والبديع ليس غزلا، ولكنه حاكى الشعراء في ضرب ألفوه وافتنوا فيه وعدوه من فروض الشعر.

وله قطع في وصف الاسد، والليل، والمجمر. . وقطعته في وصف الليل نموذج من شعره المرتجل. ارتجلها حين اقترح عليه الموضوع والقافية:

أنعت ليلا ذا سواد كالسبج ... مخدر الصبح خدارى الدعج

أدرج العالم فيه لا ندرج ... أو نسج الحرمان منه لا نتسج

ليلا حرون النجم قاري النهج ... العمر فيه نقطة لو انفرج

والدهر من اجزائه ولا حرج ... أيسر ما فيه الشهور والحجج الخ

ويجود شعر الهمذاني في الرثاء والمواعظ. وفي ديوانه ست مرات إحداها في واقعة كربلاء، وله اثنتان وعشرون قطعة صغيرة في المواعظ تنبئ بما في نفسه من الانقباض والحزن والتشاؤم كما قدمت في الكلام عن أخلاقه. ومن مرثية الحسين بن علي:

يالمة ضرب الزمان ... م على معرسها خيامه

لله درك من خزامي ... م روضة صارت ثغامه

فوربه قامت به ... للدين أشراط القيامة

لمضرج بدم النبوة ... م ضارب بيد الإمامة

متقسم يطأ السيوف ... م مجرعا منها حمامه

منع الورود وماؤه ... منه على طرف الثمامة. الخ

وقد قدمت آنفا مرثية الخوارزمي التي أولها:

حنانيك من نفس خافت ... ولبيك من كمد ثابت

ويقول في المواعظ، وهو في هذا يشبه أبا العتاهية:

يا حريصا على الغنى ... قاعدا بالمراصد

لست في سعيك الذي ... خضت فيه بقاصد

ان دنياك هذه ... لست فيها بخالد

بعض هذا فإنما ... انت ساع لقاعد

ويقول:

يا قلب ما أغفلك ... عن حركات الفلك

ويحك هذا الردى ... اليك يسعى ولك

انت على سفرة ... يشيب منها الحلك

من انتحى نهجه ... بغير زاد هلك

ويقول:

أجدك ما تنبه للمنايا ... كأنك واجد عنها ملاذا

لذاك على الغنى تزداد حرصا ... وفي حلبات سكرتها نفاذا

هب الدنيا تحقق ما ترجي ... من الآمال ويحك ثم ماذا؟

ونراه يتكلم بلسان الصوفية في القطعة التي أولها: ان لله عبيدا ... في زوايا الارض غبرا الخ

ويقول في صديق له حبس:

مالي أرى الحر ذاهبا دمه ... ولا أرى النذل ذاهبا ذهابه

أفلح من لؤمه وسيلته ... وليس ينجو من جرمه حسبه

من شاء إلا يناله زمن ... فليكن العرض جل ما يهبه

أراحنا اله منك يا زمنا ... أرعن يصطاد صقره خربه

يا ساغبا جائع الجوارح لا ... يسكن إلا بفاضل سغبه

يا ضرماً في الانام متقدا ... والجود والمجد والندى حطبه

يا صائدا والعلى فريسته ... وناهبا والجمال منتهبه

يا سادتي لا تلن عظامكم ... لعضة الدهر ان يهج كلبه

بل هو حين يحض على التمتع بالدنيا، واهتبال فرص العيش ينم عن حزن وتشاؤم يذكرنا بعمر الخيام فإنما يلهو لينسى تباريح الحياة

إنما الدهر الذي يص ... دقني حر المصاع

كالني مدا وأجزي ... هـ من الحلم بصاع

فاغنم الأيام ما أل ... فيتها خضر المراعي

إنما نحن من الده ... ر بواد ذي سباع

لا تدع من لذة العي ... ش عيانا لسماع

ويقول في قصيدة يمدح فيها أبا جعفر الميكالى:

نستبيح الدهر والأي ... ام منا تستبيح

ضاع ما نحميه من أن ... فسنا وهو يبيح

نحن لاهون وآجال ... المنى لا تستريح

يا غلام الكاس فاليأ ... س من الناس مريح

أنا يا دهر بأبنا ... ئك شق وسطيح الخ.

وللهمذاني قطع كثيرة في الالغاز والمعميات، وكان الرجل نادرة في الذكاء والبديهة فكان يختبر الناس ويختبرونه بهذا الضرب. وفي الديوان منه اثنان وعشرون، ويكثر في شعره الترجمة عن الفارسية. وفي الديوان ثلاث عشرة قطعة مترجمة عن هذه اللغة. وكانت الترجمة بين العربية والفارسية سنة شائعة بين متأدبي المسلمين في ايران وما يجاورها، وإذ كان الشعر الفارسي قد بلغ اشده، وكانت العربية لا تزال لغة العلم والأدب. وكثير من شعراء هذا العصر وما بعده نظم باللغتين، ولقب ذلك بذي اللسانين، وفي يتيمة الثعالبي أمثلة من هذا. وهذه الترجمة تهم دارس الأدبين العربي والفارسي. ولكن يقلل خطرها اننا نجد الترجمة ولا نجد أصلها، ولم اعرف من الشعر الفارسي الذي ترجمه البديع إلا قطعة أثبتها محمد عوفي في كتاب لباب الألباب في ترجمة المسطقي الشاعر الفارسي، ويقول عوفي ان الصاحب بن عباد أمر البديع بترجمتها، فقال على أية قافية؟ فقال الطاء. قال ومن أي بحر؟ قال أسرع يا بديع، في البحر السريع، فترجمها ارتجالا والأبيات:

بك بوي بد زويدم أزدوزلفت ... جون زلفت زري أي صنم بشانه

جونانش بسختي همي كشيدم ... جون موركه كندم كشدنجانه

باموي بخانه شدم يدركفت: ... منصور كدامست أزين دوكانه

والترجمة:

سرقت من طرته شعرة ... حين غدا يمشطها بالمشاط

ثم تدلحت بها مثقلا ... تدلح النمل بحب الحناط

قال أبي من ولدي منكما ... كلاكما يدخل سم الخياط

وير انه تصرف في ترجم البيت الثالث. وأصله: (ذهبت إلى الدار بالشعرة. فقال ابي: منصور أي الاثنين؟. وفي الديوان بيتان قبل هذه الثلاثة.

ومن الترجمة التي يتجلى فيها اسلوب الفارسية هذان البيتان

فؤادك أين؟ سباه بماذا ... بمقلته. من؟ غزال ربيب

سلابا. نعم. اين؟ وسط الطريق ... متى؟ اليوم. هذا سلاب غريب

وهي تذكر دارس الأدب الفارسي بمطلع قصيدة محتشم من شعراء الدولة الصفوية في رثاء آل البيت.

وفي الديوان قطعة فيها كلمات وشطرات فارسية، والشعر المنظوم بلغتين أو أكثر يسمى الملمع في عرف أدباء الفرس أو الترك وهو كثير عندهم.

ويكثر في شعره المجزوء، ولا سيما الهزج الكامل. وسأعود إلى هذا حين الكلام في سجعه.

واحسب بديع الزمان نظم معظم شعره في أوائل حياته. ففي الديوان أبيات نظمها وهو في الثانية عشرة، وهو يذكر سن العشرين في بعض شعره:

إني بعشرين تصاريف ما ... بعد الثمانين تعرفتها

ويذكر الخامسة والعشرين وهو يمدح خلف بن احمد:

ألم يك في خمس وعشرين حجة ... تسنمتها هاد لمثلى الطرائق

ثم هو يلعن لنظم في كلامه عن الخوارزمي في بعض رسائله وذلك دليل على انه مال عن الشعر: (هو خوارزمي، ولست من خوارزم، وهو شاعر ولعن الله النظم) واوضح من هذا قوله في رسالته إلى ابن ظهري رئيس بلخ

(كنت نويت إلا أقول الشعر فأبت النملة إلا الدبيب. وأجدني قد اكتهلت والكهل قبيح به الجهل).

يتبع

عبد الوهاب عزام