مجلة الرسالة/العدد 44/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 44/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1934


6 - شهر بالغردفة

تتمة

للأستاذ الدمرداش محمد

مدير ادارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف

عنب جيل الشيب

كان من عادتي أثناء الاقامة في الغردقة أن أقف ساعة في الصباح ومثلها في الاصيل أمام نافذة الاستراحة اشاهد منها جبل الشايب لأمتع النظر بجمال لا يراه عادة في جبال وادي النيل، وكان منظر القمة وهي جاثمة فوق هأمات الجبال في جلال وروعة ومن حولها قمم جبال أم عنبة، وعتلمى وكحيلة وغيرها، كأنها الصغار حول الأب الجبار يوحي إلى النفس بشعور الكبرياء والعظمة. وجبل الشايب لا يبعد عن محطة الاحياء المائية كثيراً، فالمسافة بينهما 45 كيلو متراً تقطعها السيارة في نحو الساعتين في طريق ممهدة، وقد ذهبنا إليه يوم الجمعة 21 يوليه في ثلاث سيارات تحمل إحداهما الخيام والزاد - كان اليوم راكد الهواء مساند جبل الشايب بالقرب من بئر أم دلفة، والبئر عبارة عن حوض في جدار الجبل تظلله الصخور، وينضح إليه الماء من شقوق وعيون في الصخر، فإذا فاض الحوض تدفق ماؤه إلى فجوة أسفله، ومن الحوض يستقي الاعراب، ومن الفجوة تشرب الابل والمواشي. والوادي حول البئر كثير العشب وافر الكلأ، تظلله الاشجار وتسبح في جوه الطيور والعصافير.

وبعد راحة قصيرة حاولت وبعض الرفاق التسلق إلى قمة أم دلفة، ولكن الصعوبة المرتقى وحرارة الشمس جعلتا الصعود شاقا منهكا فاكتفينا بمرحلة متوسطة، وعدنا أدراجنا، وفي العودة التقيت عند البئر شباب من سكان المنطقة وهو من عرب معاذة، أسود البشرة ناحل الجسم، دقيق العظم، وكان معه جمل يحمله بقرب الماء: فقلت له يا أخا العرب: هل من وسيلة إلى قمة الشايب فقال: إن الطريق إليها طويلة شاقة، كثيرة الالتواء والعقبات لا يعرفها إلا نفر قليل منا فلا تطمع في الوصول إليها وحدك، ثم إن الصعود إليها يستغر يوما كاملا ومثله للنزول. فقلت كيف ذلك؟ فقال هكذا يقول من صعدوا إليها - ثم سألته عن حال البادية فأجاب، كرب وشدة، فانحباس المطر إحدى عشرة سنة متعاقبات أجدب الوديان حتى كادت تتعرى من الأخضر واليابس، وغاض ماء الآبار وجف كثير من العيون، وتفرقت البيوت فقوم منا لحقوا بوادي النيل، وآخرون أوغلوا صوب الشمال، وبقية بدا لها أن تتشبث بوطنها مثوى الآباء، والأجداد، برغم ما تعانيه من شظف العيش وما تلقاه من حرمان. يعملون هكذا فرارا من معرة الهجرة وهوان الارتحال. فقلت: وما بعد ذلك فقال، سنبقى هنا بالتوكيد حتى يقضي الله أمره فينا. ثم أطرق برأسه وهو يقول فرج الله لا بد قريب، فقلت صدقت يا أخي، اصبر فان الله لا ينسى عباده، فعلت وجهه ابتسامة اطمئنان ويقين. وبعد حديث طويل عن الجبال وأسمائها، ومسالكها والعيون وأماكنها سألته عن حيوانات المنطقة ونباتاتها فقال، يعيش هنا الغزال والتيتل والثعلب والارنب والخروف الوحشي، والأخير كان كثيرا، ولكنه رحل عنا منذ أجدبت الوديان. وعندنا من الطيور العصافير والغراب والصقر وغيرها، ومن الحشرات الثعابين والعقارب والزنابير والخنافس والذباب والنحل وغيرها، ومن النباتات الشيح والسيال (السنط) واللصف واليسر والفطنة (ذات رائحة شديدة كريهة) والحرجل (يستعمل دواء للمغص) والجتيات والمرغادة والأراك وغيرها.

قلت وهل تستفيدون من هذه النباتات، فقال نعم؟ فلكل نبات فائدة نعرفها. ثم اننا نجمع الشيح ونبات المسواك وحب اليسر، ونبيعها في قنا، ومن خشب الطرفا، وهي شجرة الاثل نصنع الفحم وقد كانت له سوق رائجة، ولكن الطلب عليه الآن قليل. ثم قال اننا قوم ذوو همة نتاجر في الاغنام والابل، وننقل التجارة على الجمال من قنا إلى الغردقة، ونستخرج بعض المعادن من الجبال ونبيعها في السويس، وهكذا، فإذا كانت المراعي قد أجدبت فان نشاطنا لم يضعف وعزيمتنا لم تفتر.

وجبال الشايب وما حولها تبدو من الغردقة متلاصقة متجاورة إلا أنها في الحقيقة متباعدة تخترقها الوديان والسهول وتشقها مجاري السيول في كل صوب. وعند الأصيل انطلق الهواء واعتدل الجو فتفرقنا بين الجبال واخذ بعضنا يتبارى في الرماية بالبنادق وإصابة الهدف، وقبيل الغروب عدنا بسلام.

من الغردقة إلى قنا

قضينا الأسبوع الأخير من إقامتنا في الغردقة في إعداد الصناديق وحقائب السفر استعداداً للعودة. وكانت الأيام تمر سراعاً، ويوم الرحيل يدنو مسرعا، وقد أشفقت أن نعود من غير أن أتمكن من الذهاب إلى قنا عن طريق الجبل، ولكن تهيأت الفرصة قبل الرحيل بأيام قلائل فحمدت الله على توفيقه.

وطريق الجبل إلى قنا طويل شاق تقطعه السيارات عادة في ثلاث مراحل: الأولى من البحر إلى مدخل الجبال وطولها نحو 40 كيلو متراً، وهي عبارة عن ساحل كثير الحزون والتلال، والمرحلة الثانية منطقة الجبال نفسها وطولها 70 كيلو متراً. والمرحلة الثالثة من باب مخينق إلى قنا في وادي قنا العظيم وطولها مائة كيلو متر.

وتشتد الحرارة صيفاً في الطريق أثناء النهار لدرجة لا تطاق فكان لابد لنا من القيام من الغردقة ليلا: ففي الساعة الثالثة صباحا كانت تسير السيارات بنا نحو الجبال في طريق صاعدة كثيرة العقبات. وكان الظلام حالكا، والسكون رهيبا شاملا، وهواء الليل بارداً منعشاً ونحن جلوس في صمت عميق، شاخصة أبصارنا نحو مقدم السيارة تتابع ضوءها الكشاف وهو يجلو أمامها الطريق، والسيارة تجاهد مندفعة بسرعة أربعين، والسواق رزين قد استجمع كل حواسه في عينيه، وكل قوته في يديه وقدميه، يقودها باهتمام وحذر، يتلمس الطريق في جوف الليل بمهارة وحذق نادرين - مرت علينا هكذا ساعتان ثم لاحت تباشير الفجر وقد دخلنا منطقة السدود، فكان الطريق بينها خطرا يتلوى في ضيق وانفراج، ثم بزغت الشمس على القمم والروابي فكان منظراً بديعاً حقاً: فجبال شامخات قائمات في استقامة كالجدار، تعلوها كالسهام تناطح السحاب، وقد بدت أطرافها في بوادر الشفق حمراء قانية كأنها تتوقد في أتون من نار، والجبال من تحتها والثنايا والحنايا من حولها في لون ازرق داكن كأنها الدخان الكثيف - ثم علت الشمس. واصفرت الأشعة فبدت القمم كأنها أهرام من ذهب فوق قواعد من رصاص وأخيراً انقشع الظلام واشرق النور فتوارى جمال السحر ليتجلى جمال الطبيعة في حلة الصباح، فكان أشد فتنة وأبلغ أثرا - كنا حينئذ نسير في وادي (بلي) وعن يمننا جبل الدخان (1800 متر) وعن يسارنا جبل القطار والوادي بينهما ضيق عميق يخترق الجبال من الشرق إلى الغرب، وهو كثير العشب والأشجار، وقد أقام الرومان على مدخله من جهة البحر قلعة للحراسة، وهي الآن انقاض لم يبق من معالمها إلا الجدران - ويتفرع من وادي بلى عند وسطه وادي البديع، وهو يخترق جبل الدخان وينتهي عند بئر البديع حيث توجد مناجم الحجر السماق الامبراطوري، وهو حجر جرانتي دقيق الحبيبات لونه احمر قاتم قد صنعت منه طائفة كبيرة من أجمل التماثيل في العصر القديم، ولا يزال بوادي البدع آثار رومانية قديمة من مبان واستحكامات وطرق - ويتطرق وادي بلى إلى وادي القطار وهو كسابقه فيه العشب وفيه الشجر، وعند الكيلو متر 65 تقوم استراحة بوليس مصلحة الحدود على رابية بجانب الطريق، وبالقرب منها بئر الأمير فاروق وماؤها عذب غزير، ويخرج من وادي القطار عند الاستراحة طريق يؤدي إلى سطح جبل القطار حيث مناجم الموليدات. وهي لشركة طليانية بقيت تستغلها سنوات طويلة، ولكنها منذ سنتين توقفت عن العمل وصرفت العمال، ولم يبق بمركزها سوى المهندس وهو شيخ طلياني طابت له الإقامة ففضل البقاء وحده وسط هذه الجبال - فتأمل - وبلى والقطار من أجمل الوديان والطريق فيهما مرسوم يحاذي الجبال في تعاريج كثيرة بين صعود وهبوط، والجبال هنا موحشة جداً تحمل في طياتها وعلى جدرانها طوابع العصور الطويلة التي تعاقبت، والكوارث التي نزلت من تفتت وتهشيم وتصدع وانكسار وانثناء وتعرية.

وصلنا ممر محينق قبيل الساعة السابعة، ثم انحدرنا منه إلى وادي قنا، وهنا تغيرت معالم الطريق وطبيعة الجبال، فاصبح الوادي أكثر اتساعا والجبال أقل ارتفاعا، واختفت الجبال القديمة وظهرت هضاب الحبال الكلسية التي تمتد إلى وادي النيل - وبعد أن مررنا بجبل (نجع الطير) ثم بجبل (ابي حد) وطابية الحيط، وصلنا بير (عراس) وهنا زاد الوادي انفراجا وانبساطا، وفي منتصف الساعة التاسعة وصلنا قنا ونزلنا ضيوفاً على نقطة بوليس مصلحة الحدود.

ولوادي قنا شهرة قديمة، فقد كان طريق المصريين والرومان والعرب إلى محاجر الجرانيت ومناجم المعادن وشواطئ البحر الاحمر، ولوقوعه في سفوح الجبال العالية فأنه يترع بالماء وقت الامطار الغزيرة، وتفيض منه سيول جارفة تصب في النيل عند قنا وتجلب معها كميات عظيمة من طمى ناعم يعرف (بالحيب) يصنع منه الفخار القناوي المشهور - واختراق وادي قنا أمنية قديمة تعلقت بها منذ كنت ناظرا لمدرسة قنا في سنة 1923 وقد حاولت وقتها في مرة أن أمشي فيه يوما كاملا، ولكن ضللت الطريق السوي لتشابه المسالك وجهل الدليل، وبعد أن أقمنا بقنا ليلتين ويوما برحناها بعد نصف الليل بساعتين عائدين في نفس الطريق فوصلنا الغردقة بعد شروق الشمس بقليل. وبعد يومين ودعنا الغردقة ومن فيها وأبحرنا عائدين إلى السويس ثم إلى القاهرة.

وأختم هذه الرحلة بتقديم خالص الشكر لحضرات - الدكتور كرسلاند مدير المحطة، ومحمد بك حبيب مفتش منطقة البحر الاحمر، وسيد أفندي الحملاوي مساعده، والدكتور محمود أبو زيد مفتش المناجم، لما بذلوه عن طيبة خاطر من مجهود عظيم في سبيل راحتنا ومساعدتنا، ويلهج كذلك لساني، بالشكر الوافي لصديقي العالم الكبير الدكتور محمد عبد الخالق بك لما خصني به من جميل العناية والرعاية.

الدمرداش محمد

في الكتب