مجلة الرسالة/العدد 438/عبر كذا. . .
مجلة الرسالة/العدد 438/عَبْرَ كذا. . .
للأستاذ الكبير (ا. ع)
يذكر القارئ أني كنت قد كتبت بحثاً في العدد 424 من (الرسالة) أُخطّئ فيه ما شاع في أقلام الكتاب من استعمالهم (عَبْر) - مصدر عَبَرَه - ظرفا، مسايرين الترجمة الخاطئة للكلمة الإنجليزية
وقد سقت للتوضيح ثلاثة أمثلة مما تستعمله الصحف والمجلات كل يوم. وسأعرض هذه الأمثلة مرة ثانية، وأبسط الموضوع بسطاً، وأضمّنه مقتبسات من كلامي وكلام مُناظري مما يدور عليه البحث بيني وبينه؛ حتى يعيه من القراء من لم يكن تتبعه منذ البداءة - وهذه هي الأمثلة:
1 - ومن زمن قريب ادعت اليابان لنفسها حق مرور قواتها (عَبْرَ) شمال الهند الصينية
2 - وسنواصل كل شهر قذف. . . بالقنابل الشديدة الانفجار، كما فرغت مصانعنا من إخراج طائراتنا الضخمة أو جاءت إلى هنا (عَبْرَ) الأطلنطي
3 - لهذا وصلوا بين باكو وباطوم (عَبْرَ) القوقاز بأنابيب
فردّ عليّ الأستاذ الفاضل محمد محمود رضوان في العدد 432 من (الرسالة) بأن هذه الكلمة قد جاءت في بيت لسواد بن قارب هو:
فشمرت عن ذيلي الإزار وأرقلت ... بيَ الدعاب الوجناء عبْر السباسب
ثم قال: ومن ثم يرى الأستاذ الكبير أن الكلمة صحيحة كما يستعملها الكتاب على عهدنا
وقال: ولو أردنا تخريج الكلمة على وجه صحيح لوجدنا أكثر من وجه، خلافاً لما يقول الأستاذ: (وأقرب هذه الوجوه عندي أن تكون (عبْر) مصدراً مراداً به اسم الفاعل، فتكون حالاً مما قبلها)؛ ويكون التقدير: (مرور قواتها عابرة شمال الهند الخ)، (أو جاءت إلى هنا عابرة الأطلنطي)
فأنت ترى أنه في عبارته هذه قد أعرب في صراحة (عبر) حالاً فعقْبت عليه في العدد 433 بأن المصدر لا يقع حالاً إلا إذا كان نكرة و (عبْر) في الأمثلة التي أتيت به - وفي غيرها مما تلوكه الصحف كل يوم - معرفة بالإضافة، فلا تصلح أن تكون حالاً؛ ثم جئت بعدة أمثلة مما يستشهد به النحويون لضرورة تنكير المصدر إذا وقع حالاً؛ وقلت أيضاً: إن وقوع المصدر المعرف حالاً نادر جداً، ولا يكون إلا في صورتين يمثل لهما بمثالين هما: جاءت الخيل بَدادِ، وأرسلها العِراك
ولكن الأستاذ لم يُرِد أن يعترف بأنه قال ما قال - وهو ما خطّته يمينه صريحاً كما مرّ - فجاء في العدد 435 يقول ما نصه:
وأقول: إن الأستاذ لم يتبين رأيي على وجه الصحيح؛ إذ توهم أني أرى (عبراً) مصدراً أريد به الحال (تأمل)، ولم أقل هذا (تأمل)، وإنما قلت: إنه مصدر وضع موضع اسم الفاعل، فهو عبر بمعنى عابر، كما في قوله تعالى: (إن أصبح ماؤكم غورا)؛ ورجل عدل: أي عادل!
أقول: ما على القارئ إلا أن يرجع إلى عبارته، فهي من الوضوح والسلامة والإيجاز بحيث لا توقع في وهم أو ضلال.
ثم نرى الأستاذ بعد ذلك يعود فيؤكد إنكاره لما قال، ويتسرّب من هذا الإنكار - في شيء من الالتواء - إلى إجازة إعراب (عبر) حالاً؛ إذ هذا المصدر - كما يقول - سيفقد تعريفه بعد التقدير. . . الخ
وإني واضع عبارته كلها أمام القارئ، مراعاة للدقة، وسوقاً للحجاج على وجهه الصحيح، قال:
(فأنت ترى أني لم أنص على أن كلمة (عبر حال) حتى يشترط تنكيرها، وإنما نصصت على أنها مصدر بمعنى فاعل (تأمل). وكونها (حالاً) أمر اقتضاه السياق الكلام في الجمل التي ساقها الأستاذ. وساعد عليه أن المصدر سيفقد تعريفه بعد التقدير. وسيصير المضاف إليه مفعولاً، وذلك في قولك: (عابرة الأطلنطي)؛ فليس ثم ما يمنع من أن يكون المصدر (حالاً) بعد أن فقد تعريفه)
أقول: إن المثال - وموضوع البحث والمناقشة - غير صحيح؛ إذ لا يعرف في العربية مصدر معرف يقع حالاً إلا في صورتين أو صور قليلة شاذة - فلا يمكن أن يتلمس له من (التقدير) ما به يخرج من فساده المتأصل
ألا إن الموضوع من الخطورة بحيث لا ينبغي أن يُرْمى فيه الكلام على عواهنه
بقيت مسألة ليست محل نزاع بيني وبين الأستاذ، وهي ما أشار إليها بقوله: (فقد أصبحت القضية الآن: هل يشترط تنكير المصدر إذا وقع موقع اسم الفاعل، بصرف النظر عن كونه حالاً أو غير حال؟)
وللإجابة عن هذا أقول: يحسن أن يرجع الأستاذ مرة ثانية إلى ما جاء في العدد 433، فقد قلت فيه: (يكفي في الرد على هذا أن أذكر الأستاذ أنه من المقرر أن المصدر قد يقع حالاً (إذا كان نكرة). فالتنكير شرط، نحو. . . الخ)
(فأنت ترى أني قصرت كلامي على (المصدر الواقع حالاً) ولم أتعرض لغيره، فلا محل هنا لهذا الاستفهام
وليس كذلك بيني وبينه خلاف في المصدر قد يقع في موضع اسم الفاعل، ولا في أن اسم الفاعل قد يقع في موضع المصدر
وبعد فقد آن لي أن أختتم هذه الكلمة، بعد أن أفرغت الوسع في المقابلة بين كلام مناظري وكلامي. وإلى القراء أحتكم والله ولي التوفيق
(ا. ع)