مجلة الرسالة/العدد 437/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
مجلة الرسالة/العدد 437/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
ديوان البارودي
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - نقد مقدمة هيكل باشا - نصيب البارودي من علوم
اللغة العربية - الخمريات والغراميات - الجديد في شعر
البارودي - التحكم في التاريخ - الطبيعة بين الصمت والنطق
- المستنيرون في عهد توفيق - تاريخ الشعر العربي -
المصريون في عهد البارودي - ما صنع البارودي في منفاه
تمهيد
المقرر للمسابقة هو الجزء الأول، طبع دار الكتب المصرية وشرح الأستاذين: علي الجارم بك، ومحمد شفيق معروف؛ وهو يطلب من مخازن وزارة المعارف ومن شهيرات المكاتب
وللشارحين كلمة يشكران فيها النقراشي باشا (لاهتمامه بإنجاز طبع الديوان)، وهيكل باشا (لتكرمه بكتابة التقديم) وجعفر والي باشا (لكبير معونته)، والسيد أشرف البارودي (لإمدادهما بأصول الديوان الخطية)
وكنت أحب أن يشيرا الشارحان إلى أن عناية وزارة المعارف بطبع دواوين الشعراء الذين رفعوا اسم مصر في العصر الحديث ترجع إلى العرابي باشا، فهو صاحب هذه الفكرة، وفي عهده ظهر ديوان حافظ إبراهيم سنة 1937
وكنت أحب أيضاً أن يشيرا إلى الظرف الذي كتب فيه التقديم، وقد تركه الدكتور هيكل باشا بدون تاريخ، لسبب توضحه الأسطر الآتية:
كانت وزارة المعارف إلى الدكتور هيكل في وزارة محمد محمود باشا الأخيرة، وفي تلك الأيام بدئ بطبع ديوان البارودي، وكان مفهوماً أن هيكل باشا سيكتب مقدمة الديوان؛ ثم استقالت وزارة محمد محمود باشا وتلتها وزارة علي ماهر باشا، وفي الوزارة الثانية ك النقراشي باشا وزير المعارف، فكتب إلى هيكل يدعوه إلى كتابة مقدمة الديوان، مع أن ظواهر الأحوال كانت تقول بان بين الرجلين شيئاً من الجفاء
ولو أشار الشارحان إلى هذه اللمحة الأدبية لكانت شاهداً جديداً على ما عند رجالنا من كرائم الآداب
وسكت الشارحان عن الشارح الأول، كما سكت عنه هيكل باشا، وفي الطبعات العلمية لا يجوز هذا الإهمال
ويستطيع طلبة السنة التوجيهية أن يسألوا أساتذتهم عن ذلك الشارح، إن كان يهمهم الاستقصاء
نقد مقدمة هيكل باشا
تقع هذه المقدمة في اكثر من ثلاثين صفحة بالقطع المتوسط، وقد كتبت في ساعات غلب فيها الصفاء، قد كان الدكتور هيكل في عزلة تشبه عزلة النساك بعد خروجه من المعارف، وكان يعاني الكلف بالخلوة إلى القلم بعد أن شغل عن الأنس به عدداً من الشهور الطوال
هي مقدمة جيدة جداً، وربما جاز القول بأنها أجود ما صدر عن الدكتور هيكل من الدراسات الأدبية، فقد نفذ إلى أعماق العبقرية البارودية، واستطاع في بعض النواحي أن يذيع سرها المكنون
وسيجيء في الامتحان التحريري سؤال أو أسئلة من هذه المقدمة، فمن الواجب أن نتناولها بالنقد الرفيق، لنساعد طلبة السنة التوجيهية على إدراك ما فيها من مقاصد وأغراض، فالنقد هو الذي يوجههم إلى فهم مدلولها الصحيح، وهو الذي يهديهم إلى مكانة البارودي في تاريخ الأدب الحديث
نصيب البارودي من علوم اللغة العربية
نص الدكتور هيكل باشا مرتين على أن البارودي كان يجهل النحو والصرف والعروض، والنص على هذا مرتين في المقدمة يشهد أن هيكل باشا لم يكن في هذا الحكم من المرتابين
فممن اخذ (حيثيات) هذا الحكم القاسي؟
أخذه عن الشيخ حسين المرصفي، فقد نص في (الوسيلة الأدبية) علة أن البارودي كان يجهل النحو والصرف والعروض؛ وكان يجب على الدكتور هيكل أن يذكر أن الشيخ المرصفي لم يقل هذا القول إلا في مقام الثناء على ما كان البارودي يملك من بوارق الفطرة والطبع، وإلا فمن العسير أن نصدق أن البارودي كان يجهل ما لا يجوز جهله من أصول النحو والصرف والعروض
ولكن أين الشواهد على علم البارودي بعلوم اللغة العربية؟ في الديوان رسالة مثبتة بالزنكوغراف، وهي رسالة لم يلتفت إليها الدكتور هيكل، ومنها أتخذ الشواهد على ضعف الحكم الذي نقله عن صاحب (الوسيلة الأدبية)
والى معاليه أسوق الحديث:
1 - في ص 43 جاء بخط البارودي في وصف ما عانى هو ورفاقه من هياج البحر:
(ومكثنا على ذلك ثلاثاً، لا نجد فيها غياثاً)
وعند تأمل الخط نجد أن الأصل (ثلاث) و (غياث)، وأن البارودي التفت إلى الخطأ النحوي فرسم ألفين فوق هاتين الكلمتين، وهذا يشهد بضعفه في النحو، ولكنه لا يشهد عليه بجهل النحو، بدليل هذا التصحيح
2 - وفي ص 46 نجد بخط البارودي:
(هيهات، ما كل شامة خالًا، ولا كل حلقة خلخالاً) وعند تأمل الخط نرى أن الأصل (خال) و (خلخال)، ونرى البارودي وضع ألفين فوق هاتين الكلمتين
والتصحيح في هذه المرة أدق، فهو في الشاهد السالف كان التفافاً إلى حكم الظرف وحكم المفعول في الأعراب، وهو في هذا الشاهد التفات إلى حكم (ما) الحجازية؛ وكان يسعه أن يعفي هاتين الكلمتين من التصحيح ليسير مع النحوي الذي يقول:
ومُهفهَفِ الأعطافٍ قلت له: انتسب ... فأجاب: ما قتلُ المحب حرامُ
والذي يفرق بين (ما) الحجازية و (ما) التميمية لا يوصم بجهل قواعد اللغة العربية
3 - وفي ص 49 نجد بخط البارودي:
(بل حسبت أن قطرات المزن، دموع أسالتها زفرات الحزن)!؟
وننظر إلى العين من دموع فنراها كانت (عاً) ثم أصارها البارودي (عٌ)
فما معنى ذلك؟ معنا انه توهمها أولاً مفعول (حسب) ثم أدرك أنها خبر (أن) والذي يجهل النحو لا يدرك هذا الفرق
4 - وفي الصفحة نفسها نجد البارودي يقول:
(الهم يا هادي الضلال في الليل المدلهم، وناصر الملهوفين في غمرة اليوم المسلهم)
وننظر فنجد البارودي محا كلمة (الملهوفين) واثبت كلمة (الهلاك) حرصاً على الازدواج، فنفهم انه كان يعرف علم البديع
5 - ومن هذا ما جاء في ص 50 حيث يقول:
(ما وعد إلا وأخلف، ولا سالم إلا وأتلف)
فقد محا (سالم) واثبت فوقها (أوعد) حرصاً على الجناس والطباق!
6 - وفي مقدمة الديوان يحدثنا البارودي عن (ذكر الشيء باسم غيره لمجاورته إياه) فنفهم انه كان يعرف أشياء من علم البيان
7 - ونص البارودي على قصائد فيها (لزوم ما لا يلزم)، فكيف يقع هذا من رجل يحكم عليه هيكل باشا بجهل القوافي؟ يضاف إلى هذا أحكامه على الشراء وهي تدل على بصره بالنقد الأدبي، وكذلك تدل استفادته من المعاجم على فهمه لأصول علم الصرف
وصفة القول أن البارودي كأن على بينة من علوم اللغة العربية، وان لم يصل إلى التفوق في تلك العلوم؛ فقد كان يعتمد على فيض الفطرة والطبع، وهما افضل أدوات الشعراء
الخمريات والغراميات
وطاب للدكتور هيكل باشا أن يؤكد أن البارودي لم يكن صادقاً في الخمريات والغراميات، وقد جزم بان قصائده في هذين الفنين لم تكن إلا محاكاة لأساليب القدماء
وهذا الحكم صواب من جانب وخطأ من جانب، فهو صحيح في الخمريات لأن أشعار البارودي في الخمر لا تخلو من ضعف، ولكن هذا الضعف لا يرجع إلى أن الخمر لم تذهب بعقل البارودي، كما يقول الدكتور هيكل، وإنما يرجع إلى أن وصف الخمر فن لا يحسنه جميع الشعراء وإن كانوا في حبها من الصادقين
أما غراميات البارودي فهي صدق في صدق، وأشعاره في العشق آية في الإفصاح عن صبوات القلوب، وقد تذكر بغراميات الشريف في بعض الأحيان
وما الموجب لأن نقول للبارودي (كذبت) حين يتحدث في أشعاره عن هواه، مع انه يقول في مقدمة الديوان:
(إنما هي أغراض حركتني، وإباء جمح بي، وغرام سال على قلبي)
أما أن كان الدكتور هيكل يريد تنزيه البارودي عن مآثم الفتيان، فلكلامه وجه مقبول، فقد كان البارودي رئيس الوزارة في بعض العهود، ويجب على الوزراء أن يعيشوا بلا قلوب
الجديد في شعر البارودي
ويقول الدكتور هيكل باشا إن الجديد الذي استدعى الإعجاب بشعر البارودي (هو نزوعه إلى تصوير الواقع كما هو في بساطة وسلاسة وقوة دون اعتماد على محسنات اللفظ البديعية)
ونقول إن هذا التصوير بعيد من أذهان من عاصروا البارودي وكانوا مولعين بالزخرف والبريق، وإذن يجب على الدكتور هيكل أن يتلمس رأياً غير هذا الرأي، وهو قد اهتدى إلى الصواب بعد ست عشرة صفحة فقال:
(إن هذا الشعر كان جديداً كله، كانت محاكاته الأقدمين جديدة، وكانت معارضته إياهم جديدة، وكانت رياضته القول على مثالهم جديدة)
فإذا أعيد طبع الديوان فليتفضل الدكتور هيكل يحذف الحكم الأول والاكتفاء بالحكم الثاني
التحكم في التاريخ
للبارودي قصيدة لامية قال فيها ما قال في التندي بالمصريين، وينص الديوان على أنها قيلت في عهد (إسماعيل) وكن الدكتور هيكل يعتسف فيحكم بأنها قيلت في عهد (توفيق)
فهل يملك الحق في نقل القصائد التاريخية من عهد إلى عهد؟
إن عصر إسماعيل كان مبعث نهضة بإجماع الآراء، وعصور النهضات لا تخلو من بواعث الحب والبغض، والحمد والملام، فكيف نستبعد صدور قصيدة ثائرة في عهد إسماعيل؟ وكيف عرف هيكل باشا أن البارودي لم يذق في عصر إسماعيل غير القرار والاطمئنان؟
لو أن الدكتور هيكل التفت إلى القصيدة التي أثبتها بيده في ذيل الصفحة الثالثة والعشرين لرجع عن ذلك الاعتساف، وهذه إشارة فيها كل البيان الطبيعة بين الصمت والنطق
وشاء الدكتور هيكل باشا أن يحكم بأن (البارودي إذ كان يسجل للصور في شعره لم يكن يسجلها في صمتها وسكينتها على ما يولع به عشاق الطبيعة الصامتة)
فما معنى هذا الكلام؟ ومتى صمتت الطبيعة في أوصاف الشعراء؟
لعله يريد أن يقول إن البارودي كان قوي الشعور بحيوية المناظر الطبيعية، وبما فيها من فاعلية وانفعال، فقصر به التعبير عن بلوغ ما يريد
المستنيرون في عهد توفيق
هم في نظر الدكتور هيكل باشا رجال الجيش، وقصر الاستنارة على رجال الجيش في ذلك العهد غير صحيح، فقد كان في مصر جماعات علمية وأدبية تفوق في الاستنارة رجال الجيش، والصواب وضع كلمة (السياسيين) في مكان (لمستنيرين) فقد كان رجال الجيش ساسة البلاد في ذلك الحين
تاريخ الشعر العربي
ويقول الدكتور هيكل إن الشعر العربي قضى ألف سنة في انحلال إلى أن بعثه البارودي، فمن اين جاء بهذا القول؟
أنحكم على ماضينا الأدبي هذا الحكم الظالم في سبيل إنصاف البارودي؟ ليرجع الدكتور هيكل إلى (مختارات البارودي) إن شاء، فإن فعل فسيعرف أن البارودي يرى غير ما يراه، فقد وصل اختياره إلى القرن السابع، وصح له أن يحكم بأن سبط ابن التعاويذي وهو من شعراء القرن السادس كان يتابع الشريف الرضي ويمشي على اثر مهيار الديلمي. والبارودي الذي اعترف بحياة الجزالة الشعرية في القرن السابع كان من شعراء القرن الثالث عشر، وعلى هذا تكون المدة التي انحل فيها الشعر نحو خمسة قرون، فكيف يجعلها الدكتور هيكل عشرة قرون ويوصي بإسقاطها من الحساب؟
يشفع للدكتور هيكل انه أراد المبالغة في التنويه بمقام البارودي، ولكن الإحسان إلى البارودي كان يتم بدون الإساءة إلى تاريخ الشعر العربي. فليتفضل بمراعاة هذا الجانب من مقدمته في الطبعة التالية، إيثاراً للعدل، فما كان في أحكامه الأدبية من الظالمين المصريون في عهد البارودي
حكم الدكتور هيكل بأنهم لم يكونوا يعرفون اللغة العربية، وإنما كانوا يتحدثون بلغة أخرى هي العامية
وهذا الكلام يحتاج إلى تحديد، فان كان يريد الخواص فهو مسرف، فقد كان هؤلاء في يقظة عقلية وروحية، بدليل ما تركوا من نفائس المؤلفات، وان كان يريد العوام فهم إلى اليوم يتكلمون العامية، ولم يستطع جهلهم أن يصد الخواص عن التحليق في أجواء الأدب الرفيع
البارودي في منفاه
اكتفى الدكتور هيكل بالنص على حنين البارودي إلى الوطن وهو في منفاه، وسكت عن مسألة مهمة جداً، وهي براعة البارودي في بعث (المدائح النبوية) بعد أن طال عليها الموت، ولهذه المسألة تفاصيل يضيق عنها هذا المجال
أما بعد فهذه ملاحظات لم يكن منها بد، لأن مقدمة الدكتور هيكل ستكون أساساً لدرس ديوان البارودي، ومن واجبنا أن ننبه المتسابقين إلى ما يوجه إليها من الاعتراض، ليكونوا على بينة من مكاسر ذلك البحث الدقيق
وقد بقيت مآخذ لا تستوجب المسارعة إلى التنبيه، ولعلها تدق عن أفهام طلبة السنة التوجيهية، أما محاسن المقدمة التي كتبها هيكل باشا فهي أظهر من أن تحتاج إلى بيان
لم يبق إلا النظر في المقرر للمسابقة من أشعار البارودي، فإلى الأسبوع المقبل
زكي مبارك