مجلة الرسالة/العدد 435/الصحافة والدولة
مجلة الرسالة/العدد 435/الصحافة والدولة
2 - الصحافة والدولة
تأليف الصحفي العالمي ويكهام اسفيد
للأستاذ زين العابدين جمعة
المحامي
أما بالإضافة إلى إيطاليا فمجرد النظر في (الكتاب السنوي للصحافة الإيطالية) وفي صفحاته التي تربي على الألف صفحة كاف لأن تتكشف معه الحقيقة عن أمر تلك العبودية التي انتظمت الصحافة الفاشية فأمست خاضعة لها. ولقد كانت كبريات الصحف الإيطالية مثل صحيفة (الكورييري دلاسيرا) التي تصدر من ميلان وصحيفة (الاستمبا) التي تطبع في ثورين - وحسبنا منها هاتان الصحيفتان - تنافس أعظم الصحف في أوربا وتناهضها قبل أن تبتدع الفاشية نظاماً. بينما كان الصحفيون الإيطاليون ينعمون في كتاباتهم بنصيب من الألمعية وبراعة الأسلوب ورقة العبارة لا يطاولهم فيه أحد
ولقد انتهى أمرهم اليوم إلى أن نظموا في سلك (النقابات) والجمعيات الرسمية وأمسوا وهم لا يستطيعون أن يؤدوا عملهم ما لم تدون أسماؤهم في سجل المهنة، ليكون ذلك شاهداً على استقامة رأيهم وسلامة عقيدتهم في النظام الفاشي. ولقد حددت مركزهم تلك الأوامر (الملكية) المعقدة تعقيداً لا حد له، وصيرتهم موظفين مؤتمرين بأوامر تلك الفئة الوحيدة التي تحكم الدولة. ولقد تلقى الصحفيين الإيطاليون درساً قاسياً عرفوا منه ما ينتهي إليه التمرد على الفاشية من مصير وخيم. فقد رأوا أنبل الناس نفساً واوفرهم استقامة بين ظهرانيهم يضربون بتلك الهراوة الفاشية ضرباً مبرحاً، وقد يكون مميتا - كما كان من أمر (جيوفاني أمندولا) - أو يحكم عليهم بمدد طويلة في الأشغال الشاقة، أو يرسلون إلى معسكرات ضاقت بمن سيقوا إليها أو زجوا فيها، أو يوضعون تحت مراقبة البوليس في الحالات الأخف وزناً وفي المخالفات الأقل خطورة وحتى أولئك الذين أمكنهم أن يهربوا من إيطاليا كالمرحوم (كارلو روزلي) وقد أدركوا أنهم لم يكونوا بمنجى من أن تصل إليهم أيدي المجرمين ومدى السفاحين.
لذلك نجد في الفصل الذي عنوانه: (روح الصحافة الفاشية وكيانها) - المذيل بعبارة عه موسوليني كعنوان إضافي - من الكتاب السنوي للصحافة الإيطالية موضوعاً اقتبس منه ما يأتي:
(ووقتما ابتدعت الفاشية نظاماً للدولة، واختفت من الميدان الصحف المعارضة بعبارتها القارصة وأسلوبها اللاذع؛ ووقتما اهتدت إلى صوابها الصحف الناقمة الخارجة - تلك الصحف التي ذاعت ثقافتها العقلية التقليدية وكان لزاماً أن تحترم على الأقل ما بقيت لها ألقابها القديمة - فقد أحس الجمهور لوقت ما بشعور من الحيرة والارتباك ليس من الأمانة أن ينكر. إذا كان مما يتواتر على ألسنة الناس قولهم: (أيسعنا أن نقرر أن الحكومة لم تعد تخطئ، وأن الدولة دائما على صواب؟؟
- وذلك لأن الجمهور الساذج غير المثقف يختلط عليه أمر (الحكومة) و (الدولة) فيخالهم شيئين مختلفين مع أنهما اليوم وحدة لا تتجزأ لها ذاتيتها وخاصيتها. ومراعاة للأمانة والحق يجب أن نقرر أيضاً - ما دام الدوتشي نفسه قد قرره - أن طبع الصحافة بالطابع الفاشي لم يكن بالأمر الغريب المنار بل كان أمراً شاقاً ومنهجاً صعباً) ثم يحدثنا الكتاب السنوي إلى ذلك قائلاً: (ولكن أيسع أحداً اليوم أن يخبرنا عما إذا كانت الصحف هي التي تكون الرأي، أو كان الرأي هو الذي يكون الصحف؟؟) ثم يضيف إلى ذلك:
(والصحف تارة تتقدم الأسلوب الثوري وتارة أخرى تكون لاحقة له عندما يجري قلب أوضاع المجتمع في سبيل المدنية الحديثة انقلاباً جوهرياً، تلك المدنية التي جددت أسلوب النظم العامة والخاصة ووظيفتها، في شعوب أوربية عظيمة كإيطاليا وألمانيا. ففي هاتين الأمتين نجد الصحافة اليومية وقد تميزت عن سائر الصحف الأخرى في باقي أمم الأرض تميزاً واضحاً)
فما هو هذا الشيء الذي يميز الصحافة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية عن غيرها من صحف العالم؟؟ هنا يتولى (الكتاب السنوي) شرح هذا الفارق المميز فيقول:
(أن الفاشية التي كانت النتاج البكر بين حركات التجديد في أوربا كانت حرباً صليبية كبرى لتحرير الروح الإيطالي. . فهل كانت رجعة إلى الفطرة الأولى؟؟ نعم، ولكنها في الواقع مفتتح ثورة فعالة من شأنها أن تعيد إلى الشعب في غداة ثورة تاريخية عظمى نوعاً من العيش الفذ والحياة البكر). ثم يقول (الكتاب الثانوي) أيضاً: أن الصحافة الفاشية قد بعثت شباب إيطاليا بعثاً جديداً ووضعت أمام عينيه - وقد أجادت الاختيار واحترزت من أمره - حقائق لها قيمتها التاريخية لا مجرد أخبار مشوشة مضطربة. وما برحنا على حال لا يضايقها أن نقرر أن الصحافة قد أتمت رسالتها تحت لواء النظام الفاشي، ذلك النظام الذي وضع الصحافة في الصف الأول ومنحها قيادة نبيلة؛ الأمر الذي اصبح معه خضوع الصحف (لرأي الدولة) وهو من نوع استسلام الجندي المخلص لا من نوع تلك العبودية المفروضة على تابع أحسن إليه. و (رأي الدولة) هذا قد ورد ذكره وعرف في المجلد الثامن من كتاب (كتابات وأقوال بنتو موسليني) إذ جاء به (إن رأس الحكمة الفاشية هو إدراك معنى (الدولة) ومعرفة جوهرها وفهم أعمالها والإلمام بأغراضها ومراميها. فإذا كان من مقتضيات الفاشية أن تكون الدولة مطلقة التصرف فذلك من جهة تلك الصلات التي تربط الأفراد والجماعات بالدولة وتربط الدولة بهم. ولا يباح للأفراد والجماعات الحق في التفكير وتكوين الرأي إلا إلى الحد الذي لا يتعدى نطاق ما اختطته الدولة. والحكومة الحرة لا تدبر أمر أعمال المجتمع وتصرفاته ولا تنهض بتقويم نتاجه المادي والروحي بل يقتصر أمرها على مجرد تسجيل النتائج؛ بينما نجد الحكومة الفاشية ولها ما اختصت به من إدراكها لهذه المسائل ومن اختيارها لما تختاره منها ومن مشيئتها فيها ولهذا السبب لقبولها بالحكومة (الأدبية). . .)
انتهينا فيما تقدم - وبعبارة صريحة - من عرض المميزات والفوارق الأساسية بين وظيفة الصحافة في الحكومة الاستبدادية ووظيفتها في الأمم الحرة التي ما زالت حرية الأفراد فيها وهي تعد أمراً طيباً في ذاته؛ ولو كان المبدأ القائل بأنه: (في سبيل الفاشية يجب أن تكون الحكومة حكومة مطلقة) هو مبدأ إيطالي الأصل والنزعة، لساغ أن يتقبله العقل الإيطالي وأن يتحمل ما ينطوي عليه من أعباء الممارسة الفعلية لمسألة هي من أهم مسائل النظام الاجتماعي والسياسي. ومهما كان من التناسق والتلازم في أفكار موسوليني السياسية، فهي مأخوذة - على وجه أو وجهين - من آراء (هيجل) الفيلسوف الألماني الذي صيغت آراؤه عن الدولة - ولاسيما الدولة البروسية - في قالب صعب لأكثر من عصر مضى؛ ولم يكن ما تلقاه (فردريك أنجلز)، (كارل ماركس) من آراء (هيجل)؛ وما أوحى به إليهما فيما انتهيا إليه من نظر عن الدولة الشيوعية بالشيء القليل، وعن (ماركس)، (إنجليز) تلقى (جورج سوريل) رسول النقابية في فرنسا أول ما تلقاه من مبادئ العنف النقابي كوسيلة للانقلاب السياسي والاجتماعي قبل أن يتعقبها إلى منهلها في فلسفة (هيجل)، وينهل من هذا النبع المسموم؛ وعن (سوربل) تلقى (موسليني) بدوره هذه المبادئ الضارة والنهج الوبيل
فلقد صرح (هيجل) آنئذ في كتابه المعروف (بفلسفة التاريخ) بأن الدولة هي أسلوب فعال مطلق، وتجسيد لفكرة (أي تجسيد الحقيقة الماثلة وراء الظواهر). وعنده أن تلك الكائنات الحية التي تعيش تحت ظلال هذا الأسلوب من الحق المطلق، ليس لها من الحق في الاعتبارات المستقلة بأكثر أو بأقل مما للخلية بالإضافة إلى الهيكل البشري؛ وهو يقول: (إن الدولة هي أسمى فكرة وأجل وحي وأنبل خاطر، يغمر الحياة ويعيش على وجه الأرض)، لأن: (جماع ما للكائن الحي من قيمة وجماع ما ينعم به من الحقائق الروحية، إنما يتهيأ له فقط ويأتيه عن طريق الدولة)؛ يضاف إلى ذلك أن الدولة غاية في نفسها وشيء قائم بذاته، وهي الغاية القصوى التي يسمو حقها الأعلى على حق الفرد الذي ينطوي أسمى واجباته في أن يكون فرداً في الدولة
وهذه التعاليم هي من نوع التوفيق بين وجهة النظر الحرة ووجهة النظر المسيحية على حقيقتها في الحياة. إذ كلا النظرين يجعل لشخصية الإنسان قيمة عظمى. تلك الشخصية التي يعدها المذهب الحر العنصر الأولي الذي لا غنى عنه في مجتمع مكلف حر من الكائنات الإنسانية. بينما تنظر إليها العقيدة المسيحية كمستودع للنفس الخالدة. والصحافة الحرة قد هيئت لأن تنهض فور الوقت بواجبها نحو الحرية الاجتماعية والسياسية إذ تكون لسانها الناطق وحارسها الأمين. إلا أن الأمر يختلف عن ذلك تحت نير تلك النظم السياسية التي تعامل الفرد كمجرد تابع خاضع في كل شيء لإرادة حكومة مطلقة تعبر عنها أوامر حاكم مستبد حيث لا تصادف الصحافة الحرة ولا الصحفيون الأحرار أي عدالة أو ضمان
ولكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد إذ تصل إلى الأعماق من فلسفة الصحافة ذاتها. ففي الأمم الحرة ليس من شأن الصافة، لا يمكن أن يكون من شأنها ومن شأن ما يسمى أحياناً (بمسئولية) الصحفي، أن تكون مجرد صدى يردد ما يجري على لسان الحكومة من رأي. أو تعني بالتزام ذلك الصمت الذي يأخذ رجال السياسة أنفسهم به، أو يجري في عقيدتهم أنه من مقتضيات المراكز التي يشغلونها. والصحف المستقلة إن أيدت الساسة في خططهم وكانت لهم سنداً في الاحتفاظ بمراكزهم فهي إنما تمنحهم هذا العون طليقة مختارة وعن عقيدة شخصية قوامها أن هؤلاء الساسة يخدمون مصالح المجتمع جهد طاقتهم
ولقد بين (روبرت لو) (اللورد شربوك فيما بعد) الفارق بين واجبات الصحافة الحرة وواجبات السياسة بياناً علمياً صائباً في المقالين الافتتاحيين الخالدين اللذين حررهما لصحيفة (التيمس) في6، 7 فبراير عام 1852 وقتما كان (ديلان) ينهض برئاسة التحرير فيها
ففي شهر ديسمبر من عام 1851 قام (لويس نابليون) بحركة غير مشروعة كان من أمرها أن وثب إلى كرسي الإمبراطورية في فرنسا فنصب نفسه إمبراطوراً للدولة التي كان يتولى رئاسة الجمهورية فيها. وكان من أمر اللورد (بلمرستون) الذي كان يتولى وزارة الخارجية في ذلك الوقت من وزارة (رسل) أن أقر بالنيابة عن بريطانيا العظمى هذا الأمر الواقع من غير أن يراجع زملاءه في ذلك ويبادلهم الرأي ومن غير أن يخطر الملكة به. وأذ ذاك قامت قيامة صحيفة (التيمس) وآذنته هو و (لويس نابليون) بحرب شعواء جاهدتهما بها وناهضتهما فيها. ولقد بلغ من قسوة هذا النضال العنيف وما صيغ به من عبارة قارصة وأسلوب لاذع أن (ضاق لويس نابليون به صدراً) وثارت ثائرته عليه، وأن غضب له من شايعه من الوزراء البريطانيين وحاولوا أن يفلتوا من حملاتها بتكميم فمها. إلا أنه لم يكن من أمر إقرار (بلمرستون) لذلك الانقلاب الغير مشروع والذي كانت له اليد الطولي فيه إلا أن انتهى بعزله، إذ احتجت الملكة احتجاجاً حازماً على ما كان من خطل نهجه، وأبى عليه رئيس الوزارة قبول معاذيره أو إقراره على حججه. واختير فعلاً (لورد جرانفيل) خلفاً له ووزيراً للخارجية من وزارة رسل. وعقب ذلك بحولي الشهرين سقطت وزارة رسل بأجمعها. وتحين الفرصة (اللورد دربي) الذي خلف (لورد جون رسل) في رئاسة الوزارة. فما أن واتته - بمناسبة ما ثار وقتئذ من نقاش وما ألقى من خطب رداً على خطاب العرش - إلا أنحى إلى صحيفة التيمس بالملائمة وقبح منها ما كان من سفور النقد وصراحة العبارة زاعماً: (أنه إذا كان من حق الصحافة البريطانية في هذه الأيام أن تطمح لأن تقاسم الساسة سلطانهم، أفلا يحق عليها أيضاً أن تقاسمهم مسئولياتهم؟؟)
ولما كان (ديلان) صحفياً مستقلاً يعرف لحرية الرأي حقها وخطرها، فقد أحس من نفسه برغبة ملحة في ألا يدع هذه النظرية تمر من غير تحقيق وتمحيص ومن غير أن يظهر وجه الصواب منها، فأوحى إلى (روبرت لو) أن يفندها، وأن يبين للناس المبادئ التي تنظم كلا الأمرين حرية الصحافة وواجبات الصحفي في المجتمع الحر. ولقد نهض (لو) بهذه المحاجة برأي حازم وبصيرة نافذة؛ وإذ أخذ في مناهضة تلك المزاعم ومناقشة هذه القضية المنطقية التي أثارها (لورد دربي) بما زعمه من أن الصحافة التي تطمح في أن تشاطر الساسة سلطانهم يكون لزاما عليها أيضاً أن تشاطرهم مسئولياتهم، كتب في عدد التيمس الصادر في اليوم السادس من شهر فبراير عام 1852 المقال الآتي:
إذا كان الطرف الأول من هذه القضية ثابتاً مقرراً فلا جرم أن الطرف الثاني يتبعه في هذا الثبوت بداهة. ونحن من بين الناس جميعاً أقلهم ميلاً لأن نضع من شأن ما نهض به من عمل خطير أو ننكر ما يقع علينا من مسئوليات وما ننعم به من سلطان نستمده من قوة الشعب وثقة الجمهور. إلا أنه لا يسعنا مهما يتهيأ لنا من أمر هذا السلطان سواء أكان عظيماً أم صغيراً أن نقرر أن من مقتضياته أن نشاطر رجال السياسة أعمالهم، أو أن هذا السلطان مقيد بمثل ما يتقيد به وزراء التاج من قيود العمل والزمن. وبمثل ما يلازمهم من واجب ومسؤولية، فكل من هذين السلطانين متميز عن الآخر تمام التمييز في مقتضياته وواجباته. وهما على العموم أمران مستقلان، وأحياناً شيئان متعارضان يسيران على خطين متوازيين فلا يتقابلان، والصحافة تعبث بحريتها وتقيدها وتحد من نشاطها إثر تلك اللحظة التي تقبل فيها أن تشغل مركز المسود من السيد، وأن تنزل منزلة التابع من المتبوع؛ وهي إن عنيت بتأدية واجباتها باستقلال صحيح تام؛ وبالتالي بما يتطلبه منها جماع المصلحة العامة، لما وسعها أن تهادن رجال الساعة من الساسة أو تحالفهم، أو أن تخضع مالها من شأن خالد ونفع متواصل لما يتهيأ لأية حكومة من سلطان موقوت ونفوذ سرعان ما يزول عنها أو تزول عنه
(البقية في العدد القادم)
زين العابدين جمعة