مجلة الرسالة/العدد 435/أومن بالإنسان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 435/أومن بالإنسان

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 11 - 1941


11 - أومن بالإنسان

للأستاذ عبد المنعم خلاف

آلهة وحيوانات - عمل الطبيعة في تكوين الإنسان الواحد - أزهرت الأشجار وأدركت الثمار - مدينة خالدة ذات سلطان عجيب وشامل - جئنا لنحيا لا لنموت - الحياة بالفكر في المجاهل والمعامل - عبقرية المادة وعبقرية الروح - الذكاء البطر الجموح - إلى أحضان الأمم الكبرى.

إذا جردنا الإنسان مما أسبغته عليه الحياة المدنية من أفانينها وأنواعها وأشكالها ظهر لنا أن البون بعيداً جداً بين الإنسان الذي أخرجته الطبيعة، وهذا الإنسان الذي غيرته الصناعة وتعقيد الفكر. وظهر لنا بأن حياته الصناعية عالم مستقل منفصل خلقه هو. ولكنه عالم غير خالد ولا متوالد إلا باطراد تقدم الإنسان. بخلاف مخلوقات الله في الطبيعة فإنها أبدية دائمة تعمر بها الطبيعة.

وكلما فكرت في الفرق العظيم بين حياة رجل على الفطرة وبين حياة رجل ألماني أو إنكليزي أو أمريكي وعقدت موازنة بينهما المأكل والملبس والملهى والمركب والمعمل والإنتاج والفكر والإحاطة بآفاق الدنيا والتسلط على الطبيعة ظهر لي أن الأول يكاد يكون في صفوف نوع آخر غير الإنسان، وأن الثاني ينقصه الروح والعدل ليكون الإنسان المنشود البار بوصايا الله؛ لأنه هو الذي أحسن الأخذ عنه وخلفه في الماديات خلافة واسعة ونمت على يده الحياة وتنوعت وتشققت مجاريها وتوسعت. . .

ولا يجوز عقلاً أو شرعاً أن يعطى الأول الحياة وعزتها، وأن يتسلط على الثاني ما دام كل منهما على حالته. كما لا يجوز لحيوان أن يسخر إنسانا

وكلما استعرضت معارف الإنسان المدني المدونة في كتبه وصحفه وألواحه وأرضه وآثاره أدركت مبلغ ما حمله من أمانات الحياة. وأسرار الدنيا ذات الصمت والعمل.

ولا شك أن الإنسان العادي الذي يقرأ صحيفة يومية يحمل ذهنه من قضايا العالم وأخباره في الصباح والمساء ما لم يكن في حسبان أحد من السابقين ووجدانه. . .

ولا شك كذلك أن هذا كله قد ترك أثره الواسع الشامل في تكوين الذهن الإنساني الحالي وتكييف أعصابه وإحساسه بالحياة، غير ما كان عليه الناس في زمن المواصلات والثقافات المحدودة.

إن الأقدار تصنع عقل الإنسان الحديث وقلبه صناعة تشترك فيها كل معارف الحياة العصرية.

ومن الأعمال العظيمة التي تقوم بها الطبيعة الآن عملها في تكوين الإنسان الواحد الخاضع لمؤثرات الواحدة. ونحن الذين يقع علينا تأثير أعمالها العظيمة ونعيش في غيبوبة عن خطواتها بنا لا يدرك منا هذا التأثير إلا الراصدون المسجلون الذين تجعلهم الأقدار مخصصين لرصد خطوات الحياة وتسجيل ظواهرها. وهؤلاء يكادون يكونون نادين عن حبال الشبكة التي تلف غيرهم من أبناء الحياة.

لقد تركزت المعلومات فصارت القارات كالقرى. . . وملايين الجنود كأصابع اليد. . . والدبابات كالنعال. . . والطائرات كالعصافير. . . وأخبار العالم كله كأخبار الحي الواحد. . .!

وهكذا تتركز الحياة وتتلخص في فكر الإنسان وتختزل صورها العظيمة في أرقام وحروف. . .

هذا العصر جدير أن يسمى (عصر الفوران والغليان) - على سبيل التشبيه بسطح ماء في وعاء على نار - فقد لبث سطح الحياة ساكناً في عصورها السالفة لا يتحرك إلا حركات موضعية. كما يلبث سطح الماء أول ما يوقد عليه في النار. حتى إذا ما وصلت حرارته إلى درجة الغليان هدر وفار وأشتد وقذف وتبخر وتحول. . .

إن عوامل الحرارة كانت تحته من قديم، ولكنها لم تصل معه إلى درجة الإنضاج والحركة السريعة والتحويل إلا أخيراً. وكذلك عصر الإنسانية الحالي هو عصر ظهور كوامن أسرارها وأسرار الطبيعة ظهوراً شديداً متلاحقاً.

وقد انكشفت حيوات جميع الناس للناس؛ فعلموا أنواعهم ولغاتهم وأديانهم ومذاهبهم في الحياة.

وقد كانوا ضائعين مغمورين تائهين كأسرة مفرقة فرقها حادث. . . ثم جمعتهم الظروف مرة ثانية. . .

أني أتخيل صورة الدنيا في عقول ساكنيها الأولين، وصورتها الآن في عقول بنيها المثقفين، فيصيبنا دهش مشوب بفرح وبهجة وشكر لله على تسديده الإنسان إلى غاية ابتدأت تنكشف وجوهها.

وكان الأنبياء والحكماء القدماء وحدهم هم المدركين وجهات الحياة. وكانوا في الناس وما يكون البصير بين عميان، والأب الكبير بين صبيان، والراعي بين قطعان. وكان قليل من الناس هم الذين يدركون ما يشيرون إليه. ولكن الآن صار العلم والدين والإدراك الصحيح شيئاً مشاعاً كالهواء والماء، تقاربت فيه المعتقدات والآراء.

أجل، هذا زمن حصاد جهود الإنسانية؛ فقد أزهرت الأزهار وأدركت الثمار، وظهر الحقل مستوى السوق مستغلظ الأعوام، قد أينعت فيه عُلب الأسرار وحان قطافها!!

انظر في بقاع الأرض جميعها تجد إنسانية تفتح عيونها وتستيقظ من غفلاتها لتدرك الحياة الحديثة وتشترك فيها وتتلاقى مع غيرها في خدمتها. وقد زال الانبهام والغموض اللذان كانت تحسمها عقول الإنسانية والمتوسطة في ظواهر الحياة. وصار الإنسان معتمداً على نفسه وحسابها الدقيق وأخذها بأساليب الطبيعة في الإنتاج والاختراع، وترك الاعتماد على الأماني، فضاقت دائرة الاعتماد على الأقدار. . .

ولنتلفت إلى الماضي كثيراً لندرك مدى ما كسبناه وحصلناه من محصولات الحياة كإنسانية واحدة وضع كل شعب وكل حضارة لبنة في بنائها، حتى خرجت هذه الحضارة العالمية المشتركة التي أقحمت كل قطر وكل مدينة في الأرض، وصارت كقدر الله الذي لا مرد له ولا مفر منه.

إنها حضارة باقية خالدة لن تبيد ولن تفنى ولن ترتد! إذ أن بذورها ألقيت في كل مكان ونبتت فيه. فلئن ذهبت أوربا إلى الخراب والدمار لسوف تبقى أمريكا. . . ولئن ذهبتا معاً لسوف يحمل المشعل أمم الشرق وتلك الأمم المنثورة في أرض الله وجزر المحيطات وغيرهم ممن اقتنعوا بأن هذه المدنية هي نبوة الطبيعة ذات المعجزات الدائمة التي لا مفر من الإيمان بها والعمل لها وأن هذا العصر هو أوان حصاد الغلال وجني القطاف التي زرعها وتعهدها الأقدمون، وزادت كل أمة في ميراثها حتى صار فيها من كل قطر وردٌ ومن كل أمة مدد ورفدٌ.

إن هذه مدنية فرضت نفسها فرضاً على الناس جميعاً. فرضت آلامها وشرورها كما فرضت إسعادها وخيراتها وعلومها، وصار الناس لا يستطيعون منها فراراً بعد ما دخلت عليهم أقطارهم قسراً واقتداراً.

هي قدر لازم لا فكاك منه كأنها الرياح والأمطار والأشعة ومما يؤكد أنها خالدة مؤبدة انتشارها في كل مكان وليست كالمدنيات السالفة الموضعية ذات العصبية القومية. لأنها قامت على العلم الذي لا تتناقض حقائقه بتعدد الأماكن والأجناس، بل تتلاءم وتتوافق بتوافق قوانين الطبيعة الواحدة

وكانت المدنيات السابقة تجارب وجذوراً متشعبة لجذع عظيم هو هذه المدنية الحالية

ولم يحدث في الماضي أن صبغت مدنية الناس جميعاً كما فعلت هذه المدنية، فخضع لها الموحد والوثني والملحد والمؤمن والزنجي والإسكيمي والشرقي والغربي

ولم يحدث أن وجدت ميادين كثيرة مشتركة بين الناس جميعاً كما وجدت ميادين النشاط العلمي والآلي والصناعي والسياسي والأدبي في رحاب هذه المدنية.

ولم يحدث أن اشتبكت مصالح الناس جميعاً كما اشتبكت الآن بفعل السرعة وسهولة الانتقال وتبادل المنافع وتشعب الاحتياجات.

ولم يحدث أن درست ثقافة واحدة في مدارس الأمم جميعاً كما درست هذه الثقافة العصرية.

فأي مكان نجا من سلطان مدنية الزمان؟

أي طريق لم تجس خلاله سيارة؟ وأي جو لم تخفق فيه الطيارة؟ وأي بلد لم يستصبح بنور الكهرباء؟

إن هذه المدنية تحيط بالإنسان في كل أفق من آفاق حياته. وإني استعرض الآن كل ما يحيط بي وأنا أكتب فأجد جميع ما تقع عليه عيني قد اشتركت فيه آلاف العمليات الإنسانية المعقدة. وقد صار إحساسي بها كإحساسي بضرورات حياتي. وأكاد لا أرى شيئاً خالصاً من يد الطبيعة وحدها إلا جسمي. . . وحتى هو لم يسلم من هندسة الحلاق و (رتوشه)!

ويمكنك أن تجرد الأرض مم فعله الإنسان فيها وما عقده وركبه، لتدرك مدى الحياة الأرضية من غيره ومدى العالم الذي أحدثه هو. . . وإذا ألقيت نظرة على شارع في نيويورك أو لندن أو القاهرة فإنه يروعك أن ترى ما في مخازنه ومناظره وآثار الأيدي التي عملت فيه، حتى لا تستطيع بعض الأذهان أن تتخيل الدنيا خالية منه من طول الألفة وطول الغفلة عن التفكير في مبادئ الحياة. . .

طوفوا في شوارعكم أيها الناس بقلب ذاكر للطبيعة مدرك لمباديها لتعرفوا مقدار ما بينكم وبينها ومقدار قوتكم الابتداعية فتتلفتوا لأنفسكم متعجبين محترمين محافظين عليها وعلى قواها الفكرية والإنتاجية من الضياع والذهول والغفلات!

إن أفراح الحياة تغمر قلبي حين أطوف بجسمي في الشوارع العظيمة، أو حين تطوف بي الحياة في دور السينما، فأرى عجائب ما استحدثه الإنسان في عوالم المواد والمعاني. . .

ولست أزهد في رؤية الحياة المادية وتقصي دقائقها، لأن كل دقيقة منها ترسل في قلبي دقيقة من التعجب والإيمان. . .

ما جئنا للحياة لنموت ونستحضر فلسفة الموت من أول يوم، والقبر ليس نهاية بل بداية مرحلة تالية. . . فعلى الذين يجعلون القبور نصب أعينهم فيهونوا من أجلها كل عظيم ولو كان الصحة أو العلم أو التفاؤل، أن يعلموا أنهم جاءوا ليحيوا ويحسوا الحياة عميقة فيما خلق الله من شيء، وينتفعوا به انتفاع الحلال والعقل والحفظ. . .

ومن الكفر أن نترك الأجسام فريسة للجراثيم الفاتكة والآفات وعوامل الشؤم انتظاراً للموت الأكبر. . . فيدب فيها منذ ولادتنا

كذلك يجب أن يكون إيمان الرجل المتمدن. . . إيمان البصير الواثق بأن عمل النفس البشرية في المادة باب إلى الإيمان لا الكفر كما يتوهم الأغبياء البلداء الأغرار!

إني لا أعيش في نفسي وحدها، ولكني أعيش في نفوس بني الدنيا جميعاً، لأرى الحياة بعيونهم من آفاقهم، حتى أخرج ومعي الكثير من أسرار الحياة في القلوب والعقول. . .

وأنصح لأصحاب الإيمان التقليدي أن يستحدثوا في قلوبهم ونظراتهم ما أستحدث، ليعرفوا أي لذة وأي إيمان مضاعف يغمر قلوبهم. . .

وأنصح لأصحاب النظرة المادية والذهول عن المعاني، أن يستحضروا أرواحهم وراء كل نظرة وكل عمل وكل علم. . . فإن هذا هو الوضع الحقيقي لحياة الفكر والاستعمال الحق للروح وقوى الجسم. . .

ولنعش بأفكارنا وأرواحنا دائماً، سواء أكنا في غابات خط الاستواء، حيث الطبيعة بكر غير مفضوضة لم يطمثها إنس ولا جان. . . أم في مصانع (فورد) بنيويورك، حيث يدور الفكر مع الحديد في ضجة وتعقيد وقدرة!

الغربيون قدموا لنا عبقرية المادة، فلنقدم لهم عبقرية الروح. . . فلنخدم أرواحهم كما خدموا أجسامنا. . .!

إنهم استغنوا بذكائهم عما وراء الطبيعة، وقد كفهم ذكاؤهم تدبير أمورهم كلها فيما يخيل إليهم مع أن الواقع أنهم في شبكة الأقدار العليا والتدبير الشامل لحياة الأرض. والرجل الذكي غني بالحيل وتجدد الأفكار. والغني يبعث دائما على الطغيان. ومن هنا أتى الغربيون ودخلت عليهم نكبات الحياة لأنهم اعتمدوا على غنى ذكائهم وحده.

وحين يستغني الطفل بذكائه وقدرته عن ثدي أمه ورعايتها، ويعلو مستواه البدني والعقلي عن مستواه، فذلك عهد ابتداء عقوقه إياها إذا لم يكن ذا ذخيرة موفورة من الإدراك والحب والرحمة والأدب، وما دام ينسى أنه قطعة قدت من جسمها وقلبها، وأنها الوشيجة الوثيقة بينه وبين أرومة الحياة والطبيعة.

وكذلك ينسى الإنسان الذكي عجزه أمام قهر صاحب الطبيعة ويستغني بذكائه عن الاستمداد منه والاستيحاء منها فيصير مخلوقاً يكاد يكون ذا صلة بينه وبين ما في الطبيعة من موجودات تسير طائعة بالإلهام والتوجيه.

فهل نترك الغربيين يذهبون بأرواحنا وأرواحهم في أودية بعيدة عن الرحمة والعدالة والأشواق إلى المجهول والبحث عن الله ذي الجلال؟!

أنتركها ونتركهم للحديد البليد القاسي يطبعها بطابعه، ويوحي إليها ببأسه سياسة البطش والطغيان، ويشغلها بضجته المنكرة عن همسات القلوب وأصوات الضمائر؟

إننا إن تركناهم وتبعناهم على الخير والشر فسوف نكون فرائسهم وجزر سيوفهم وطحين طواحينهم الحديدية الحمراء!

فلنذكرهم بمبادئ الطبيعة أمنا وأمهم، تلك المبادئ التي فيها من منطق الوجدان أكثر ما فيها من الذكاء الجامح وقوة الاختيار من غير ضابط من هدى الطبيعة.

وإن الطبيعة لتذكر أبنائها دائماً بوصايا الحق والعدل كما تذكر الأم البسيطة أبنائها الأذكياء بوصاياها وعواطفها التي بنت عليها عشها. فمهما اختلفت أفكار الناس وأخلاقهم فإنهم يتوحدون حين يقفون بين يدي الطبيعة ويشعرون بشعور واحد فيه صدق الفطرة واعتدالها.

ومبادئ الأمومة وجوها وبساطتها وعدم تكلفها، والحنين إليها والشوق إلى مهدها يجب ألا تنسى؛ لكي يعيش الإنسان باراً بريئاً عامر القلب بالعواطف الشريفة ذات التأثير الكريم في خدمة الحياة!

وكما يوصف الرجل الذي يهجر أمه بالعقوق واللؤم مهما كانت هي بسيطة جاهلة، ومهما كان هو فائق العقل واسع العلم عريض الجاه، كذلك يوصف الرجل بالعقوق حين يهجر أحضان الأم الكبرى الطبيعة، أوحين يؤذي أو يهمل اخوته منها!

عبد المنعم محمد خلاف