مجلة الرسالة/العدد 430/ناحية من طاغور
مجلة الرسالة/العدد 430/ناحية من طاغور
يجب أن نفهمها نحن. . .
للأستاذ حسين مروة
لم ترتعش روحي ارتعاشة الجزع في تلك اللحظة وحدها: لحظة أذاع الأثير نبأ وفاة طاغور، بل قد سرت فيها الرعشة كموجة الكهرباء منذ استطار في العالم أن طاغور يعاني آلام المرض الخطير، إذ اختلج في إحساسي - حينذاك - أن هذه الإنسانية الكاملة التي تجتمع كلها في شخص هذا العظيم، قد أشرفت على ساعة الانتقال من دنيانا هذه إلى دنياها الجميلة في ملكوت الله، حيث تبلغ روح طاغور قمة الفرح الأسمى التي نشدتها بالحب الإلهي، وبالتأمل في جمال الأكوان التي (تحلها) روح الله.
قد اختلج في إحساسي - حينذاك - أن إنسانيتنا المسكينة تكاد تلتهمها لجة اليأس بانقطاع هذا الخيط الجميل من النور الأمل الذي يمتد إليها من صوت طاغور.
قد اختلج في إحساسي - حينذاك - أن أرضنا المعذبة تكاد تفقد فضلة إيمانها بالعدل والحق والخير، بانطفاء هذا القبس الوهاج من إيمان طاغور.
قد اختلج في إحساسي، كذلك أن ناس هذا الجيل تكاد تسكت في جوانب ضمائرهم أصداء هذه الأنشودة الرخيمة التي يترعها قلب طاغور رحمة ودعوة صالحة للسلام، فلا تتجاوب في ضمائرهم - من بعد - إلا أصداء أنشودة واحدة تتعالى في جوانب هذه الأرض من كل صوب، يوقعها قلب ماردٍ جبار يحدو بالإنسانية إلى هاوية الخراب والدمار: تلك أنشودة الحرب التي تجلجل اليوم في الضمائر أكثر مما تجلجل في الآذان.
ويا سرعان ما صدق القدر كل هذا الذي اختلج في إحساسي منذ تأذن الأثير باشتداد وطأة المرض على جسم طاغور، ويا سرعان ما أزفت لحظة القدر، فإذا هذا الإنسان العظيم يصعد إلى القمة العليا لينعم بحبه في كنف الحبيب الأعلى، تاركاً هذه البشرية تزحف في السفح الرهيب بين الآثام والأرجاس كما تزحف الحشرات الدنيا في الأقذار والأنجاس.
وبعد: لقد مات طاغور، فمن هو طاغور؟
أهو شاعر؟ أجل: ولكن شاعر يتغنى بأشواق الروح ليطهر أشواق الجسد، ويعلن نداء الخير ليسكت صرخة الشر، ويشهد بجمال الموت ليسمو بجبال الحياة، ويهدهد أحلام القلب ليزين جلال العقل، ويعقد أفراح الأمل ليهدم أبراج اليأس.
أهو فيلسوف؟ نعم: ولكن فيلسوف يتسامى إلى ما وراء الطبيعة لا لكي يهجر بيت الطبيعة، بل لكي يستجلي أسرارها على هدى من الإشراق الإلهي، ويستخرج كنوزها بعونٍ من القدرة العليا المبدعة، ويستكشف فضائلها وخيراتها على ضوء من صفاء الروح، وسمو النفس، وبساطة الفطرة، ووضوح العقيدة، وحرارة الإيمان، وهذه هي خلاصة فلسفة الشرق القديم مجلوة بروح جديدة، هي روح طاغور الصافية، الطليقة، السمحة.
أهو صوفي؟ أجل: هو كذلك، ولكن أية صوفية هذه التي يلبس (جبتها) طاغور؟
هي لون جديد في دنيا التصوف، لون محبب للنفس ومحبب للعقل معاً، لأنها صوفية جميلة أنيقة مترفة، لا تتقشف ولا تتزهد ولا تتزمت، وهي - حين تسمو بروح طاغور عن دنيا البشر لتفنيها في ذات الله فناء مطلقاً - لا تذهلها نشوة الفناء عن آلام بني الإنسان وشقاء أبناء التراب، وإنما هي تستمد من حبها الإلهي السامي، ومن نشوتها الروحية العليا - فيضاً من الحب للإنسانية جمعاء، بل هي كلما أمعنت في الاقتراب من الحبيب الأعلى أمعنت في الاقتراب من الإنسانية: تتلمس آلامها، وتتحسس أحزانها، وتتأثر مواطن شقائها، ذلك لكي تقيم الدليل، بأسلوب من إلهام الروح، على أن رابطة الحب السامي بين الله والإنسانية هي أسمى روابط الحب، وهي أهدى طرق النجاة من هذه الآلام والأحزان وهذه الضروب المختلفة من الشقاء التي يعانيها الإنسان على هذه الأرض، ولكي ترى هذه الصوفية العذبة على وضح الإدراك الصحيح - يجب أن تقف بفكرك لحظة عند هذه الأغنية من أغاني (البستاني) التي يستهلها طاغور بنداء يهتف به أن: (قد آذنت شمسك بالمغيب واشتعل رأسك شيباً، فحسبك غناء وإنشاداً، بل آن لك أن تصغي وتصيخ إلى داعي (الغد) فتقول: لبيك)
فبماذا يجيب طاغور هذا النداء؟:
(. . . من للقلوب وعواطفها، وللعيون وأسرارها إذا أنا تبوأت من ساحل الحياة صخرة صماء ولبثت شاخصاً إلى أكمة الموت وما وراءها)
أتراه الآن صوفياً كهؤلاء الصوفية المتزمتين الغارقين في لذاذة الفناء بالله حتى لا يحسون الحياة ولا تحسهم الحياة؟ لا: بل إنك لتراه إنساناً طفحت نفسه بالحياة حتى تملاها إحساساً، وتملكته رسالتها إيماناً وعشقاً، واتحد فيها حبه الإلهي وحبه الإنساني معاً، وما الحياة - في فلسفة طاغور - إلا مجلي من مجالي الروح الإلهية العليا، ومن هنا كان طاغور (الصوفي) منسجماً مع طاغور (القصصي) أو (الروائي) إذ تراه في قصصه ورواياته يتناول صغائر حياة الناس ودقائقها يحللها ويجلوها صوراً إنسانية قوية الحركة والحيوية، تثير في النفس ألواناً من العواطف والاحساسات النبيلة. ومن هنا أيضاً كان طاغور (الصوفي) منسجماً مع طاغور (الشاعر) ذلك الانسجام نفسه، فتصوف الرجل لا يعني - في الواقع - إلا الحب بأرحب معانيه: الحب المنبثق من نفس رحبة تحب الله لكونه هو الله، وتحب الإنسان لكونه إنساناً؛ وإنك إذا رأيت إنساناً يدعي الإغراق في حب الذات الكلية العظمى، ثم ينأى عن أخيه الإنسان ويضن عليه بحبه؛ فقل: إن هذا لا يعرف الله حقاً، ولا يحبه حقاً، وإنما هو يحب نفسه ليس غير: يشفق عليها من العذاب الخالد، أو يرجو لها النعيم الخالد.
ومن هذا كله ترى طاغور الشاعر، والفيلسوف، والصوفي، والقصصي - يأتلف وينسجم مع طاغور (المصور) و (الموسيقي) أجل وأتقن ما يكون الائتلاف والانسجام، ذلك لان شاعريته الرحبة، وفلسفته المشرقة، وصوفيته السمحة، وفنه القصصي الحي - ليست هي كلها سوى مظهر من مظاهر رسالته الروحية التي شاء الله أن يلقيها إلى إنسان تتسع نفسه للتعبير عنها بكل ضربٍ من ضروب التعبير الجميل.
أما طاغور (الإنساني) فهو هو نفسه ذلك الإنسان المتعدد الجوانب، المتنوع (الشخصيات)، وليست إنسانيته (شخصية) مستقلة مندمجة في (شخصياته) تلك، لأن الروح الإنساني الشامل هو مركز قوة لكل ناحية من نواحيه، بل تكاد تنحصر عظمة هاتيك النواحي بما تمدها به هذه الإنسانية الكبيرة من معاني السمو، والسباحة، والصفاء، والشمول؛ وبكلمة واحدة: إن جوانب طاغور المتعددة، وإن مواهبه المتنوعة لتجتمع كلها في هذه (الإنسانية) الرحبة فتؤلف منها شخصية واحدة تشبه الكل البسيط الذي لا يتجزأ ولا يقبل التحليل والتفكيك.
بقيت ناحية واحدة غفلت ذكرها فيما سبق عمداً لأنها هي الناحية التي أقصد إليها في عنوان هذا المقال، ولذلك أردت أن أتحدث عنها منفردة لكي أبلغ القصد الذي ارمي إليه، وإن كانت هذه الناحية ليست إلا وجهاً من وجوه الصفة الإنسانية الغالبة على روح طاغور، وأعني بهذه الناحية وطنية الرجل، أو مفهوم الوطنية في تفكيره، وفي اتجاهه الروحي، وهنا أحب أن أعترف للقارئ الكريم بأنني - حين أقدمت على التعبير عما أحسست من جزع لفقد هذا الإنسان العظيم - لم أطمح لدراسته دراسة (تستوعب نواحي عظمته جميعاً، وهي لأبعد من أن تنال بهذه الكلمات الطائرة، ولكنني أردت أن أستعين بهذا القدر الضئيل الذي أملك من الطاقة الروحية والذهنية على الوفاء بواجب ذي وجهين: وجه يتعلق بهذا العظيم الذي بلغ نشوته الكبرى بلقاء الروح الكلي الأعظم، ووجه يتعلق بهذا الوطن العربي الذي يتقاضانا استخلاص العبرة، واستخراج ناحية الانتفاع العملي من سيرة هذا العظيم، وإذا كانت نواحي طاغور كلها موضع الانتفاع لكل وطن، وكل قوم، وكل فرد - فإن ناحيته الوطنية أشد لصوقاً بما نحن فيه اليوم من أحوال وظروف، لأننا اليوم أحوج ما نكون إلى تفهم معنى الوطنية على ضوء جلي من تفكير وإلهام هذا الإنسان الملهم، فلقد كادت تنقلب عندنا مقاييس الوطنية انقلاباً غريباً، حتى كادت تكون الوطنية التي نفهمها هذه الأيام لا تعني سوى ارتقاب واغتنام أقصر الفرص لكسب الرزق أو الشهوة أو الحكم، سواء أكان في ذلك خير الوطن أم جلب الضر إليه، وسواء أكان في ذلك تخفيف الشقاء عن أهليه أم إنزال الشقاء عليهم أضعافاً مضاعفة.
إن طاغور (الإنساني) الذي يشمل الإنسانية جمعاء بحبه وحنوه وصفاء قلبه، هو نفسه طاغور (الوطني) الذي أفاض على الهند من هذا الحب والحنو والصفاء ما عرفه الهنود أنفسهم وقدروه قدره، وقابلوه بفيض مثله من الحب والإكبار والإيمان، وهل هذا غريب؟
كلا: ليس شيء أقرب للاتساق مع الطبيعة والمنطق من أن يكون طاغور الإنساني وطنياً صادقاً، عميق الإخلاص، يؤثر مواطنيه بقسط كبير مما وهب قلبه الكبير من الحب الدافق والحنان الشامل، ولكن ما هو مفهوم هذه الوطنية التي تتسق ذلك الاتساق مع نزعة إنسانية تتخطى الحدود والمعالم، وتتخطى العرف والتقاليد والأوضاع؟!
نترك الحديث عن وطنية طاغور وعن حدود هذه الوطنية في ذهنه - إلى سيرته العملية أولاً، ثم إلى آثاره الأدبية ثانياً أما سيرته العملية فتتجلى فيها وطنيته من نواح عدة: فلقد عنى طاغور برفع مستوى شعبه العقلي والروحي والاجتماعي عناية تظهر آثارها العظيمة فيما أسس من مدارس لتطبيق تعاليمه الفكرية والروحية والاجتماعية: تعاليمه التي يؤمن بها إيماناً منقطع النظير، وتتملكه رسالتها النبيلة تملكاً يشبه من وجوه كثيرة حالات القديسين، تلك التعاليم التي كانت في عقيدته خير وسيلة لإنقاذ الشعب الهندي من صغاره وعبوديته، ومن شقائه وبلائه، ومن ضعته وانحطاطه، ولعل أروع ظاهرة في سيرته العملية هذه، هي محاولته التخفيف من حدة التقاليد البرهمية التي كانت توسع شقة الفوارق والحواجز بين طبقات الشعب وطوائفه، وأنبل مظاهر هذه المحاولة تأسيس طاغور مدرسة عالية لطائفة المنبوذين ليثقفهم تثقيفاً عقلياً وروحياً يغرس في نفوسهم الاعتزاز بكرامتهم الإنسانية، ويشعرهم بأقدارهم في الوجود، ولقد أفاد طاغور من هذه المحاولة أن بث في روحية هؤلاء المنبوذين الخامدة لهباً من روحه كاد يقربهم منزلة من الطبقات الأخرى المترفعة عنهم، وفي هذه المحاولة - كما ترى - مظهر رائع للوطنية الحق، بمقدار ما فيها من نزعته الإنسانية النبيلة، وفي سيرته العملية مظهر آخر للوطنية يتجلى في دعوته إلى إخماد لهب الأحقاد بين المسلمين والهندوس، وإطفاء ثائرة البغضاء بين جميع الطوائف التي تؤلف شعوب الهند، ولقد كانت له في هذا السبيل صيحات كريمة نافعة.
فها أنت ترى أن الوطنية في عرف طاغور ليست عملاً سلبياً مبنياً على الصراخ والتهويش والادعاء الفارغ والتشدق بالألفاظ الفخمة المجنحة، بل هي عمل إيجابي صامت يبني وينشئ ويتناول بالبناء والإنشاء عقل الأمة وروحها قبل كل شيء، لأن الأمة في رأيه ليست أمة حقاً إذا لم تكن ذات عقل ناضج وروح سام، وذات وحدة عقلية وروحية شاملة، على أن تكون في وحدتها العقلية والروحية مجتمعة على الإيمان بمثلها العليا، إيماناً يلهب وجدانها بنزعة التأمل في جمال هذه المثل الكريمة، وبنزعة التقديس لمظاهر الألوهة في هذا الكون العظيم.
هذه أروع مجالي الوطنية في سيرة طاغور العملية، وهي في ذاتها أمثلة عالية للاعتبار والاحتذاء، وهي كذلك حدود واضحة لمعنى الوطنية الصحيح. أما ما تحدثنا به آثار هذا الرجل الأدبية عن مفهوم الوطنية في ذهنه، فحسبك أن تقف من ذلك على بعض رواياته التي يدير فيها الحوار على ألسنة أشخاصها مشبعاً بالآراء والأفكار السامية حول موضوع الوطنية وحدودها، ولعل في روايته (البيت والعالم) أعظم آرائه وأفكاره في هذا الباب، فلقد دارت هذه الرواية كلها حول هذه النقطة، وهي حدود معنى الوطنية كما تستقر في ذهني شخصين يختلفان كل الاختلاف بالاتجاه الفكري وبالمزايا النفسية وبالنزعات الخلقية أما أحدهما (سانديب)، فهو زعيم وطني يثير حماسة الجماهير ببلاغة منطقه وبقوة إيحائه النفسي، وبهذا الأسلوب نفسه، يلهب حقد الشعب على الأجانب، ويدفعه إلى مقاطعة بضائعهم، ويغريه بإيذاء المواطنين المتخلفين عن تنفيذ تعاليمه بكل وسيلة من وسائل الإيذاء، بل يغريه في سبيل ذلك باستباحة كل جريمة وبارتكاب كل منكر؛ وأما ثانيهما (نيكهل)، فهو من راجات الهند، مثقف ثقافة عالية، ومهذب تهذيباً نفسياً سامياً عجيباً، وبسمو تهذيبه هذا استطاع أن يطهر نفسه من الأحقاد والأضغان، وأن يحملها على الهدوء والصفاء والتسامح في وجه الأزمات والرجات النفسية، وفي وجه الأشخاص الذين يحدثون هذه الأزمات والرجات في مجرى حياته، وجاهد في أن يطهر نفسه أيضاً من نوازع الأنانية العمياء التي تضحي بهناء الآخرين وشخصياتهم في سبيل هناء وشخصية صاحبها، ثم يصوره لنا طاغور رجلاً قوي السلطان على نفسه إلى غاية استطاع عندها أن يكون إنساناً سامياً حقاً، ثم يصوره رجلاً وطنياً يحب هناء شعبه ورخاءه وصون كرامته، ولكنه لا يتبجح بوطنيته هذه، بل يعمل لها بهدوء وصمت: ينشئ المعامل لتشغيل العمال وتوفير الحاجات الصناعية الوطنية، ويقتني لبيته الأثاث الوطني ويتغذى الأغذية الوطنية، ويستعمل أدوات الزينة الوطنية، ولكنه - مع كل ذلك - لا يحاول إيذاء الأجنبي بإخراج بضائعه من مقاطعته، أو إحراقها كما يفعل (سانديب)، ولا يحاول أن يقهر أحداً من مواطنيه على استعمال بضاعة معينة، لكي لا يكون في ذلك حرج أو ضرر عليه، وهو - من أجل هذا - يقف من حركة (سانديب) موقف التحفظ والحذر، وقد يحاول أن يجادل (سانديب) في أساليب حركته العنيفة، مصطنعاً في جداله الهدوء والمنطق الرزين، مبتعداً في هذا الجدال أيضاً عن التأثر بالعصبية لرأيه رغم إيمانه به كل الإيمان. أما (سانديب)، فيصوره طاغور على النقيض من صورة (نيكهل) هذه، إذ يرينا نفسه تصطخب بدوافع ونوازع هائلة مخيفة، ويرينا شخصيته لا تعتمد في تزعم الحركة الوطنية إلا على بلاغة المنطق وقوة الاستهواء، بل لقد صوره طاغور رجلاً خداعاً ماكراً يستبيح لنفسه السرقة باسم الوطنية، ولا يجد حرجاً في إغراء زوجة (نيكهل) بالتمرد على حياتها الزوجية الوادعة المطمئنة، المغمورة بسعادة الحب الجميل، مستغلاً نزعتها الخيالية ليستفيد من أموالها، يروي بها شهوات نفسه المتعطشة للزعامة لذاتها كغاية لا وسيلة، وهكذا يستمر طاغور متتبعاً خطوات (سانديب) في حركته الطاغية العنيفة حتى يستحل في سبيلها خداع زوجة (نيكهل)، وهدم هناءتها الزوجية، وهدم أحلامها العظيمة التي بناها هو لها في خيالها الملتهب، وحتى ينهي حياة هذه الأسرة الطيبة بفاجعة مروعة على حساب وطنيته المموهة.
بهذا التصوير البارع يحدد لنا طاغور حقيقة الوطنية كما يرتضيها هو، وكما يؤمن بها كوسيلة للعمل المنتج في سبيل الأوطان، ولعل هذا العرض يبقى ناقصاً إذا لم نشفعه ببضعة آراء وأفكار خطيرة أدارها على لسان (نيكهل) الذي يبدو لنا أنه هو الشخص المختار في هذه الرواية لتمثيل آراء طاغور نفسه في الوطنية، وأنا أعرض هذه الآراء والأفكار لا لأجل إيضاح معنى الوطنية عند طاغور وحسب، بل لأجل أن تكون أمثالاً عليا نؤمن نحن بها، ونحفر لها مستقراً أميناً في قرارات وعينا، لعلها تكون عوناً لنا في هذه الظروف والأحوال التي تحيط بنا اليوم:
قال (نيكهل) بعد أن أخرج المربية الأجنبية من قصره بتأثير ضغط الحركة الوطنية التي يقودها (سانديب)، وقد شيعها بنفسه في عربته فانتقدته الصحافة الوطنية المتطرفة لأجل ذلك مر الانتقاد: (إنني أخدم بلادي ولكني لا أعبدها، فإني أعبد الحق وهو أعظم من بلادي، أما من يعبد بلاده كما يعبد الله فهو يسئ إليها ويتوهم أنه من المحسنين).
وكان نيكهل يجادل سانديب في بعض آرائه الوطنية فقال له: (. . . أما حقيقة رأيي - الكلام لنيكهل - فهي أن الذي لا يستطيع أن يتحمس لبلاده كما هي حقيقة، والذي لا يستطيع أن يحب إنساناً لمجرد كونه إنساناً، والذي يريد تأليه وطنه بالهتاف والهياج - فهو يحب الهياج أكثر مما يحب وطنه).
وحين شاع أن خزينة المهراجا قد سرقت جاء إلى (نيكهل) أستاذه الحكيم، وفيما هذا يتحدث عن (سانديب) وأتباعه قال هذه الكلمة العظيمة يعني بها رجال الحركة المتطرفين: (لقد وضعوا الوطن حيث طردوا الضمير)
وقال (نيكهل) وهو في نقاش مع (سانديب):
(إني أقول لك الحقيقة (يا سانديب): إنك تجرح عواطفي حين تدعو الظلم واجباً، وتطلق على البغي اسم الخيال الأدبي، فليس العقل هو الذي يمنعني عن السرقة بل الذي يمنعني عنها عاطفة تدعوني إلى احترام نفسي)
اكتفى بهذا القدر لأن الإطالة قد بلغت حداً لم أكن أقصد إليه. أما بعد: فيا أيها الإنسان العظيم الناعم الآن بفرحة الحب الأسمى، لقد بلغت رسالتك الجميلة، وأسكرت الدنيا بترانيمك المترعة رحمة ومحبة، ودعوة للسلام والألفة، فمن حقك أن تهنأ الآن بلقاء حبيبك الأعظم، ومن حقك على الدنيا هذه أن تذكر فضلك، وأن تهتدي بهدى روحك العظيم يوم تصحو من هذا الجنون المطبق، وهي لابد أن تصحو يوماً.
(بغداد)
حسين مروة