مجلة الرسالة/العدد 430/الحديث ذو شجون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 430/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1941


للدكتور زكي مبارك

الدراسة الجامعية كما يفهمها الأستاذ أحمد أمين - كيف

تغترب ومعك قلمك؟ - الشكوى إلى ضريح الإمام الشافعي

تصور يأس الناس من العدل في الأرض، فهم يلتمسونه في

السماء - إلى وزير الأوقاف - مسابقة الأدب العربي لطلبة

السنة التوجيهية. . .

الدراسة الجامعية

للأستاذ أحمد أمين آراء تظهر من وقت إلى وقت، فتدل على مبلغ فهمه للحياة الأدبية والاجتماعية، وهي آراء لا تحتمل النقض، لأنها في الأغلب واهية البنيان، والمعول لا ينقض إلا على البناء المتين.

وآخر ما صدر من تلك الآراء، هو حكمه على الدراسة الجامعية، فهو يرى أنها (تجعل من الحبة قبة، ومن الهزل جداً، وإن شاءت فمن الجد هزلاً)؛ ثم يقرر بعبارة صريحة أن الدراسة الجامعية: (تميت الحي وتحي الميت، فهي تحيي اللاتينية واليونانية والحبشية والأكادية وقد ماتت، وهي تميت الحي، فتدرس اللغات الحية دراسة تميتها وتفقدها روحها، وتبعد عن تذوقها، ولذلك قل أن تخرج الجامعة أديباً شاعراً أو كاتباً، وإنما تخرج أديباً ناقداً أو أديباً عالماً؛ ومن كان أديباً من رجال الجامعة فمن طبعه ونفسه، لا من الدراسات الجامعية، وإن شئت فقل إنه أديب برغم الدراسات الجامعية، لا بفضل الدراسات الجامعية)

ذلك ما قاله الأستاذ أحمد أمين في العدد 142 من مجلة الثقافة الغراء، وهو اعجب ما صدر عن هذا الرجل المفضال.

وقبل أن أنقض رأيه في الدراسة الجامعية أقرر أن كلية الآداب لا تطوق بهذا الرأي، ولن يكون حجة على أساتذتها وطلابها وخريجيها، فيشمت فيهم الدرعميون والكلغريون.

فكلية الآداب هي صوت مصر الأدبي في الشرق، ولن يضيرها أن يخطئ أحد المنتسب إليها بكلمة يكتبها في وقت لم يكن يصلح فيه لجد ولا لعب، كما صرح بذلك في تلك الكلمة الواهية ثم أواجه الموضوع فأقول:

أتكون مهمة الدراسة الجامعية أن تجعل من الحبة قبة؟ أم تكون مهمتها أن تمنع الحبة من أن تصير قبة، وأن تحمى القبة من أن تصير حبة؟

المنطق يوجب أن تكون مهمة الدراسة الجامعية هي إقرار الحقائق في نصابها الصحيح، بلا تزيد ولا تحيف، وإلا كانت دراسة بهلوانية!

ثم أقول: كيف يكون واجب الدراسة الجامعية أن تجعل من الهزل جداً، ومن الجد هزلاً؟

يصح أن يقال إن الدراسة الجامعية ترى كل شيء صالحاً للدرس ولو كان من الهزل، لأن العلم جده جد وهزله جد، ولكن كيف يصير الجد هزلاً بفضل الدراسة الجامعية؟

ثم يحكم بأن الدراسة الجامعية (تدرس اللغات الحية دراسة تميتها، وتفقدها روحها، وتُبعد عن تذوقها)

فمن أين أخذ هذا الرأي؟ وعمن سمع هذا القول؟

أتكون الحالة كذلك في كلية الآداب لهذا العهد؟

ثم يرى الأستاذ أحمد أمين أنه يقل أن تخرج الجامعة أديباً، شاعراً أو كاتباً، وإنما تخرج أديباً ناقداً أو عالماً. فهل يستطيع أن يدلنا كيف تستطيع الجامعة أن نخرج الأديب الناقد أو العالم وهي تدرس اللغة دراسة تميتها وتفقدها حيويتها وتبعد عن ذوقها؟

إن الأصل للمتفق عليه أن النقد هو إدراك الصلات الوثيقة بين الألفاظ والمعاني والأغراض، فإذا صح أن الدراسات الجامعية تنحرف بالأستاذ والطالب عن ذلك الأصل فكيف تخرج الجامعة أديباً ناقداً وقد تعلّم على أساس منخوب؟

والأصل في العلم أن يصل بصاحبه إلى فهم الحقائق على ما هي عليه، فكيف تخرج الجامعة أديباً عالماً وقد أُبعد عمداً عن تذوق الجمال الأدبي؟

كيف تغترب ومعك قلمك

قرأت خطابك يا صديقي، وعزّ عليّ أن يقع في حياتك ما يزعجك، ولو شئت لنصصت على اسمك وبلدك لتكون المواساة جهيرة الصوت، لا يصدها تهيب، ولا يسترها حجاب، ولكن حرصي على استقلالك يمنع من هذه المواساة الجهرية، فما أحب لأرباب الأقلام أن يحتاجوا إلى أسندة من العطف والإشفاق على صفحات الجرائد والمجلات، وإن كان ذلك من الأساليب المألوفة في العصر الحديث.

إن الذي يعوزك هو الثقة بنفسك، لتأنس بقلمك، فلا تشعر بضجر الاغتراب في بلدك وبين قومك، فقد كتب الله الغربة على أهل الفكر والعقل، ولو عاشوا في رحاب عشيرتهم الأقربين. . . ألا تذكر قول أبي تمام في اغتراب أحد الفضلاء: غربته العُلا على كثرة الأهل فأمسى في الأقربين جنيبا فليطل عمرهُ فلو مات في (مَرْوَ) مقيماً بها لمات غريباً.

فما رأيت أصدق من هذين البيتين في وصف ابتلاء أهل الفضل بالغربة والتوحد، وإن كانوا محفوفين بالمئات من الأصحاب والسجراء، ولا نظرت في هذين البيتين إلا حمدت الأقدار التي قضت بأن يكون في ماضينا الأدبي معانِ كهذه المعاني. . . طيب الله ثراك يا حبيب!

على أنه لابد من لومك على ما استجزت من إعلان التبرم بالناس، ففي رسائلك إلى ما يشهد بأنك على جانب من الغفلة، فقد كنت تتوهم أن الناس سيقيمون لك التماثيل في حياتك، لأنك واجهتهم بالطرائف الروحية والذوقية، وفاتك أن تذكر أن (كل ذي نعمة محسود) وأن الفضل قد يعد من أكبر الذنوب، لأنه يمنح أصحابه سلطاناً لا يزول، ولأنه الآية الباقية على الزمان، الآية التي تشهد بأن لله حكمة في إعزاز أرباب المواهب، ولو كانوا فقراء الجيوب، والفقر فقر القلب لا فقر الجيب. . .

يجب أن تعرف أن الذين يحاربونك لأنك جهرت بهذا الرأي أو ذاك، لا يحاربونك مجاهدين، وإنما يحاربونك مغتاظين، فهم حطب جهنم، ولو غطوا أقوالهم بألف رداء من أردية الرياء هل تفهم قول أبي فراس؟

ومن شرفي أن لا يزال يعيبني ... حسود على الأمر الذي هو عائب

افهم هذا البيت، فما وجدت من يفهمه على الوجه الصحيح معنى هذا البيت أن الشاعر يؤخذ بأقوال وأعمال يتمنى عائبوه أن تكون من زادهم المكسوب، وكذلك يتمنى خصومنا أن تخلع عيوبنا عليهم، لأنهم يعرفون أنها عيوب رجال، وعيوب الرجل هي العسف والسيطرة والاقتحام في ميادين لا يطيقها غير الفحول.

فإن صدقت فراستي فيك فستكون لك أنصبة ضخام مما يجيده صاغة الزور والبهتان، وسيكون حاضرك وماضيك هدفاً لكل أفاك أثيم، إلا أن ترى الأقدار أنك جدير بالرحمة من حمل الأمانة الفكرية والعقلية، فتردك شبحاً لا يثور عليه حاقد ولا حاسد ولا جهول.

أسمع، يا صديقي!

في كل ميدان تقوم جماعة من أهل الشجاعة والاستبسال، فهذه جماعة تقاتل في ميدان الوطنية، وتلك جماعة تخاطر في ميدان الاقتصاد، إلى آخر ما أعرف وتعرف من أنواع الجماعات، فكيف يخلو ميدان (الفكر الحُر) من جماعة تصاول في سبيل حمايته من طغيان أهل الغفلة والجمود؟

وكيف يخلو زماننا من رجال يضحون بمنافعهم في سبيل الحرية الفكرية؟

وبأي وجه نلقى الله إذا تراجعنا وبأيدينا أسياف الحق وهي أقلامنا؟

الجبن جائز على أي مخلوق، إلا أن يكون من حملة القلم أو السيف، فإن كنت منا فأقدم غير هياب، وإلا ففي ميدان السلام الرخيص متسع للجبناء.

أخوف ما يخافه المفكرون من أبناء هذا العصر هو أن تصبح أعراضهم مضغة في أفواه الغافلين والجاهلين، وما خطر ذلك وهو هباء في هباء؟

إن لحومنا لحوم الأسود، ولا تدخل مضغة منها جوف رجل إلا مزقته أفظع تمزيق، وسوف يعلم المرجفون نبأ هذا النذير بعد حين.

ثم اسمع، يا صديقي

هل تعرف الأثر الذي يقول (من مات غريباً مات شهيداً)؟ كان المفهوم أن المراد هو الغربة الجسمية، كأن يموت الرجل في بلد غير بلده، فكيف يصير من يموت وهو في غربة روحية أو عقلية؟

عند الله ندخر الجزاء على هذا الاغتراب، وكيف يغترب من يأنس الله ويكاد يراه في كل وقت وفي كل مكان؟

إليك أوجه أشواقي، أيها المحبوب، وذلك هو اسمك عند الصوفية. إليك أوجه أشواقي، فلولا الإيمان بسمو حكمتك في خلق الوجود على هذا الأسلوب لكانت الإقامة في بعض نواحيه جحيماً لا يطاق.

وأنا مع ذلك عاتب، فما الذي يمنع من أن ترفع الحجاب لأعرف بعض ما أجهل من أسرار هذا الوجود.

لقد هديتني فعرفت أن لك حكمة في خلق (الكوبرا) وهي أشرس الحيات، لأن سمها ينفع في دفع أشرس الأمراض وهو السرطان.

فمتى تهديني لأعرف حكمتك في خلق الدساسين والنمامين والمفسدين والمرجفين من صاغة الزور والبهتان؟

أيكونون من (الكوبرا) الآدمية؟!

العدل بين الأرض والسماء

كتب أحد الوعاظ كلمة في إحدى المجلات رداً على ما قلت في الوعاظ وقد أراد ذلك الواعظ أن يذكرني بأهمية الوعظ فذكر أشياء يجب أن ينزه عنها الجمهور المصري، ومن تلك الأشياء تقديم العرائض إلى ضريح الإمام الشافعي، لينصف المظلومين من الظالمين.

وكلام هذا الواعظ حديث معاد، فقد قيل هذا الكلام قبل مئات السنين، وهو لا يدل على فكر ولا عبقرية، لأن أصغر متعلم يدرك أن الأمر بيد الله وحده، وأن الشافعي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً أو نفعاً، فجهاد الوعاظ في مثل هذا الشأن التافه جهاد في غير ميدان. ولكن هذه العرائض لها مغزى فلسفي لا يفطن إليه ذلك الواعظ اللبيب، وذلك المغزى هو اليأس من العدل بين أبناء الأرض، والشعور بأن العدل لا يصدر إلا عن السماء.

ومن هم المحتكمون إلى الإمام الشافعي؟

هم جماعات من العوام عجزوا عن تقديم غرمائهم إلى ساحات القضاء، لأنهم لم يجدوا الرسوم، أو لأنهم لم يجدوا الشهود، أو لأن حقوقهم على غرمائهم بلغت من الخفاء مبلغاً لا يفصل فيه غير السماء، لأن قضاة الأرض لا يحكمون إلا بعد ظهور الأدلة والبراهين، وهي لا تظهر في جميع الأحيان.

هل سمعتم أن وزارة العدل كلفت أحد رجالها درس تلك الشكايات؟

كل ما يقع هو اهتمام الشيخ القائم على الضريح بتمزيق تلك العرائض حتى لا يجدها الشاكون في أماكنها عند رجوعهم إلى الضريح، وبذلك يفهمون إن الإمام الشافعي أخذها بيديه الكريمتين ليدرسها بعناية، وليصدر حكمه الصارم على الظالمين.

وإنما يفعل ذلك شيخ الضريح ليضمن عودة أولئك العوام بالنذور والهبات، فهل أدبته وزارة الأوقاف ليكف عن عمله (المقبول)؟

وكيف نعيب على العوام أن يستعينوا بالإمام الشافعي، وجمهور المتعلمين في مصر يؤمن بأن لا تقديم ولا تأخير بغير الوساطات والشفاعات؟

التفتوا مرة واحدة إلى هذه المعاني، يا جماعة الوعاظ، ولا تكتفوا بإعادة الدروس التي تلقيتموها عن أشياخكم، وهي دروس لم تصل بهم ولن تصل بكم إلى يقين.

إلى وزير الأوقاف

وزير الأوقاف لهذا العهد هو أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية من قبل، والتفاتاته الذهنية تجعل الفرصة مواتية لدرس هذا الموضوع الدقيق.

وأنا أقترح أن يؤلف لجنة لدرس الشكايات التي توجه إلى المزارات المصرية لنعرف فهم الشعب لقدسية العدل، ولنعرف أسباب يأسه من إنصاف القضاء.

فإن أجاب - وسيجيب - فقد نظفر بفكرة فلسفية تؤكد القول بأن لا جديد تحت الشمس، وأن الذين يقدمون شكاياتهم إلى المزارات الإسلامية كان لهم أجداد يقدمون شكاياتهم إلى المزارات الوثنية، والمعنى واحد عند أولئك وهؤلاء، ومرجعه الأول هو اليأس من عدل الأرض، والشواهد تنطق بأن لهذا المعنى وشائج في الحياة المصرية.

يجب أن تصادق سكرتير الوزير لتصل إلى الوزير.

ويجب أن تصافي سكرتير الوكيل لتصل إلى الوكيل.

فما ذنب العوام في أن يتوهموا أن الحضرة السماوية لها سكرتارية أرضية، وهم يشهدون تأثير الشفاعات والوساطات في جميع الشؤون؟

ما ذنبهم وهم بفطرتهم من أهل القياس؟

وهل يفهم هذا الكلام بعض من يتصدرون لهداية هذا الجيل؟

افتحوا عيونكم وقلوبكم وعقولكم، يا قادة الرأي في هذه البلاد، فإن لم تفعلوا فسيكون للقلم معكم تاريخ.

مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

كتب إلينا جماعة من الناجحين في امتحان الثقافة العامة يرجون أن تلتفت مجلة الرسالة إلى تشريح الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، على نحو ما صنعت في السنة الماضية. وأجيب بأن شواغل هذه الأيام لن تصرفنا عن ذلك الواجب، وسنشرع في تأديته بعد أسبوع أو أسبوعين، بحيث يستطيع طلبة السنة التوجيهية أن يدركوا أسرار تلك المؤلفات قبل الامتحان.

وأنا أعيد الرجاء الذي وجهته إلى أصدقاء الرسالة في السنة الماضية، وهو التفضل بمشاركتي في أداء هذا الواجب، رعايةً لحقوق أولئك الأبناء.

أما الذين فازوا في مسابقة العام الماضي فلهم منا أطيب التهاني، ثم أصدق الرجاء في أن يظلوا أمناء للحياة الأدبية، ولو اتجهوا إلى العلوم والرياضيات. والله عز شأنه ولى التوفيق.

زكي مبارك