مجلة الرسالة/العدد 426/تحت ظلال الكافورة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 426/تحت ظلال الكافورة

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 09 - 1941


من أحاديث القهوة

- 2 -

أصبحنا فإذا النيل الجليل يقبل نفّاحاً بالخير فيّاحاً بالنعيم، تتريّع شطئانه الخضر بالعسجد الذائب، وتتدفق مجاريه الفيح بالكوثر العذب، وتتنفس أمواجه الصهب بالتحيات والبركات على بنيه الخلّص الذين خلقوا من طينه الحر ومائه الطهور، وعاشوا على نائله الجم وخصبه الموفور؛ وكأنما تنفرج كل موجة على سؤال من هذه الأسئلة التي اعتاد أن يلقيها كل عام على أهله:

ماذا صنعتم يا بنيّ بالذهب الذي نثرته على أرضكم في العام الذاهب؟ هل قسمتموه بينكم على شريعة الله، وأنفقتموه فيكم على منفعة الوطن؟ أم هل بقيتم على طباع الوحوش الأوابد، تتفارسون بالغيلة أو بالحيلة حتى لا تدع المخالب والمجاريف، شيئاً للفقير أو الضعيف؟ ألا تزال الأمة مقسومة إلى باشوات و (دلاديل)، والسياسة قائمة على بهلوانات وتماثيل؟

ألا يزال أربعة الأخماس من أبنائي، يعيشون مجهودين على فضلات الخمس من أغنيائي، وخيري الفياض لم يدع في مصر كلباً جوعان ولا ضفدعاً عطشى؟

أي شيء صار مائي السماوي الفرات في دمائكم يا ساكني الوادي؟ أموتاً وقد أحييت الصحاري؟ أم ذلاً وقد أعززت الفراعين؟ أم جهلاً وقد خلقت الحضارة؟ إلى متى يا بني تقابلون برّي بالعقوق ووفائي بالغدر، وتقبلون من أوليائكم أن يدعوا مائي وثرائي يذهبان في عباب البحر كما تذهب النفحة الرخية في ثورة العاصفة وثراي مكروب وشعبي جائع؟

ولكن أسئلته الأبوية السنوية تذهب في الهواء كما يذهب فيضه في البحر، فلا أذن تعي، ولا لسان يجيب!!

أخذنا مجلسنا المعتاد من القهوة، وكان النادون المعتادون قد راعهم ما رأوا من جمال النيل وجلال الفيضان فسكنت ثرثرتهم بعض السكون، واتجهوا بمشاعرهم إلى النيل الطامي يقابلونه بالهشاشة ويبادلونه التحية. وملكتنا نحن أيضاً روعة المنظر، فذهلنا ذهول الشاعر المستغرق؛ وتراءت على مرهفي الحس منا سمات من جلوة الخاطر وطلاقة النفس؛ وكاد الذهول ينقلب نشوة والحديث يتحول شعراً، لولا الذباب الذي يقع في الكأس فيكدر الصفو، أو المتسول الذي يسقط في الحديث فيقطع الأنس! والمتسولون في المنصورة كالذباب في رأس البر، لا يدعون للجالس مشغلة إلا بالاستعاذة والطرد. وكان الذي صرفنا عن المنظر الساحر والحديث العذب نوع من هؤلاء المتسولين طريف: رجل كفيف البصر، وثيق التركيب، مربوع القامة؛ على جسمه جلباب محكم التفصيل، وعلى رأسه عمامة حسنة التكوير، وفي يده هراوة صلبة العود؛ كان يقود نفسه على طوار الشارع وهو يقول بصوت جهير رزين ولهجة متزنة آمرة: (طالب من الله: أفطر، وأشرب القهوة، ونصف ريال، وواحد يلمه لي)!

لم يكد هذا الرجل يبدئ ويعيد، ويذهب ويجيء، حتى نهض إليه الجالسون بالقرش بعد القرش حتى أعلنهم أنه استوفي حقه. ثم أنصرف عنهم إلى غيرهم دون أن يجود عليهم بما تعود المتسولون أن يسرفوا فيه من مبتذل الدعاء والشكر!

قلت لصاحبي وقد بدا عليه ما بدا عليّ من العجب العاجب: هذا المتسول واحد من هؤلاء الأوزاع المتبطلين الذين يلحون على الناس بالضراعة والوضاعة، ويلح الناس عليهم بالنهر والقهر، فما السر الذي حمل القوم على أن يفردوه بهذه المعاملة؟

السر في رأيي هو القوة التي برزت في هيئته ولهجته.

والإنسان منذ كان يعجب بالقوة ويخضع للقوى بدافع من فطرته، لأن القوة دليل الحياة لصحيحة ووسيلة العيش العزيز، وهي معبودة منذ كانت في تهاويل الفلك وأفاعيل الطبيعة وتعاجيب الناس. ولولا سلطانها الفطري على القلوب لما عبد صنم ولا قدّس طاغية

ربما يتفق لك أن تجادل بعض الناس بالحسنى وتحاجّه بالمنطق، فيركب هواه ويصر على غيه؛ فإذ فاجأته بالصيحة الغضبة استكان وسلّم. وإنك لتجد كثيراً من خلق الله يصفقون لهجمات هتلر، ويصفرون لخطب رزفلت! وأولئك هم العامة وأشباههم ممن غلبت على نفوسهم عبودية القوة فآمنوا بالحيوان وكفروا بالإنسان، وانقادوا للعاطفة وغفلوا عن المنفعة!!

الديمقراطية كما تعلم وليدة المدنية العليا. وما كان المدني سليم النفس والفكر والإرادة أن يعود إلى عيش القطيع فيلقي مقادته إلى رجل مثله يجوز عليه ما يجوز على البهيم من غلبة الشهوة وطغيان الأثرة. ولكن النفس البشرية على ما بلغته من المدنية والثقافة لا تزال في سرائرها بقايا من نوازع القوة تفسد بها وتصلح. فهي في السلم الطويلة والرخاء الوارف تنماع فلا يمسكها غير الشدة، وفي لحكم الصارم والسلطان الغشوم تذل فلا يعزها غير الهوادة. لذلك كانت الديمقراطية يا صديقي كاللحم: كلما اعتل الجسم واختل نظامه، كان أول ما يشير به الطبيب على المريض ترك اللحم. كذلك كلما انحل الشعب واسترخت قواه واضطرب أمره، كان أول ما يأمر به الزعيم نسخ الديمقراطية. ذلك ما كان في روسيا وإيطاليا وألمانيا وأسبانيا، ثم كان أخيراً في فرنسا وطن الجمهورية ومعبد الحرية ومعقل الدستور! كأنما خلق الإنسان آكل عشب فاللحم دخيل على طعامه، وكأنما فطر على الجبر والإكراه فالحرية غريبة على نظامه!

وافقني صديقي على جملة الرأي؛ ثم أخذ بطرف من الحديث وجذبه بعنف إلى حالنا التي لا تشبه حالاً من أحوال الأمم! وصديقي حديد اللسان جرئ الرأي فلا أستطيع أن أنقل إليك ما قال في خضوع القطيع لرجل أسمه الباشا، وفناء الجميع في فرد أسمه الزعيم

(المنصورة)

أحمد حسن زيات