مجلة الرسالة/العدد 425/كليلة ودمنة
مجلة الرسالة/العدد 425/كليلة ودمنة
نقد وتعليق
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
(كتاب دهريّ الصَّنعة، متقادم الميلاد) أفرغت فيه حكم الدنيا ومواعظ الأجيال، وكان عجباً عاجباً وأدباً خالداً!!
وكان اختيار مطبعة المعارف لهذا السِّفر الجليل أن يكون تذكاراً لعيدها الخمسيني - اختياراً موفّقاً كل التوفيق، فبرهنت بذلك أنها تحسن هذا الأمر وتجيده
وأما الرجل الذي وكِلَ إليه الاضطلاع بعبء نشر الكتاب وتحقيق مواضع الشُّبه فيه والحكم عليها، فرجل هَدَّكَ مِنْ رجل! فالدكتور عبد الوهاب عزام قطب من أقطاب الثقافة العربية كما هو من الثقافة الفارسية. فكان بذلك خير من يتصدّى لمثل (كلية ودمنة)، لينشره على الناس في هذا الثوب الرائع الفائق، وليجهد نفسه فيه هذا الإجهاد المثمر الطيب
وإني لأبادر فأهنئ الأستاذ عزام تهنئة صادقة، لِمَا أحيا (كلية ودمنة) على نحو يغتبط له ابن المقفع في مثواه، ويغتبط له أيضاً ذلك الجندي المجهول الذي صنع للناس هذا الكتاب في أصله الهندي، ثم تركه يسير في الدنيا كريماً عزيزاً، تتهاداه اللغات، وتتنازعه اللهجات، ويغتبط له كذلك أنصار الأدب العربي في المشرقين والمغربين
كما أزجي تهنئتي إلى رجال مطبعة المعارف، ومنوِّهاً بهذا الفن العجيب الذي أبرز الكتاب تحفة تاريخية ناطقة. وان كان للنشر أدب خاص، فهذا الكتاب منه قطعة أدبية عالية؛ وإن للألواح الثلاثة عشر التي رسمها المصور (رومان ستريكالفسكي) لأثراً كبيراً في إحداث هذا الجو الفني البهيج
وقد صنع الأستاذ عزام لهذا الكتاب مقدمة بلغت من النفاسة مبلغاً، وحوت من الفوائد الكثير؛ فهو قد عرض لتاريخ الكتاب، وبين أن النسخة العربية (أصل لكل ما في اللغات الأخرى، حاشا الترجمة السريانية الأولى، فقد فُقِد الأصل الفهلوي الذي أخذت عنه الترجمة العربية، وفُقد بعض الأصل الهندي الذي أخذت عنه الترجمة الفهلوية واضطرت بعضه، فصارت النسخة العربية أُمَّا يرجع إليها من يريد إحداث ترجمة أو تصحيح ترجمة قديمة، بل يرجع إليها من يريد جمع الأصل الهندي وتصحيحه) ثم تحدَّث عن طبعات الكتاب، فذكر:
1 - طبعة المستشرق دي ساسي الذي كانت طبعته أصلاً من أصول الطبعات المصرية الكثيرة؛ وهي نسخة ملفقة من عدة نسخ
2 - ثم طبعتي اليازجي وطبارة، وهما ملفقتان من طبعة دي ساسي ومخطوطات ومصورات أخرى
3 - ثم طبعة شيخو، وهي أول طبعة في اللغة العربية تقدم للقراء نصَّاً كاملاً غير ملفق من كتاب (كليلة ودمنة) وأصلها مخطوط سنة 739هـ؛ وقد طبعه شيخو كما هو لم يصحح أغلاطه ولم يوضح غامضه، ليكون أمام المستشرقين صالحاً للمقارنة والنقد
ثم تحدث عن النسخة التي نقلت عنها الطبعة الحديثة، وهي في مكتبة أيا صوفيا باسطنبول كتبت سنة 618هـ، فهي أقدم من كل المخطوطات التي وصفها المستشرقون، وأقدم من نسخة شيخو المكتوبة سنة 739
وهذه النسخة مفعمة بالتحريف والتصحيف والإسقاط وخطأ الرسم؛ وتستطيع أن تعد في النموذج المصور من الصفحة الأولى فقط نحو اثني عشر تحريفاً وتصحيفاً
وهذا يدل على مقدار الجهد الهائل الذي بذله الأستاذ عزام في تحقيق هذه النسخة وتقريبها إلى السلامة
ونحن في هذا الصدد نأخذ على الأستاذ أنه لم يتوخ في هذه الناحية ما يقتضيه النشر العلمي من إثبات الأصل والتنبيه عليه؛ فقد يكون للقارئ وجه في التصحيح غير الذي ارتضى. نعم، إن الأستاذ قد أثبت بعض كلمات الأصل في التعليقات التي ألحقها بالكتاب، لكنها من القلة بحيث لا تغني شيئاً في معرفة أصل الكتاب والوقوف عليه
وأمامنا جهود المستشرقين ناطقة بمدى تقديرهم لهذه الناحية التاريخية الفنية، فلا تكاد تجد كتاباً نشروه إلا وقد أثبتوا أصله أو أصوله إن كان ذا نسخ مختلفة
وكتاب مثل كتابنا هذا، لَبسَ من جلال التاريخ ما لَبس، جدير بما ذكرت من وجوب بيان أصله للرجوع إليه، ووجوب مقارنة نسخه بعضها ببعض
ولغة أبن المقفع في (كليلة ودمنة) لغة عالية، تعلو على المتأدب والأديب أيضاً، فهي محتاجة إلى توضيح وتقييد وبيان. فكان من المستحسن أن يصنع الأستاذ لها شرحاً أو معجماً يلحقه بنهاية الكتاب، كما فعل من قبلُ الخوري نعمة الله الأسمر، حينما نشر ترجمة ابن الهبارية لكليلة ودمنة، مع أن لغة هذا النظم في مستوَى ترجمة ابن المقفع
على أن الأستاذ قد أحسن صنعاً بما حقق من الأعلام الفارسية والهندية، مما يشهد له بتمام البراعة في ذلك
قرأت نسخة الأستاذ عزام، ونعمت - كما نعم غيري - بما فيها من دقة وجمال، فطالعني فيها خير كثير ومقدرة فنية عظيمة، كما ظهرت لي بعض هنات أحببت أن أنبه عليها، وبدا لي بعض الرأي في عبارات الكتاب، فآثرت أن أنشره راجياً أن يباعدني العَنتُ، ويفارقني التكلف، وأن يسعفني في ذلك الحق
1 - في الضبط اللغوي
1 - ص 36س 6: (كالعظم المتعرِّق) بكسر الراء، صوابه: (المتعرَّق) بفتح الراء المشددة. يقال عرق العظم يعرقه عرقاً، وتعرقه، واعترقه: أكل ما عليه من اللحم
2 - 81: 5، 6: (ولكن النفس الواحدة يفتدي بها أهلُ البيت، وأهل البيت تفتدِي بهم القبيلة، والقبيلة يفتدي بها المصر). الوجه: (يُفتَدَى) و (تفتَدَى) بالبناء للمجهول فيهما. فأهل البيت، وكذا القبيلة والمصر لا يفعلِون الافتداء، وإنما يفعل بهم ذلك غيرهم فهم مفتَدون. ومن ذلك ما قال كعب بن سعد الغنوي:
فلو كان حيٌّ يُفتَدى لفديتُه ... بما لم تكن عنه النفوس تطيب
3 - 87: 6: (ولا تغتر إليه)، ولا يقال (اغتر إليه) بل (اغتر به). على أن جو العبارة يؤذن بأن صحتها: (ولا تقترب إليه) فليس فيما سبقها من الكلام ما يشعر بأن (شنزبة) قد يتعرض للاغترار أو يقع فيه
4 - 91: 12: (وندفن بقيتها مكاناً حريزاً). وهذه عبارة غير صحيحة. والصواب: (في مكان حريز) فإن الفعل (دفن) لا يتعدى إلى ثان إلا بالحرف (في). وليس هذا أيضاً من المواضع التي يكون فيها لفظ (مكان) ظرفاً من الظروف المكانية؛ فإناسم المكان الصالح للظرفية إما أن يشتق من حدث بمعنى الاستقرار والكون في مكان، أولاً. والثاني لا ينتصب على الظرفية إلا بالفعل الذي ينتصب به على الظرفية المختص من المكان كدخلت ونزلت وسكنت. وذلك نحو المضرب والمقتل والمأكل والمشرب والأول (ومنه لفظ مكان) إنما ينصبه على الظرفية أمران: أحدهما الفعل المشتق مما اشتق منه اسم المكان نحو قمت مقامه، وجلست مجلسه، وأويت مأواهُ؛ وثانيهما كل ما فيه معنى الاستقرار وإن لم يشتق مما اشتق منه، نحو قعدت موضعك، ومكان زيد، وجلست منزلَ فلان، ونمت مبيته، وأقمت مشتاه. وما ليس فيه معنى الاستقرار لا ينصبه، فلا يقال كتبت الكتاب مكانك وقتلته مكان القراءة، وشتمتك منزل فلان
وليس (الدفن) من الاستقرار في شئ، فلا ينصب لفظ (المكان) على الظرفية المكانية
وقد جاء في نسخة بولاق ص49: (وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة، فهو مكان حريز)
5 - 95: 13 (وبلاء يضيَّع عند من لا شكر له) البلاء هنا بمعنى الإنعام. وفي ترجمة ابن الهبّارية ص95:
ما أضيع النعمة عند الكافر ... وأقبح الخّلة عند الهاجر
وبين اللغويين خلاف في أن يكن البلاء بمعنى الإنعام؛ فقال بعضهم: (الإبلاء: الإنعام. والبلاء: الأشقاء والإتعاس).
أما الإبلاء بمعنى الإنعام فلا خلاف فيه. ومنه قول زهير
رأى الَّله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي صنع بهما خير الصنيع. والحق أن الإنعام إنما هو الإبلاء لا البلاء. ومنه الحديث: (من أُبلي فذكر فقد شكر) وحديث كعب بن مالك: (ما علمت أحداً أبلاه الله خيراً مما أبلاني)
وقد احتج من زعم أن (البلاء) يكون أيضاً بمعنى الإنعام بقوله تعالى: (وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) وقوله: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) ورُدّ عليه بأن البلاء في الآية الأولى بمعنى الاختبار لا الإنعام. وكذلك (بلوكم) أريد بها: (نختبركم) وجاء في نسخة بولاق ص51: (وحِباء يصطنع عند من لا شكر له). والحباء، بالكسر: العطاء
6 - 221: 15: (ولكن إيش الفائدة فيها) بكسر الهمزة، وهذا ضبط عامي؛ والصواب: (أَيْشِ) بفتح الهمزة وتنوين الشين المكسورة، واصلها: (أيِّ شئٍ؟) خفِّفت بحذف الياء الثانية من (أيِّ) وحذف همزة (شئ) بعد أن نقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، ثم أعلَّت إعلال المنقوص. ونحوها في ذلك (َوْيُلمِّهِ)، واصلها: (ويلٌ لأمّه)، حذفت لام (ويل) وهمزة (أُمّ).
قال المتنخل الهذلي:
ويلمه رجلاً تأتي به غبناً ... إذا تجرَّد لا خال ولا بخلُ
وقال ذو الرمّة:
ويْلمَّها روحةً والريحُ مُعصفةٌ ... والغيث مرتجزٌ والليل مقترب
وقال علقمة بن عبدة:
ويلم أيام الشباب معيشةً ... مع الكثر يُعطاه الفتى المتلف النَّدي
قال ابن السِّيد في الاقتضاب: (حذف لام ويل وهمزة أُمّ، كما قالوا أيشٍ لك، يريدون: أي شئ؟). وقال الخفاجي في شفاء الغليل: (أيش بمعنى أي شئ خفف منه. نص عليه ابن السيد في شرح أدب الكاتب، وصرحوا بأنه سمع من العرب. وقال بعض الأئمة: جنِّبونا أيش؛ فذهب إلى أنها مولدة. وقول الشريف في حواشي الرضى أنها كلمة مستقلة بمعنى أي شئ وليست مخففة منها، ليس بشيء. ووقع في شعر قديم أنشدوه في السير:
من آل قحطان وآل أيش)
قال السهيلي في تفسيره: (وأما آل أيش فيحتمل أن تكون قبيلة من الجن المؤمنين ينتسبون إلى أيش. فإن يكن هذا وإلا فله معنى في المدح غريب. تقول فلان أيش هو وابن أيش! ومعناه: أي شئ عظيم؛ فكأنه أراد من آل قحطان ومن المهاجرين الذين يقال فيهم مثل هذا، كما تقول: هم وما هم! وزيد وما زيد، وأي شئ زيد! وأيش في معنى أي شئ كما يقال ويلمه في معنى ويل أمه، على الحذف وكثرة الاستعمال. وهذا كما قال هو: في جيش وأي جيش!)
(له بقية)
عبد السلام محمد هارون