مجلة الرسالة/العدد 425/شئ واحد!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 425/شئ واحد!

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 08 - 1941


للأستاذ عباس محمود العقاد

كان الضابط المصري (أحمس) الذي ارتفع إلى عرش الفراعنة في القرن السادس قبل الميلاد معروفاً في صباه بالمزح والمجون، وكان عربيداً لا يسلم من دعاباته زملائه ولا رؤساؤه ولا أصحاب القداسة من أحبار زمانه. فلما استوى على عرش بلاده نسي أصحابه أنه فرعون مصر وذكروا أنه الضابط العربيد، ثم جروا في معاشرته على السنة التي ألفوها يوم كانوا أنداداً في الرتبة وإخواناً في اللهو والمجانة، فصبر قليلاً على هذه المعاشرة التي لا يصبر عليها الملوك، ثم ضاق ذرعاً بها وبأصحابه وأزمع أن ينهرهم بالعظة والتمثيل، قبل أن ينهرهم بالسطوة والتنكيل؛ وقيل فيما قيل من أساطيره الكثيرة أنه أتى بإناء من الفضة تغسل فيه الأيدي فأتخذ منه تمثالاً لرب من الأرباب المعبودة في زمانه. ثم نصب التمثال في مدخل القصر حيث يراه القوم أول ما يرون عند دخوله، فما عبروه حتى خروا له ساجدين

وظهر لهم أحمس وهم يسجدون للتمثال فقال لهم: أتعلمون مم صنع هذا التمثال الذي حييتموه بالسجود؟ إنه من ذلك الإناء الذي كنتم في الوليمة الماضية تغسلون فيه أيديكم وتبصقون فيه من مضمضة أفواهكم. فمن منكم يجرؤ اليوم أن يبصق عليه أو يصيبه غسالة الأيدي؟ من فعل ذلك فجزاؤه الموت والعار، وان كان معدنه اليوم كمعدنه أمس في سوق البيع والشراء وفطن الضباط لما أراد، وعلموا أن أحمس الفرعون غير أحمس الضابط العربيد، فسجدوا حيث كانوا بالأمس يلقون الرشاش من غسالة الأفواه!

والمقصود من عظة (أحمس) أن الشيء الواحد قد يختلف في قيمته اختلاف الصورة حتى يهان ويبتذل في صورة، ويصان ويعبد في صورة أخرى

ولكننا نتجاوز ما أراده أحمس في هذه العظة لنقول: أن الشيء الواحد في الصورة الواحدة يختلف اختلاف التقدير والنظر حتى يهان ويبتذل عند أُناس ويصان ويعبد عند آخرون، بل حتى يكون له عند الإنسان الواحد شانان متفاوتان

وهذا تمثال أحمس نكتف به ولا تنتقل إلى غيره لنعرف كيف يختلف قدره باختلاف النظر إليه فالصائغ الفنان يعطيه في تقويمه قيمة التحفة الجميلة التي لا تحسب بالدراهم والدنانير

والبخيل المتصيد للمال يغليه بمقدار ما يبذله فيه طلاب اقتنائه من عشاق الفن أو عباد هذه الأرباب

وعابد الوثن يتمرغ بين يديه

ومنكر الوثن يمرغه هو في التراب، وقد يعدو ذلك إلى تحطيمه وتحريم النظر إليه في صيغته المعبودة

وتاجر الفضة يحيله إلى الميزان، وصاحب الضرورة يبيعه بأبخس الأثمان، وحارسه يمنع الغبار أن يصل أليه لأنه يمنع رزقه وعقيدته وحماه

وهو مع هذا شئ واحد في صورة واحدة

فهل هو في الحق شئ واحد أو جملة أشياء؟

كنا على المائدة نخوض في حديث من هذا المعنى رهطاً من الأخوان الأدباء ورجال الفن والثقافة

فقال أحدنا: أن صديقنا فلاناً لتستهويه تلك الفتاة التي كانت تتهالك على من دونه فضلاً وعلماً ومكانة فلا تظفر منه بأكثر من اللهو بها أو الأعراض عنها؛ فما باله لا يرعوي؟ ألا يهديه أو يرده إلى صوابه ناصح أمين؟

قلت: وهل الفتاة التي استهوت صديقنا هي الفتاة التي استهواها من هو دونه في فضله ومقامه؟

قالوا: نعم. هي فلانة!

قلت: أعلم أنها هي فلانة، ولكني أحسب مع هذا أن تلك الفتاة هي غير هذه الفتاة

وكان أمامنا على المائدة صحفة من البط المطبوخ، فمضيت أقول: ألا أحدثكم بلغة الأماثيل فيما نتناوله الآن من الطعام ونحن مستطردون فيما بدأناه آنفاً من حديث العظات الرمزية؟

كان أربعة في جيرة واحدة من أحياء المدينة: متسول ولص ورجل كادح لرزقه وصائد من هواة الرياضة

فقال المتسول لزميل له وقد عبر به اللص في قيوده مسوقاً إلى سجنه: أنظر إلى ذلك الأحمق!. . . سطا على حظيرة البط ليلة أمس فتيقظ له الحارس وأوشك أن يرديه برصاصة لأنه طمع في بطة أو بطتين! وهاهو ذا يساق إلى السجن حيث يصوم عن أمثال هذه الطعوم. أفما كان خيراً له أن يصنع كما صنعت أمس وقد شممت رائحة البط المطبوخ في منزل ذلك الصائد فما طرقت الباب حتى ناولوني صحفة أكلتها هانئاً بها غير جاهد في شرائها ولا سرقتها ولا صيدها ولا طبخها ولا اقتناء صحائفها؟ فأين غابت عنه حكمة القناعة وهي أقرب إليه من ذلك الخظار، ومما وراءه من الحبس والعار؟!

قال زميله: وما ظنك بالصائد الذي أكلت البط المطبوخ من بيته؟ أليس هو أحمق من اللص في طلب البط الذي يجود به مطبوخاً ولا ينال منه أكثر مما تنال؟ فعلام السفر من هنا إلى البحيرات النائية؟ وعلام شراء السلاح والعدو بين الماء والعراء؟ وعلام صيد الأسراب وبطة واحدة تكفيه، ولعله يجود بها على سائليه؟

وأصغى إليهما الرجل الكادح لرزقه فقال: الحمد لله على ما وفقني له من القصد والسداد: دريهمات معدوادت تغنيني عن نفقة الصياد وعن ذل السؤال وعن غشيان السجون

فمن من هؤلاء الأربعة على صواب! ولو أخذنا بالظاهر لكان الصائد المتعب أحمق الأربعة، ولو أخذنا بالحقيقة لكان دونهم جميعاً هو صاحب السهم الربيح والعقل الرجيح، لان البطة عنده ليست هي البطة التي يسرقها اللص، أو يستعطيها المتسول، أو يشتريها الشاري من السوق، ولكنها شئ يستحق أن يجهد له بالسفر والنصب وتعلم الرماية وبذل المال في السلاح، وهي كذلك شئ غير الذي ظفر به المتسول من بيته مطبوخاً بغير ثمن. فلا وجه للمبادلة ولا للمقابلة ين الشيئين

وهكذا يجوز أن تكون الفتاة التي استهوت صديقنا غير الفتاة التي تؤكل رخيصة على موائد منافسيه، فإنما العبرة ما يشعر به هو وما يشعر به هؤلاء، وليست العبرة بوحدة الأسماء والأجسام.

وليس الشيء الواحد بشيء واحد على هذا التقدير

تلك حقيقة ينساها معظم الناس وهي داخلة في كل عمل من أعمالهم اليومية، معترضة في كل خطوة من خطوات الحياة فالصنف الواحد من الخضر يشتريه اثنان في يوم واحد من سوق واحد بثمن واحد، فيؤكل على مائدة أحدهما كأنه من طعام أهل الجنة، ويؤكل على مائدة الأخر كأنه السم الزعاف والكتاب الواحد يطالعه القارئان فيستفيد أحدهما منه ما لا يقدر بمال، ويخرج الآخر من قراءته ولم يأخذ منه ما يساوي ثمن ورقه

والمكان الواحد يقصده زائران فيرجع أحدهما بالصحة والمعرفة والثروة، ويرجع الآخر منه بالمرض والضلال والإفلاسوقد تفتحت عيناي على هذه الحقيقة منذ أيام الطفولة، فشهدت في بلدتي التي نشأت فيها التقاء الحضارات القديمة - والحديثة، والتقاء الأمم من غربية وشرقية؛ وكان يزور أسوان في الشتاء ألوف السائحين منهم الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والألماني والنمسوي، وأبناء الأمم الأوربية كافة، فكانت أوروبا عندي على اجتماعها في كلمة واحدة صوراً مختلفات لا تتفق في مشارب ولا أطوار ولا عادات

وكنت أسمع العجب من اختلاف الآراء في سن يعجب فيها الإنسان من كل مشهود ومسموع، فلا أعجب ولا أحار أن عجبت، لكثرة ما تعودت من نقائض الأفهام والأحكام

زار أسوان أمير إنجليزي كبير، فخرج في الظهيرة إلى حيث يلعب (التنس) مع فئة من صغار الموظفين والضباط، وشهدت مجلس والدي في المساء وأنا معجب بالأمير الحر الظريف، فما سمعت تأففاً من شيوخ المجلس كالتأفف الذي سمعته منهم تلك الليلة، وهم يعيبون على الأمير لعبه (أولاً) ونزوله في اللعب إلى مرتبة الصغار من الموظفين (ثانياً)، وخلعه ملابس الإمارة ليظهر في لباس العامة (ثالثاً)، وما شئت من مآخذ شتى: رابعاً وخامساً وسادساً إلى غير انتهاء

وكان (العقلاء) يضحكون من هؤلاء الأوربيين الذين يبلون أحذيتهم أو ينضون مطاياهم في الجبال ليرجعوا منها بكيس ملآن حجارة وحصيات تلقى في عرض الطريق، وكنت أرى هذه الحجارة في متحف المدرسة، فأحسبها كنزاً من الكنوز المكنونة، أو أحسبها على أقل تقدير لها موضوع درس ممتع مفيد

وكان المنقبون في الآثار القديمة من عامة الناس يهزءون بالعلماء الذين يعطونهم الذهب ويأخذون منهم خرقة بالية أو حلية مكسورة أو ورقة ممزقة، وكنت أسمع في دروس التاريخ كل أسبوع أن هؤلاء العلماء رابحون مفلحون، وأن الخاسر الحقيق بالاستهزاء هم أولئك الجهلاء المستهزئون

وازددت علماً بالدنيا وبنيها، فكأنما اجتمعت الزيادة كلها في توكيد هذه الحقيقة الجامعة وخلاصتها بلغة الحرب والتسعيرة والغلاء: أن ليس لعروض الدنيا تسعيرة واحدة، وأن ما يصدق من ذلك على العروض والأشياء، أحرى أن يصدق على الأحياء وعلى الرجال والنساء

عباس محمود العقاد