مجلة الرسالة/العدد 424/القصص
مجلة الرسالة/العدد 424/القصص
البيت الهادئ
كتبت في القطار النازح عن الإسكندرية
للأستاذ سعد محمود دوارة
هاهو ذا القطار تتسارع دقاته كأنها خفقات قلب كبير. . . وهاهي ذي أعمدة التلغراف تتلاحق كأن بينها سباقاً لا نهاية له. . . وهاهو الثغر الحبيب يختفي وراء الأفق البعيد
القطار مزدحم بالكتل البشرية وكتل المتاع. الناس وجوههم مكفهرة مغبرة، نظراتهم حزينة قلقة. لقد هجروا ديارهم فارين من الموت الذي كان يحوم فوق رؤوسهم، لا حديث لهم إلا ما أصابهم من نقص في الأموال والأرزاق والأرواح.
أمامي سيدة تبكي بكاء صامتاً. . . تركت زوجها الذي لم يستطع اللحاق بالقطار؛ ولقد حاولت أن تعود إليه، ولكن أنى لها أن تتحرك بين هذه الجموع المحتشدة. إنها لا تعرف أين تذهب ولا كيف تعيش وهي لا تملك سوى الثوب الذي لا يكاد يستر جسدها
أما هذه الفتاة الهيفاء التي تجلس بجانبي شاحبة كأنها تمثال من الشمع، فهي خطيبتي وفتاة أحلامي (عايدة)
لقد كانت في يوم من الأيام زهرة نضرة تستقبل أشعة الشمس الذهبية وتميل مع النسيم الرخاء. . . ولكنها الآن بعد أن حطمت قلبها يد القدر القاسية، تبدو واجمة. . . وقد نفرت مني كأن قلبها لم يخفق في يوم من الأيام بحبي. . . وإذا التقت عيناي بعينيها نظرت إلي نظرة عتاب شديدة ثم أخفت وجهها كي لا أرى دموعها المنهمرة
في تلك الليلة المشؤومة، كنت أنا وعايدة في إحدى دور السينما حين سمعنا زمارات الإنذار ترسل نعيبها الحزين؛ وتسابق المتفرجون إلى الخروج يلتجئون إلى أقرب مخبأ، وأخذ كل يتحسس طريقه في الظلام. . .
. . . وأخيراً وجدنا مكاناً ضيقاً في أحد المخابئ. . . كان الجو خانقاً، والكآبة غاشية على كل وجه، وكان السواد الأعظم من الناس بملابس النوم. . . وابتدأت المدافع تدوي متعاقبة. . . وتعالت أصوات الدعاء من كل جانب. . . ومن حين إلى آخر كنا نسمع صفير القناب وهي تشق طريقها في الهواء متجهة إلى الأرض، فتحبس الأنفاس ويخيم على المكان هدوء كهدوء القبور. . . ثم نحس بالأرض تهتز تحت أقدامنا، ونسمع صوت الانفجار مصحوباً بصوت تناثر الزجاج. . .
وتبرعت (عايدة) بزجاجة عطرها تمررها بين الناس. . . كانت تبدي شجاعة نادرة، وكانت تواسي النساء قائلة: إن القنابل لا تقذف إلا على الأهداف الحربية، وإننا جميعاً في سلام!
وبعد ساعات - خيل إلينا أنها سنوات - سمعنا الزمارات تعلن انتهاء الغارة. . . فاندفع الناس خارج المخبأ لاستنشاق الهواء الطلق. . .
كانت الشوارع مضاءة بأشعة القمر الفضية، وكانت قطع الزجاج المتناثر تتلألأ ببريق غريب. . . وخرج الناس من كل جانب فامتلأت بهم الطرقات. . . كل يريد أن يطمئن على ذويه وأقاربه!
وشاهدنا ونحن نشق طريقنا بين الأكتاف بيوتاً تهدمت، وبيوتاً لا تزال تتهدم. . . كما شهدنا عربات صغيرة محملة بالمتاع وبالناس متجهة نحو محطة السكة الحديدية. . . كأن أصحابها لا يطيقون الإقامة في هذه المدينة لحظة أخرى بعد أن رأوا الموت بينهم. . . ومعهم!
وأخيراً. . . وبعد مجهود عنيف، بلغنا الشارع الذي تقيم فيه (عايدة) مع أمها وأختها الطفلة. . . كان الزحام شديداً بدرجة غير عادية، وكان عمال الإنقاذ والإسعاف يحاولون صد تيار الجموع المحتشدة. . .!
ولم أشعر إلا و (عايدة) قد تركتني واندفعت بين الزحام حتى غابت عن ناظري، كما تغيب قطعة الحرير البيضاء بين عتمة الأمواج المتلاطمة. . .
أخذت أناديها. . . ولكن صوتي كان يختفي بين همهمة الجمهور، وبين الصراخ والنحيب. . .
وأشرفت على مكان أستطيع منه أن أرى بيت (عايدة). . . لم أكد أصدق عيني. . . ذلك البيت الذي كان يشق الفضاء قد صار أثراً بعد عين، وقد تصاعدت في مكانه سحب من الغبار الأبيض الكثيف. . .! ورأيت (عايدة) تحاول أن تتملص عن أيدي رجال الإنقاذ الذين منعوها. . . من الاقتراب. . . من الأنقاض. . .
حاولت أن أصل إليها وأقنعها أن محاولتها هي الجنون بعينه، ولكن دون جدوى، فقد كان تيار الجمهور الجارف يدفعني إلى الوراء
وغابت عايدة عن ناظري لحظات، وعندما رأيتها ثانية كانت فوق الأنقاض، ولا أدري كيف وصلت إلى هناك. . . كانت ترفع قطع الحجارة المحطمة وبقايا الأثاث المتهالك. وكانت تفعل ذلك بقوة عجيبة لم أكن أعهدها في ساعدها البض ويديها النحيفتين الناعمتين. . . وقد انسدل شعرها الفاحم فوق وجهها حتى أخفاه
وحاولت أن أثنيها عن محاولتها الجنونية، فقد كانت هناك بضعة جدران تريد أن تنقض. ولكن أنى لها أن تسمع صوتي الضعيف. .؟
وفي هذه اللحظة سمعنا زمارة الإنذار ترسل نعيبها وكأنه نعيب غراب سوء،، وساد الهرج واندفع الناس كأنهم قطيع من البقر الوحشي نحو المخابئ
وبذلت جهود الجبابرة حتى وصلت إلى عايدة وكانت مكبة على عملها كأنها لم تسمع شيئاً. . . أفهمتها أن بقائها مستحيل، ولكنها لم تقتنع، بل أخذت تردد في صوت حزين: (دعني أنقذهم. . . دعني أنقذهم)
واضطررت إزاء إصرارها أن أقسو عليها بعض القسوة، فحملتها بين ساعدي كطفلة صغيرة، ولكنها قبل أن تغادر المكان كانت قد استخلصت من بين الأنقاض دمية صغيرة. كانت دمية أختها!
وقضينا ليلة مضنية. . . وعندما خرجنا من المخابئ كان الشفق الوردي ظاهراً في الأفق معلناً قدوم يوم جديد
وحملت عايدة مغمى عليها إلى منزلي
وهناك استطعت بمساعدة خادمتي العجوز - وهي الشخص الوحيد الذي يعيش معي - أن أسعف عايدة. وبعد مدة ليست قصيرة أفاقت
كان جفناها ذابلين وقد أحيطت عيناها بهالتين من الزرقة الداكنة. وكانت أصابعها لا زالت ممسكة بدمية أختها الطفلة كانت تتكلم بهدوء غريب وهي تغالب دموعها التي حفرت لها مجرى فوق وجنتيها الشاحبتين. . . ولا زالت كلماتها ترن في أذني وتتكرر في سرعة متزايدة
قالت إنه كان في إمكانها أن تنتشل أختها وأمها من بين الأنقاض لولا حملي إياها عنوة إلى المخبأ
حاولت جهدي أن أفهمها أن هذا كان مستحيلاً، وأنني خفت أن يسقط عليها جدار أو تنهار من تحتها الأنقاض فأفقد بموتها آمالي ولا يبقى لي سوى الاحزان، ولكنها كانت في حالة غير عادية. . . وكانت فكرة إمكان إنقاذ أهلها تتملكها وتلح عليها. وانتابتها بعد ذلك حالة ذهول هي أشبه بالإغماء، فلم تعارض حين شققنا طريقنا نحو محطة السكة الحديدية
لا زال القطار تتسارع دقاته، ومن حين إلى آخر يرسل أنيناً حاداً كأنه يشارك الناس أحزانهم وأنينهم
لقد صرنا في قلب الريف! الخضرة تلفنا من كل جانب. ما أروع اللون الأخضر؟!. . . إنه يهدئ الأعصاب ويحيي في النفس حب الحياة
الجو دافئ، وكأن ركاب القطار قد أنهكهم التعب فخيم السكون على المكان. أما عايدة فقد مال رأسها الرائع فوق كتفي، وهبت نسمات الأصيل الدافئة تطيح بخصلات من شعرها الثائر إلى وجهي فينقل ألي شذى عاطراً
لا زالت آيات الحزن مرتسمة على وجهك أيتها الحبيبة. . . وإني لأشاركك هذا الحزن؛ فقد كانت أمك تعوضني بعطفها وحنانها مما حُرمته منذ زمن طويل
أما أختك الصغيرة، فقد كانت عصفورة مرحة، ولا زالت صورتها مطبوعة فوق مخيلتي وهي تندفع نحوي وتدس يديها الصغيرتين في جيوبي باحثة عن الحلوى. . . ثم تأبى أن تفارقني حتى تنام فأحملها برفق إلى مخدعها. . .
نحن ذاهبون إلى أختي التي تسكن الريف. . .
إن لها ابنة صغيرة تشبه أختك. . . وستجدين هناك عطفاً وحناناً وستغفرين لي ذنبي!
سنبقى هناك حتى تنقشع تلك الغمامة التي تحجب سماء بلدتنا الحبيبة. . . ثم نعود إليها
وإني لأتخيل يوم عودتنا. . . سيكون القطار الذي نركبه مزدحماً. . . ولكن السعادة ستحل على وجوه المسافرين محل التعاسة التي نراها الآن مرتسمة على وجوههم. . . وإن صورة البيت الذي سنقيم فيه في الإسكندرية لمطبوعة فوق مخيلتي حتى لأكاد أراها. . . هو بيت هادئ تحيط به من كل جانب حديقة صغيرة خضراء. . .
أما هؤلاء الذين أحزننا فقدهم وأبكانا، فإني موقن أن لهم الآن بيتاً هادئاً.
سعد دوارة