مجلة الرسالة/العدد 423/من الأدب الحضرمي
مجلة الرسالة/العدد 423/من الأدب الحضرمي
ابن شهاب العلوي
للأستاذ علي عبود العلوي
(السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي شخصية بارزة في سماء الأدب الحضري تألق نجمها من أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى أوائل العقد الخامس من الرابع عشر.
وقد تزعم الحركة الأدبية بحضرموت وهو لم يتجاوز العقد الثاني من العمر ونهض بحضرموت في عالم الأدب بعد أن كان حظها من النهوض فيه قليلاً.
ولئن تغلبت عليه الناحية العلمية فاستأثرت منه بالتفكير وقطعت من حياته جزءاً عظيماً في التأليف، وأرغمته أن يترك لنا ذخيرة في العلم وثروة كبيرة جليلة المقدار تقارب الثلاثين مؤلفاً، فأشهد أنه فوق هذا كان الأديب بالطبع، والأدب سلوته الوحيدة وثروته التي لا تنفذ، ورأس ماله العظيم.
ولو وجد في بيئة شاعرة لكان منه أديب كبير تفاخر به العالم.
قرأت ديوانه منذ ثلاث سنوات وعلقت عليه مذكرات يصح أن يستقل بها كتاب خاص وهذه الكلمة من إحدى فصوله.
زار ابن شهاب مصر والعالم العربي والإسلامي عام 1303هـ وألهمه جو مصر بست عشرة قصيدة.
ولد الشهاب العلوي بحضرموت سنة 1262 هـ وتوفي بحيدر
آباد دكهن بالهند في 29121922 الموافق 1051341هـ.
البيئة المحافظة وحياة الشاعر:
قضي الأمر ولآت مفر أن ينشأ شاعرنا في البيئة المحافظة وهو شاعر. والشاعرية ثورة نفسية تطمح لتحطيم القيود، وتجنح إلى إرضاء النفس واتساع العاطفة، وتميل إلى التغني بمحاسن الجمال، وتخفق أجنحتها حينما ترى الوسامة والصباحة في القد السمهري تخطر في كوكبنا الأرضي، كالنجوم تتلألأ في السماء! ولكن يحول دون ورود مناهل هذه الرياض ذات الأريج المنعش ما سنته أحلام الفلاسفة وفرضته الأديان وأقره العرف واصطلحت عليه الإنسانية منذ عصورها الأولى فورثته لنا أجيالها القديمة حتى صار من الأسس المقررة التي لا يمكن الخروج عليها دون أن تثور ثائرة الرأي العام وتقوم بصخبها العظيم تجاه النفوس الحساسة الرقيقة.
ولئن كانت في هذه الثورة نوازع إنسانية كثيرة جديرة بالإكبار والإعجاب، فإن فيها من الشطط والإجحاف بحقوق العالم الروحي شيئاً كثيراً، لا سيما وأن المجتمع الحضرمي كغيره من مجتمعات بني الدنيا، قد أضافوا إلى القيود التي يرتضيها العقل والدين والعلم قيوداً أخرى لا تمت إلى الإصلاح بشيء.
اللهم إلا إن كان جانب الإصلاح فيها ضئيلاً. وعلى كل فلن يقاس بالجانب العظيم الذي فقدناه من جراء كتم العواطف عند ذوي الإحساس المرهف، القادرين على التعبير عما تجيش به نفوسهم.
وإذا كانت هذه الأوبئة الطفيلية تتهادى بها الأمم، وتنتقل منها ولو إلى قطر بعيد كحضرموت قلْ من يقصده بالزيارة من بين الأقطار العربية والإسلامية بله الأقطار الأجنبية.
فإن حضرموت فوق ما سرى إليها من العدوى بيئة عربية إسلامية صوفية، بلغت المثل الأعلى في تطبيق القول بالعمل، حتى كأنها المعنية بقول الشاعر:
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهمُ من جميع الناس إنسانا
في هذه البيئة نشأ شاعرنا الشهاب العلوي، وجاشت نفسه بالشعر وهو في سن المراهقة، فتغنى وأغنى الشعب الحضرمي بالشعر الغنائي الوجداني، وذاعت شهرته في النوادي الحضرية، وفي المجتمع الحضرمي على اختلاف طبقاته، لأنه كان يقول الشعر وهو في هذه السن المبكرة بلغة حضرموت الدارجة، وبأوزانها الشعرية مما يدعونه بالشعر الحميني، أي غير الشعر المعرب ذي الأوزان العروضية الخليلية
والشعر الحميني قد يكون مرسل القافية كما يكون رباعياً، وأحياناً ثنائياً بلا نغم مردد، وإما نائياً بالنغم المردد.
فاضت نفس شاعرنا بالشعر الحميني وملأت به الجو الحضرمي ولكنها بعد ذلك سمت إلى أن تساهم في النصيب العربي الخالد، وأن ترد المنهل الكبير منه، وأن تشاطر في المثل السامي الذي اتخذته العروبة لها نبراساً تستضيء به معالمها الشعرية.
وليس من الصعب على نفس شاعرة بطبيعتها ألا تهتدي إلى ينابيعه العذبة، ولكن من الصعب علينا نحن أن نتبين تاريخ الدور الذي جنحت إليه نفس شاعرنا بالضبط، لأن ديوانه قد خلا من إثبات أشعاره وهو في دور العقد الثاني وأوائل العقد الثالث؛ وكل ما نعرفه عن مقدرته الشعرية في هذا الدور تلك الأرجوزة التي نظمها في علم الفرائض، وضمنها كل ما يحتويه الفن إجابة لاقتراح أحد مشائخه عليه، والتي يقول في مطلعها:
لله حمدي وارث الأرض المتين ... ومن عليها وهو خير الوارثين
وفي ختامها يقول:
فاصفح وأصلح ما بها من الغلط ... فقد أتى: من ذا الذي ما ساء قط
وعذر من لم يبلغ العشرينا ... يقبل عند الناس اجمعينا
أو قصيدته التي امتدح بها شريف مكة الشريف عبد الله باشا ابن عون الحسيني وعمره إذ ذاك 24 سنة، قال:
حي الحيا حياً به حلت سُعا ... ومنازلاً خطرت بهن وأربعا
وهمت على الوادي الذي سكنت به ... ديم تغادره أنيقاً ممرءا
وسقى العهاد معاهداً بسفوحها ... تختال جارات الصفا والمدعى
ديم أو انس صيدهن محرم ... ليظلْن في تلك المحاجر رتَّعا
سود الذوائب والجلابب والعيون ... القاتلات متيما ومولعا
من كل غانية بلطف حديثها ... ودلالها تذر الفؤادْ مقطعا
يا ظبية البطحاء مهلاً إنني ... بهواك ذو كلف سقيما موجعا
هل تسعفين فداً لحسنك مهجتي ... بالوصل ذا شغف يفيض الأدمعا
واقضي لبانته لديك وزحزحي ... عن وجهك الحسن الصبيح البرقعا
حاشا لحسنك أن يكون محرماً ... ولمثل وصلك أن يكون ممنعا
تيهي فإنك في الحسان مليكة ... يأتين نحو حماك شعثاً خضعا
وتمايلي بحلي محاسنك التي ... لم تتركي لسواك فيها مطعما وتبختري جذلاً فقد جاوزت من ... جمع المفاخر والمكارم أجمعا
قمر البطاح خليفة الحرمين مو ... لانا أبا شرف الشريف الأروعا
إلى آخر ما قال
ومن الظلم ألا أشير إشارة إجمالية إلى أن ابن شهاب في هذا العهد لا يزال يتوثب للصعود، ولكنه مكبل بقيود الصنعة الزائفة:
حي الحيا حياً به حلت سعا ... ومنازلاً خطرت بهن وأربعا
أو سود الذوائب. . . الذي مصدره التقليد المحض أو الإعجاب بما قال أبو الطيب:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب
والفتى الناهض لا بد أن يتحرر يوماً ما وأن يصبح حراً طليقاً ليتغنى بالشعر كما توخي به العاطفة، لا كما تريده الصناعة الزائفة. وفي الفصل الذي يتضمن الكلام على الأدوار التي اجتازت بها شاعرية شيخ حضرموت سترى ذلك.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد ذكر عن أهل الجيل الماضي بأنهم كانوا لا يرون الشعر إلا مغالبة لسانية، ومساجلة كلامية، ولباقة منطق، وسرعة جواب وارتجال.
وكذلك قدر لأبن شهاب أن يدخل في شراك هذه الأحبولة الضيقة، فإن الشريف عبد الله ارتاب في أن تكون القصيدة لشاعر حضرموت، وظن أنها مقولة على لسانه؛ لا سيما وقد شايعه على هذا الرأي أحد ندمائه، إذ أسر إليه في المجلس بذلك فاقترح الشريف على شاعرنا أن يجيز البيت الآتي ليختبر بذلك قريحته:
صفي الوقت لا أبناء الزنا ... ولمن يحسن ضرباً وغنى
ولا مناص لابن شهاب من أن يقيم الدليل على شاعريته فيقول:
وبنو الدهر كما قد مال ما ... لوا إلى من كان منهم ذا غنى
قل أن يوجد منهم منصف ... أنا قد جبت القرى والمدنا
وبلوت الناس طراً فإذا ... أكثر الناس أرقاء الدنا
جانبوا الصدق الذي من قاله ... بان إبريزاً إذا ما أمتحنا
عزفت أنفسهم عن كل من ... كان من أهل المثاني والثنا وغدوا لم يرفعوا رأساً بمن ... لهم الآداب كانت ديدنا
ذلك ذوق عصر نربأ بأنفسنا اليوم أن نقفو إثره أو نتبع خطواته. وما أدري مقدار صحة الرواية التي نصت على الحكاية المذكورة، وإن كنت أعرف أنها دليل على انحطاط الذوق الأدبي والاجتماعي.
يا ترى ماذا أريد أن أقول؟!
أظنني أريد أن أقول: إن للسيد ابن شهاب كثيراً من الشعر الوجداني الذي ماجت به عاطفة الشباب ودفعته به خصوبة النفس اليقظة الشاعرة التي يستهويها الجمال، والتغني بمشاعر القلب والوجدان، ولكن ظروف البيئة المثقفة بالروح الصوفية هي التي حرمتنا الاستفادة من شعر الغناء والوجدان.
ومن ناحية أخرى فإن العزلة التي استهوت حضرموت والتي لا تزال تستهويها إلى اليوم وصيرتها بمعزل بعيد عن الأخذ بوسائل النهوض وتنمية المعارف والثقافة، هي التي هيأت الفرصة. لأن ينكص ابن شهاب في آخر عمره عن نشر آثاره التي تحمل سورة الصبا ومطارح الفتون والفتوة.
ولو كانت لنا إذ ذاك مجلة أدبية أو صحفية سياسية أو اجتماعية لما أمكن شاعرنا أن يتنازل عن بنات أفكاره؛ ولأنه لو فعل لاستطعنا الوصول إلى أشعاره بلا أقل كلفة ولا عناء.
ولا تزال ترن في أذني سورة القصيدة التي أنشدني إياها حفيد الشاعر الأديب السيد حسن بن عمر الشاطري العلوي وذلك منذ سنوات وأنا بجاوة.
نعم لا أزال أذكرها لاستحساني إياها إذ ذاك وهي من الأشعار التي لم تثبت في ديوانه.
وإذا كنت على ذكري لإعجابي بالقصيدة فإني لا أعرف الأسباب التي حالت بيني وطلب نسخة منها من صديقي الأديب لاحتفظ بها مع المذكرات التي جمعتها في تاريخ حضرموت.
لا أريد أن أحجم عن أن أُبين الغرض المقصود من ذلك.
إْن السيد ابن شهاب كما ذكرت في جملة التعريف به أكبر شخصية تزعمت النهضة الأدبية في عصره الحضرمي. ومن كانت له هذه المكانة السامية جدير بأن تعطينا المعلومات الكافية عنه من كل الجهات، وأن نتعرف إليه وهو في سن الصبا كما نتعرف إليه وهو يافع وفتى وكهل لأن التعرف به هو التعرف إلى الأدب الحضرمي في الصميم.
ودراسة الأدب الحضرمي هي دراسة البيئة الحضرمية بما لها من مكانة علمية وأدبية وما فيها من عادات وأخلاق وميول ومشارب واصطلاحات وروح فكرية وصوفية.
وهذه كلها قيم تاريخية جديرة باعتبارها في المكان الأول في تاريخ حضرموت الأدبي، والبيئة المحافظة تقيس الآداب والفنون بمعيار علم الأخلاق.
علي عبود العلوي