مجلة الرسالة/العدد 423/كيف يكتب التاريخ؟
مجلة الرسالة/العدد 423/كيف يكتب التاريخ؟
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 1 -
مقدمة
الشرق القريب - ومصر على وجه الخصوص - حديث العهد جداً بدراسة موضوع طريقة البحث التاريخي وكتابة التاريخ بالمعنى العلمي الحديث؛ وكلية الآداب بالقاهرة تكاد تبدأ هذا النوع من الدرس الذي أرجو أن يتسع ويطبق عملياً في المستقبل القريب. وفي صيف 1939 أصدر صديقي الدكتور أسد رستم كتاب (مصطلح التاريخ) نتيجة خبرته في تدريس طريقة البحث التاريخي سنوات عديدة في جامعة بيروت الأمريكية. وابتداءً من نوفمبر 1940، أخذ الدكتور محمد مصطفى زيادة الأستاذ المساعد لتاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب بالقاهرة ينشر سلسلة من المقالات بمجلة (الثقافة) عن صناعة التاريخ في مصر، فرأيت أن أساهم أيضاً - بعد أن فتحت لي (الرسالة) صدرها الرحيب - بنشر بعض مقالات عن هذا الموضوع، لاحتمال تقديمه بعض النفع للراغبين في دراسة وكتابة التاريخ. ولإعطاء القارئ فكرة عن طريقة كتابة المؤلفات التاريخية التي يتداولها؛ والتاريخ لا يدرس عفواً، ولا يكتب اعتباطاً؛ وإنما يدرس لأغراض وفوائد، ولا بد لكتابته من استعداد خاص ودراية وخبرة بطريقة البحث التاريخي.
ولماذا نحاول الوصول إلى الحقيقة التاريخية؟ وما الذي نستفيده من دراسة التاريخ؟ لكي نصل إلى نتيجة معقولة، فلنبحث أولاً فيما هو التاريخ؛ فكلمة تاريخ مستمدة من اليونانية بمعنى بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي تسجيل حوادث الإنسان منذ ظهر في الوجود، ومنذ بدأ يترك آثاره ومخلفاته على الصخر وعلى الأرض، حتى الوقت الحاضر. ونحن إذا تصفحنا أي كتاب عام عن تاريخ العالم، نجد أنه يتناول أوجه النشاط الإنساني المتنوعة في الزمن الماضي، فيشرح حوادث الحروب ومشاكل السياسة ومسائل الدين والفن والاقتصاد. . . وهو يحاول بذلك أن يعطي صورة للمجتمع الإنساني في حالة حركة مستمرة؛ وه حركة لا تتكرر ولا تعيد نفسها على نفس المنوال وفي نفس الظروف التي حدثت بها في فترة سابقة. نعم إنه قد تقع حوادث متشابهة، ولكن تشابهها لا يمكن أن يكون مطلقاً؛ والإنسان يجب أن يعرف تاريخه ككائن اجتماعي، فينبغي أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ آثاره في الزمن الماضي. وينبغي أن يدرس العوامل التي أدت إلى حدوث الغارات والحروب، وما لابس ذلك، وما خلفته من آثار؛ وأن يتبع مثلاً حركة الكشف الجغرافي في أواخر القرن الخامس عشر، وما ترتب عليها من تغيير طريق التجارة العالمي، وما ارتبط بذلك من هبوط سلطنة المماليك وجمهورية البندقية، وارتفاع شأن دول غرب أوربا كالبرتغال وهولندا وإنجلترا؛ وأن يدرس الأسباب التي أوجدت نوعاً جديداً من الأدب أو الفن وما إلى ذلك من أوجه النشاط الإنساني ومقومات الحضارة.
وحوادث التاريخ هي من صنع الإنسان في ظروف معينة؛ فينبغي أن يقرأ الإنسان وأن يدرس هذا التاريخ؛ فالعلاقة وطيدة بين حياة الإنسان وبين القرون والعصُر الماضية. ولا يمكن للإنسان أن يفهم نفسه وأن يفهم الحاضر بدون الماضي؛ ومعرفة الماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة؛ والتأمل في الماضي يبعد الإنسان عن شخصه، فيرى مالا يراه في نفسه بسهولة من مزايا وأخطاء الغير؛ ويجعله ذلك أقدر على فهم نفسه وأقدر على حسن التصرف في الحاضر وفي المستقبل. ولكي ندرك أهمية معرفة الماضي ووجوب دراسة التاريخ، فلنفرض أننا استطعنا بوسيلة ما أن نقطع صلتنا بالماضي نهائياً، وأن نحرق دور الكتب وأن ندمر كل أثار العمران الراهنة، وأن ننسى أنفسنا؛ فماذا تكون عليه حال الإنسان وحال الحضارة؟ لا بد للإنسان في هذه الحالة من أن يعود ليبدأ من جديد ما كان قد بدأه منذ آلاف السنين من أوجه النشاط المختلفة لكي يصل إلى النقطة التي قطع فيها صلته بماضيه التاريخي، أو إلى ما يقاربها. فماضي الشعوب وماضي الإنسان حافل بشتى الصور، وهو عزيز عليه في كل أدواره، سواء عهود المجد والقوة، أو فترات المحن والكوارث؛ والأقوام الذين لا ماضي لهم ليسوا من شعوب الأرض المتحضرة. ومتى اقتنعنا بوجوب معرفة التاريخ والاستفادة منه، فينبغي إذاً أن يكتب هذا التاريخ، ويجب أن يتخصص لكتابته بعض الناس من أصحاب الاستعداد.
وليس كل من يحاول أن يكتب التاريخ يصبح مؤرخاً. فالمؤرخ ينبغي أن تتحقق فيه الصفات اللازمة لكل من يشتغل بالعلم. ومن بين هذه الصفات أن يكون محباً للعمل جَلداً صبوراً فلا تمنعه وعورة البحث ولا المصاعب والعقبات مهما كان نوعها عن مواصلة البحث، ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه عن عمله غموض الحقائق التاريخية واختلاطها، فيقضي الشهور والسنوات وهو يعمل ويرتحل من بلد إلى آخر بحثاً عن الحقيقة. ويلزم المؤرخ أن تكون له ملكة النقد، فلا يقبل أي كلام، ولا يصدق أية وثيقة إلا بعد الدرس والاستقراء، فيأخذ الصدق والحق ويطرح ما دون ذلك. والمؤرخ لابد أن يكون مخلصاً أميناً شجاعاً، فلا يكذب ولا ينتحل ولا ينافق، ولا يخفي الحقائق التي قد لا يعرفها غيره في بعض الأحيان، والتي قد لا ترضيه أو لا ترضي قومه؛ فإنه لا رقيب عليه غير ضميره. والمؤرخ ينبغي أن يكون بعيداً عن حب الشهرة، وألا يحفل بالكسب وبالألقاب وبالجاه؛ فإن الحقيقة التاريخية التي قد يكشف عنها تعدل كل ذلك أو تزيد. والمؤرخ ينبغي أن يكون قوي الشخصية، فيستطيع أن يكون آراءه بناء على الواقع التاريخي، ويعرضها علينا، فنلمس شخصيته خلال السطور. والمؤرخ ينبغي أن يكون صاحب إحساس وعاطفة وتسامح وخيال؛ فيدرك آراء الغير ونوازع الآخرين، ويحس ما جاش بصدور الناس من شتى العواطف، ويفهم الدوافع التي حركتهم في اتخاذ سلوك معين في الزمن الماضي، ويشارك رجال الأمس مواقفهم في ساعات التاريخ الفاصلة، في فترات الانقلاب، وفي عهود المقاومة العنيفة، وفي ظروف النجاح والفشل؛ لأن المؤرخ المجيد يجد في كل هذه الحوادث صدى نفسه، فتتجلى فيه روح العلم والفن، ويبعث التاريخ حياً، ويحيا في التاريخ، ويعيش للتاريخ.
وإذاً فما هو الطريق الذي نتبعه لكتابة التاريخ؟ وما هي طريقة البحث التاريخي؟ طريقة البحث التاريخي عبارة عن العملية والمراحل التي يصل خلالها الباحث إلى الحقيقة التاريخية، بجمع الأصول والمصادر، ودراستها ونقدها، واستخلاص الحقائق وتنظيمها وعرضها عرضاً تاريخياً معقولاً. إنما نلاحظ بأنه ليس المقصود بالحقيقة التاريخية إمكان الوصول إلى معلومات صحيحة على الإطلاق؛ فالحقيقة المطلقة غير مستطاع الوصول إليها فيما يتعلق بالوقت الحاضر فضلاً عن الماضي، لظروف مختلفة كالأغراض والمصالح، أو لضياع الأدلة وانطماس الآثار. فالحقيقة التي يصل إليها الباحث في التاريخ صحيحة نسبياً، وكلما زادت نسبة الصدق وكبر عنصر الحقيقة أصبح التاريخ تاريخاً بالمعنى الصحيح.
وإن من يدرس العلوم الطبيعية يستطيع أن يشاهد بنفسه التغيرات والتحولات التي تصيب المادة في معمل التجارب. إنما دارس التاريخ لا يستطيع أن يضع الحوادث أمامه في بوتقة التجارب؛ ولابد له من وسائل أخرى تؤدي به إلى الغرض. فينبغي أن تتوفر لديه الأصول والمصادر التي يستخرج منها الحقائق التاريخية. وهذه المصادر عبارة عن آثار ومخلفات الإنسان، وهي على أنواع مختلفة؛ فمن ذلك بقايا جسم الإنسان نفسه، وملابسه وطعامه ومساكنه وأسلحته وأدواته التي كان يستخدمها أثناء حياته، ونقوشه على الأحجار وكتبه المخطوطة والمطبوعة، وصوره ورسومه وتماثيله ومبانيه، ولغته وآدابه وقوانينه وعاداته وتقاليده. وآثار الإنسان كلها تحمل بين طياتها أسرار الحوادث وخفايا التاريخ؛ وهي تظل أبداً صامتة لا تبوح بأسرارها، إلى أن يتمكن الإنسان بالدراسة الطويلة، وبالتأمل العميق من أن يحملها على النطق، وعلى التعبير عن أسرارها وخفاياها. وينبغي ألا يفوتنا أن بعض آثار الإنسان تشيد للمبالغة وللتعظيم، مثل أقواس النصر التي أقامها نابليون في بعض الولايات الألمانية، والتي لا تدل على أنه قد أصبح سيد أوربا على الدوام، أو المدالية التي ضربها تذكاراً لنزوله إنجلترا، مع أن ذلك لم يحدث تاريخاً؛ فهذه المدالية ستبقى كذكرى لأمل لم يتحقق. أو تمثال الرجل الذي يقتل الأسد، مع أن ذلك لم يحدث إلا نادراً، والعكس هو الشائع. ولو استطاع الأسد أن يصنع تمثالاً لفتكه بالإنسان لصحّ الوضع. وأحياناً قد يعثر الباحث في التاريخ على وثائق مزيفة ومنتحلة، سواء بقصد الدعاية أو الدفاع عن فكرة معينة أو من أجل الشهرة أو للاتجار والكسب. وعلى ذلك ينبغي أن تدرس آثار الإنسان بروح النقد والحذر.
وتتحد قيمة التاريخ المكتوب بناء على بعض الأسس العامة. فأولاً نوع المادة التي استقى منها الباحث معلوماته، هل هي أصول أو هل هي نقوش قديمة معاصرة، وثبت صحة معلوماتها، أو هل هي وثائق ومراسلات سياسية مستخرجة من دور الأرشيف وثبت أنها غير مزيفة وأن معلوماتها صحيحة، أم أن المادة التي جمعها الباحث مستمدة من مجرد مراجع ثانوية ليست لها قيمة كبيرة. وثانياً قدرة الباحث على نقد ما تحت يده من الأصول والمصادر. ويختلف الباحثون في النقد وفي استخلاص الحقائق على حسب اختلافهم في الفهم والتفسير والاستنباط. وأحياناً يضع الباحثون في التاريخ افتراضات مختلفة لمحاولة فهم حركة تاريخية مهمة مثل حركة النهضة في إيطاليا أو الثورة الفرنسية. وأحياناً يختلف الباحثون في تقدير معنى الحوادث من ناحية السياسة أو الخلق. وأحياناً يكتبون متأثرين بروح العصر السائدة مثل حركة الانقلاب الصناعي أو نمو الديموقراطية في أوربا؛ إنما كل هذه الاختلافات ضرورية لأنها تقدم آراء ووجهات نظر مختلفة عن عصر معين؛ وهي تعطي للتاريخ الحركة والحياة، وتجعل البحث التاريخي مستمراً بنشاط. وعلى العكس، عدم الاختلاف بسبب الجمود والركود. وثالثاً مطابقة التاريخ للواقع، وبعده عن التمييز والأهواء والنوازع المختلفة؛ فلا تعتبر تاريخاً صحيحاً الكتابة التي يطعن فيها مسيحي على المسلمين في زمن الحروب الصليبية؛ أو العكس، فالكتابة التي تخدم غرضاً معيناً قد تعتبر تاريخاً لنوع من التفكير أو النوازع الإنسانية، وإنما لا يمكن أن يعتبر ما جاء بها معبراً عن الحقيقة التاريخية بالنسبة لما تناولته من الموضوعات.
وبمعنى آخر يمكننا أن نقول إن قيمة التاريخ المكتوب تتحدد بناء على ملكات الباحث في التاريخ واستعداده، وبناء على مدى ثقافته، وعلى درجة إلمامه بطريقة البحث التاريخي. وكثير من كتب التاريخ تعتبر من أمتع ثمرات العقول، لنضوج عقلية المؤرخ، وخبرته الوطيدة، ونجاحه في إعطاء وحدة جامعة واضحة، بعكس الكثير من كتب التاريخ أيضاً التي يكتبها من لا يفهم التاريخ، ومن لا يملك ملكة النقد؛ فلا تزيد عن مجرد معلومات موضوعة بين دفتي كتاب. ومثل هذه الكتب غير جديرة بأسمائها، وهي قد لا تساوي الورق الذي طبعت عليه.
(يتلى)
حسن عثمان