مجلة الرسالة/العدد 422/مدينة تدمر
مجلة الرسالة/العدد 422/مدينة تدمر
للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي
(في يوم 14 يوليو انتهت حملة الحلفاء في سورية بعد قتال استمر حوالي ستة أسابيع في تلك البلاد الشقيقة بين قوات الحلفاء من جهة وقوات قيشي من جهة أخرى، ولقد قام مطار تدمر في هذه الحملة بدور خطير، وتكرر ذكر هذه المدينة على صفحات الجرائد. فوفاء لتاريخ هذه المدينة وماضيها المجيد أكتب هذه السطور)
في وسط بادية الشام وجنوب خط عرض 35 شمالاً، وغرب خط طول 40 شرقاً، تقع مدينة تدمر ذات المطار الحربي في الوقت الحاضر والتاريخ المجيد في العصور الماضية، إذ كانت تسمى باليونانية بالميرا أي مدينة النخل، وباللغة العبرية (تمر) بإقحام الدال فيها، وهذا اللفظ يرادف كلمة (النخل). وقد ذكر المتنبي هذه المدينة في شعره، ولكنه اشتق اسمها من الدمار حيث نراه يقول في مدح سيف الدولة الذي تغلب على بعض قبائل العرب عبد مدينة تدمر:
وليس بغير تدمر مستغاثٌ ... وتدمر كاسمها لهمُ دمارُ
على أن الرخين لا يأخذون بهذا الرأي، ويرجحون أن قول المتنبي هذا من باب الاستقاق البديعي ذكره على طريقة الجناسَ، ويجمعون على أن سيدنا سليمان هو الذي قام بتأسيسها، ولهم في ذلك أدلة يذكرونها، ومنها شهادة الكتاب المقدس في سفر أخبار الأيام الثاني وسفر الملوك الثالث، إذ قال الكتاب عن سليمان: (فبنى سليمان جازر. . . وتدمر في أرض البرية).
ومنها أن ليهود يتناقلون أباً عن جد قصة بناء سيدنا سليمان لها، هذا فضلاً عن أن المؤرخ الشهير يوسف اليهودي قد روى هذا في كتاب العاديات اليهودية، وهو أحد مصادر التاريخ الإسرائيلي. ثم إن العرب اتفقوا على هذا الرأي ولا سيما سكان البادية، بل نراهم يزيدون على ذلك ويزعمون أن الجن هم الذين بنوا مدينة تدمر لسليمان، ومما يؤيد هذا الرأي قول النابغة الذبياني، نحن نعلم مكانته بين شعراء الجاهلية:
إلا سليمان إذ قال الإله لهُ ... قم في البرية فاحددها عن الفَنَدِ
وخبِّر الجن أني قد أمرتهمُ ... يبنون تدمر بالصُّفاح والعمدِ وإذا كان المؤرخون قد اتفقوا على بناء سيدنا سلميان لها فقد اختلفوا في سبب بنائها، ولكن أغلبيتهم أجمعت على رغبة سيدنا سلميان في أن يجعل منها مربطاً لتجارة رعاياه، أو كما جاء في الكتاب المقدس إحدى (مدن الخزن).
هذه المدينة التي ازدهرت أيامها في عهد سليمان كعادة المدن الجديدة في أول إنشائها لم تلبث أن تدهورت بعد وفاة منشئها وأصبحت خاملة الذكر حق أوائل النصرانية، حتى أن هيرودوت أبا التاريخ القديم لميذكر في تاريخه، مع أنه قد زار معظم البلاد الشرقية الهامة في عصره والمحيط بالبحر الأبيض المتوسط. وكذلك لا نجد لها ذكراً في أخبار فتوح الإسكندرية فضلاً عن أن العالم الجغرافي (استرابون) لم يذكرها مع إلمامه بمعرفة الأنحاء الشرقية. كل هذه الشواهد تؤيد ما آلت إليه حالة تدمر من تدهور وخمول وهي التي كانت عامرة في أول عهدها لما اشتهرت به من غزارة مياهها، إذ كانت تجري فيها عدة أنهار لم يبق منها سوى جدول أو جدولين؛ أما عيونها المعدنية التي اشتهرت بها منذ القدم، فقد نضت.
وقد عثر الأثريون على كتابة نبطية قديمة في شمال جزيرة العرب ترجع إلى القرن السادس ق. م. تصف مدينة تدمر بأنها فندق متسع الأرجاء في بادية الشام، وهذا دليل على مركزها التجاري العظيم في سابق الأزمان وتأييد لما ذهب إليه بعض المؤرخين في تعليل سبب بنائها.
على تلك المدة التي اضمحلت فيها مدينة تدمر ما كانت إلا فترة استجمام سرعان ما عاد إليها نشاطها بعد ذلك، واستردت شهرتها من جديد، واسترجعت سلطانها القديم في التجارة على أثر انهيار الدولة السلوقية وكثرة الولايات المستقلة في شمال بلاد العرب والعراق التي اتخذت التجارة مهنة لها، فكانت القوافل تسير إلى بطرة وغزة وتدمر فأصبحت منذ ذلك العهد مدينة خطيرة وأخذت تتقدم عمرانياً، وأصبحت تجارة أوربا وآسيا في أوائل المسيحية في قبضة يدها. تمر بها تجارة بلاد العرب من ذهب وعطور ولآلئ البحرين وتوابل الهند وهي في طريقها إلى روما، فعرف الرومان قيمة مركزها التجاري فاستمالوها إليهم ثم ما لبثوا أن ضموها إلى أقاليمهم الشرقية وأحاطوها بالحميات العسكرية، كما حصنوا الطريق الذي يصلا بنهر الفرات لحماية تجارتهم وتأمينها من غارات القبائل.
ومن الآثار التي عثر عليها الأثريون والتي ترجع إلى سنة 137م مرسوم أصدره مجلس شيوخ المدينة لحسم الفتن التي قامت بين النجار ومأموري الخزانة من أجل المكوس وارتفاعها إذ كانت البضائع الصادرة أو الواردة تجبي عليها ضريبة ثابتة ثم ضريبة أخرى تختلف باختلاف قيمة البضائع ومقدارها، وقد عرفنا من هذه النقوش أيضاً نوع التجارة التي كانت تمر بمدينة تدمر وهي بالإضافة للأنواع السابقة عبارة عن دقيق وزيوت عطرية وغلال وأثمار يابسة وملح من ممالح تدمر الكثيرة في ذلك العهد مما جعل لأهلها شهرة خاصة في قيادة القوافل التجارية عبر الصحراء لحسن خبرتهم بالطرق ولاستعدادهم لمقاومة أعمال قطاع الطرق. فلا عجب بعد ذلك أن شابهت تدمر البندقية فيالعصور الوسطى من حيث المركز التجاري. وكانت تدمر تحتفظ لنفسها بنصيب من دخلها السنوي بعد أن تؤدي إلى روما الجزية المفروضة عليها.
هذا كل ما يمكن أن يقال باختصار عن تجارة تدمر في أزهي عصورها. وقد تكلم في هذه الناحية بتوسع كل من الأستاذ (تولدكة)، (ساخَوْ)، (دي قوكويه). وعرفنا من النقوس السابقة الذكر أنه كان لتدمر مجلس وطني يسن القوانين ويتألف من رئيس وكانت وعدد من الأعضاء. وكانت السلطة التنفيذية في عهده شيخين وديوان يتكون من عشرة حكام. أما السلطة القضائية فكانت من اختصاص بعض الوكلاء.
أما لغتها الرسمية اللغة اليونانية كما هي العادة في جميع الممالك الرومانية الشرقيى؛ ولكن أهلها كانت لهم لهجة خاصة هي الهجة الآرامية وهي قريبة من السريانية. ويقال إن المسيح عليه السلام قد تكلم بها، ولكن هذا لم يثبت بعد. على أن الخط التدميري إلى الآن لا يعرف المؤرخون صورته حق المعرفة في القرون السابقة للمسيحية، لأن جميع الكتابات والرسوم التر عثر عليها حتى الآن ينحصر تاريخها فيما بين القرنين الأول والرابع المسيحيين، وأقدم هذه الكتابات لا تتعدى السنة التاسعة قبل المسيح. ويؤكد المؤرخون أن تدمر قد اقتبست صورة حروفها من الفينيقيين.
اختلف المؤرخون في تحديد السنة التي خضعت فيها تدمر لحكم الرومان ولكنهم أجمعوا على أنها لم تتبع روما قبل سنة 36م، وعلى الرغم من خضوعها لروما كانت تتمتع ببعض الحقوق المدنية، ومنحت امتيازاً خاصاً يخولها السيادة على جميع البلاد والمجاورة لها. ثم تطورت العلاقة بين تدمر وروما إلى شبه محالفة لا سيما بعد أن أخذ أمر بني ساسان يستفحل وهم الأعداء الألداء لوما وبأطرتها.
ثم انتهي الأمر في تدمر بقيام رجل من أبنائها يتمنى إلى بني السميدع ويلقب يأذينة، تمكن من إلان سلطانه على تدمر وخضاع قومه، واتخذ له لقباً ملكياً في سنة 250م، ولكني سرعان ما أقلق هذا العمل بال الأمبراطور الروماني واستطاع أن يتخلص منه بقتله؛ ولكن سلالته استطاعت أن تحتفظ بعرشها وعملت على تحسين علاقتها مع روما، بل نرى أذينة الثاني يحارب الفرس إلى جانب الروم مما كان له أحسن الأثر في نفوس الرومانيين. ولكن أذينه الثاني لم يعمر طويلاً إذ اغتاله ابن أخيه لحقده عليه، وتولت إدارة شئون البلاد زوجته الزباء وصية على ابنها الكبير (وهبلات) ونجحت في إدارة شئون الدولة وقامت بأعمال جليلة وعملت على تعمير البلاد. وما زالت آثارها باقية تخلد اسمها؛ مع أن الاهالي يخلطون بينها وبين ما فعلته (زبيدة) زوجة هارون الرشيد ومن الصعب تعقب أخبار هذه الملكة في سطور لكثرتها وقد نشر الأستاذ فريد أبو حديد قصة تاريخها في مجلة الثقافة.
ومما يلفت النظر أنه على الرغم من شهرةهذه الملكة فإن الغموض يحيط بتاريخها، فنجد مثلاً مؤرخي العرب ينسبون إليها قصة مع أحد ملوك الحيرة، وقد أورد لها ملخصاً المسعودي في كتابه مروج الذهب ولكن بعض المستشرقين وعلى رأسهم الأب سبستيان رنزفال اليسوعي يشك في صحة هذه القصة.
توترت العلاقات السياسية بين زينب ملكة تدمر وروما وانتهى الأمر بأسرها بعد حرب شاقة وتدمير المدينة مما دفع أهلها للقيام لأخذ ثأرها؛ ولكن القائد الروماني (أورليانس) قابل هذه الحركة بتهديم المدينة. وهكذا تدهور حال المدينة وأخنى عليها الدهر إلى أن جاء بنو غسان فاتخذها بعضهم منزلاً له وبقيت على حالتها المتأخرة حتى فتحها المسلمون في سنة 634م عندما مر بها خالد بن الوليد في حملته إلى سوريا.
مصطفى بعيو الطرابلسي
كلية الآداب. اسكندرية