مجلة الرسالة/العدد 421/قديس الوطنية المصرية
مجلة الرسالة/العدد 421/قديس الوطنية المصرية
للأستاذ عباس محمود العقاد
عرفت الوطنية المصرية زعماء مختلفين منذ الثورة العرابية، ولكنها لم تعرف منهم أحداً أحق من (محمد فريد) صاحب هذه السيرة بلقب القديس الوطني، لان العقيدة الوطنية لها قديسوها كالعقيدة الدينية على ما نعلم؛ وأخص ما للقداسة من صفات هي الأيمان والمفاداة والسماحة وخلوص الضمير.
وقد اجتمعت هذه الصفات لمحمد فريد اجتماعاً لا يمارى فيه أحد، فهو في محراب الوطنية المصرية من الزعماء القديسين لا مراء.
كان فداؤه رحمه الله فداء لا غبار عليه ولا شبهة فيه: ترك الوظيفة في العهد الذي كان الناس فيه يعجبون لتارك الوظيفة ولا يعجبون للمنتحر تارك الحياة. ولم يتركها طمعاً فيما هو أكبر منها، لأنه كان يقود حركة بينها وبين اقرب مراحل النجاح سنون وسنون، ولم يكن يجهل بُعد الشقة ولا بعد الرجاء الذي كان يرتجيه.
ولم يطلب المال وهو ينزل إلى معترك السياسة، فقد كان المال موفوراً بين يديه، وقد أضاعه كله غير نادم عليه وهو في منتصف الطريق.
ولم يطلب الألقاب والمظاهر، فقد اغضب الذين يمنحونها في مصر والأستانة: اغضب الخديو بحملته على سياسة الوفاق وإصراره على الدستور، وأغضب السلطان العثماني بإصراره على استقلال مصر والمناداة (بمصر للمصريين)
وحرم نفسه الراحة وهو في وطنه، كما حرم نفسه الراحة وهو غريب عنه، فكان جماعة (تركيا الفتاة) يناوئونه ويضايقونه لأنه أبى في الحرب العظمى أن سيتبدل احتلالاً باحتلال، وصارحهم إن مصر لا ترضى لنفسها مكان الولاية العثمانية على أي نحو من الأنحاء
وبلغ الذروة العليا من المفاداة حين واجه الموت البطيء أنفة منه أن يواجه التسليم ولو مع السكوت؛ فقد ثقل عليه الداء في أوربا وعلم إن الجو المصري انفع الأجواء له والشتاء مقبلة، وضائقة العالم بعد الحرب محكمة، وليس اثقل من مرض وغربة وفاقة وشتاء بعد صحة ودعة ويسار وقدرة على التنقل بين الأجواء، فآثر التلف البطيء الذي لا تخفى غائلته ولا تخفى عقباه، على أن يشتري السلامة بعودة فيها خضوع وتسليم.
قال الأستاذ الرافعي في مقدمة كتابه عن محمد فريد إن الأمة (لم تقدره حق قدره ولا عرفت له عظيم منزلته).
وهذا ويا للأسف صحيح؛ لأن الصفة الكبرى التي امتاز بها هذا القديس الوطني هي الصفة الكبرى التي نجهلها نحن المصريين أو نحن الشرقيين على التعميم، وهي الصفة الكبرى التي لا نصدقها إن لمسناها ولمسنا آثارها، لأنها أشبه عندنا بغرائب الأساطير وخوارق الطبيعة: وهي المفاداة الخالصة مع الإيمان الثابت. فقد يلام الرجل على هذه الصفة العلوية لأنها تلتبس علينا بالتفريط؛ وقد يحمد على الحرص واقتناء المنافع، ولا يحمد على تضييع منفعة أو نسيان أثره حريصة، لان المفاداة شذوذ لم نألفه طويلاً في عادات المجتمع ولا في عادات الأفراد.
وما من شيء في اعتقادنا هو أجدى على المصريين والشرقيين من كتاب يؤكد صفة المفاداة ويثبت وجودها في رجل معروف السيرة معروف الأعمال مستقيم الخلق كمحمد فريد لم يشتهر بنزوات أهل الشذوذ ولا ببدوات التفرد والاستثناء
فإن الشك في وجود المفاداة يغلق المسالك بين السنة المصلحين الغيورين وأسماع السواد والناشئين: انهم لا يصدقون غيرة المصلح الذي يعمل لفكرة يحققها أو مثل عال يجرى وراءه، وان صدقوا منه هذه الغيرة نظروا إليها نظرتهم إلى طبيعة غريبة ليست منهم وليسوا هم منها، فلا وجه لإقتدائهم بها ومجاراتهم لأصحابها؛ إذ ليس من عادة الإنسان أن يصغي إلى من يحلهم منه محل الغرباء المخالفين لسنته في حياته، وإنما يصغي إلى من يمشون معه على سنة واحدة، وينتفي بينهم وبينه شعور الاستغراب والاستبعاد!
وهذه ولا ريب إحدى فوائد الكتاب الذي كتبه الأستاذ الرافعي في سيرة هذا الرجل الكبير.
على إننا نحب أن نستدرك هنا استدراكا له موضعه وله موجبة فيما يكتب بيننا عن القداسة والقديسين
فقد تعودنا أن تجور صفات القداسة على الصفات الدنيوية حتى خيل إلى أناس منا أن وصف القداسة يجرد الإنسان من وصف العمل الدنيوي أو المدارك الواقعية التي يحتاج إليها الساسة وزعماء النهضات القومية.
فان فهم أحد من وصفنا فريداً بالقداسة أنه لم يكن يدرك السياسة العملية إدراكها الصحيح فهو مخطئ أيما خطأ، وجاهل بحق الرجل أيما جهالة.
فقد كان فريد على نقيض ذلك أوسع أقرانه علماً بالسياسة العالمية وأوسعهم نظرة إلى العلاقة بين شؤون الوطنية وشؤون الدول والحكومات في العصر الحاضر.
فلم يكن من أصحاب النخوة المحصورة أو الحماسة الضيقة التي تحسبها العصبية بين حيطان بلادها فلا تعدوها إلى غيرها، ولكنه كان يضرب بنظره شرقاً وغرباً ليتابع الأحوال قديما وحديثا متابعة العليم بما بين أطوار العالم ومصير أمته، وبما بين الحركات الإنسانية والحركات القومية من اتصال وتبادل في التأثير. ومن مقالاته قبل خمسين سنة مقالة عن المواصلات البرقية في العالم، وسياحة الرحالة (سفن هدين) في أواسط أسيا، وإنجلترا واسيا بأفريقيا، والإنجليز في غرب أفريقيا، والروسيا في مملكة كوريا، ومطامع أوربا في الصين، ورئاسة جمهورية الولايات المتحدة؛ وأشباه هذه الموضوعات التي لم تكن بينها وبين الحركة الوطنية المصرية صلة قريبة في رأي الأكثرين من كتاب ذلك الجيل والذي اذكره أنا من ذكرياتي الخاصة أنني أفدت من فريد المؤرخ قبل أن أفيد من فريد الزعيم، وأنني قرأت تأريخه للدولة العثمانية قبل أن اقرأ له مقالة سياسية، وقلب أن يتفرغ للدعوة الوطنية ويشتغل بها ذلك الاشتغال الذي صرفه عن التأليف.
وسمعت بعض الأدباء يقول وقد وقع في أيدينا كتاب من كتبه التاريخية: ألم يكن انفع لمصر أن يمضي هذا الباحث المنقب في الشوط الذي بدأه بتاريخ محمد علي، وتاريخ الدولة العثمانية، وتاريخ الرومان، وما إلى هذه المباحث التي لا يزال فراغها محسوساً في المكتبة العربية؟
فوافق الأديب أناس وخالفه أناس، وكان كاتب هذه السطور من مخالفيه ولا أزال من مخالفيه، لان فريداً قد اخرج لنا في القداسة الوطنية طرازاً منقطع النظير، ولم نخسر مع هذا طرازه في عالم البحث والتأليف، وربما كان اصدق ما يقال في سير العظماء (أن الخيرة في الواقع)، خلافاً لما يتمنون لانفسهم، وخلافاً لما تمناه لهم الأصدقاء، وهي قولة مأثورة تنطبق على سير الحاملين فيما نرى، كما تنطبق على سير النابهين.
ولقد كتب فريد صفحات طوالاً في تاريخ القسطنطينية لم يكن عسيراً على من دونه علماً وخلقاً أن يكتبوها أو يكتبوا أمثالها، أما الصفحة التي كتبها لنفسه في القسطنطينية أيام الحرب العظمى فإحدى صفحات قلائل في سجل البطولة لا يكتبها ألا فريد ومن وهبوا ما وهبه فريد من فضيلة الصدق والمفاداة، وهم قليلون
ومثل لنفسك رجلاً منقطعاً عن بلده، منقطعاً عن موارده، ليس له جند ولا مال، وليس له ملجأ يحميه من أصحاب الجند والمال هناك، وأينما دار ببصره لم يجد حوله ما يثبته ويملي له في رأيه، بل وجد العوائق والمحظورات شتى تفت في عضده وتثنيه، وتؤيسه من عاقبة جهوده وأمانيه. . . والدنيا حرب والقول ما قال العسكريون والدولة مشغولة كلها بالحملة على مصر أو على الولاية التي ستعود إلى مكانها القديم من الدولة العثمانية، وهذا الرجل في عزلته وبين ثلاثة أو أربعة ممن يسيرون على نهجه يقفون في وجه هذا السيل الجارف ليصدوه بكلمة هي أقسى ما يسمع من قائل في تلك الأيام، وهي أن مصر للمصريين وليست للعثمانيين ولا لغيرهم من الفاتحين. . .
هذه صفحة فريد في القسطنطينية
وليس في تاريخ بني عثمان ولا تاريخ دولة من الدولات ما هو أولى بالتسجيل والتمجيد من هذه الصفحة التي كتبها بوحي لا يستوحيه مؤرخو الأبطال، بل يستوحيه دونهم أبطال المؤرخين
وشاء القدر أن يبوء هو بفخارها وألا يبوء خصومه إلا بصغارها وعارها. فأولئك الذين عارضوه وعاندوه وأكرهوه على اللياذ منهم بآفاق أوربا وهي أضيق عليه من سم الخياط. . . أولئك المعارضون والمعاندون هل عارضوه وعاندوه إيثاراً لتركيا أو إيثاراً لمصر أو إيثاراً للحرية والحضارة الإنسانية؟
. . . كلا. بل كان هذا وزيراً منافساً لأمير مصر فهو يغتنم الفرصة السانحة لشفاء الضغن وإحياء التراث، وكان هذا قائداً طموحاً فهو يتخذ من دولته ومن مصر معها مطية لطموحه؛ وكان هذا وذاك وغيرهما مصريين يقسمون بينهم مناصب الحكم في الولاية العثمانية المنظورة!! وكان فريد وحده أو فريد ومعه تلميذان أو ثلاثة من مريديه يعملون للحق ويخلصون للدولة العثمانية إخلاصهم للامة المصرية
وهذه إحدى الصفحات التي كانت تفوتنا لو قضى فريد حياته في تاريخ الأبطال، ولم يقضها بطلاً يرتجل هذه العظات والأمثال وستنصف مصر فريداً يوم تنصف نفسها وتستحق الإنصاف من أقدارها. أما اليوم فكل ميدان فيها يتسع لتمثال فريد فهو ميدان يتسع للتنبيه والمؤاخذة، ويتسع لكلام كثير.
عباس محمود العقاد