مجلة الرسالة/العدد 421/القصص
مجلة الرسالة/العدد 421/القصص
في وزارة الخارجية
عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
أكثر من بقي إلى اليوم من أصدقاء (ألفونس لاكور) لم يروه إلا في أخريات أيامه. وقد كان ألفونس منذ ثورة 1748 إلى أن قتل في حرب القرم في العام التالي يقضي كل أيامه في مشرب (كافيه دي بروفنس) في شارع (ريوسان هورنيه) حيث لا يجالسه ولا يحادثه أحد، لأن القصص التي كان يرويها هذا السياسي القديم مما لا يستطيع تصديقه إنسان. فإذا ما جلست إليه وسمعته يبعد ويشتط عن مدى ما تتصور أنه الحقيقة. . .
انتهزت أول فرصة لتحتج بها وتترك مجلسه، لكنني قد قرأت مذكرات خاصة لبعض السياسيين، فلم أستغرب ما نقلوه ألي من أخبار هذا السياسي القديم، فذهبت إليه وسمعته يتحدث عن مدة وجوده في مصر تحت قيادة كليبر، وكان مما قاله:
(لقد تركت مصر على أثر قتل هذا القائد. ولست اكتم عنك أني كنت أوثر البقاء فيها، وكنت أريد اعتناق الإسلام؛ وكان أول ما لفتني إليه وحببني فيه إباحته تعدد الزوجات، ولولا تحريمه الخمر ومجادلتي مع المفتي في شأنها مجادلة أقنعته بأنني لن اترك شربها لو أسلمت لأعلن المفتي إسلامي من زمن بعيد. فلما توفي الجنرال (كليبر) وجعلوا المسيو (منو) رئيساً لي، عولت على الاستقالة والإقامة في لندن حيث لا اشتغل بشيء غير ترجمة ما وقع عليه اختياري من الكتب الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن. وكان المسيو أوتو سفير فرنسا في لندن يمهد للصلح بين إنكلترا وفرنسا بعد حرب استمرت عشرة اعوام، ولست احب التحدث عن كفايتي، ولكني أؤكد لك أن هذا السفير استعان بي، فأديت له خدمات جليلة: ذهبت معه إلى لندن مستقيلاً من الجيش، فكانت اسعد أيامي تلك التي قضيتها في لندن أترجم كتب الإسلام وأسعى في توطيد السلم بين الدولتين.
ولقد كادت تقضي على السفير وعلى أعوانه كثرة أعمالهم، لان الرجل الذي كنا نفاوضه من اصلب الرجال وهو وليم بت، وليس من السهل على ست دول مجتمعة أن تعامل رجلاً كهذا، فكيف ونحن نفاوضه في صلح بعد حرب استمرت أعواماً عشرة؟
وكانت أعمالنا مساومة على أخذ أرض مقابل أرض والتنازل عن جزيرة في مقابل شبه جزيرة. وهل إذا فعلنا ذلك في فينيس تفعلون ذلك في سيراليونا؟ وهل إذا أعطينا مصر للسلطان، تعطوننا مدينة الكاب التي أخذتموها من حلفائنا الهولانديين؟
وفي يوم من الأيام عاد إلينا السفير متعباً منهوك القوى فأجلسناه واجتمعنا حوله وبعد أن تمالك قواه قال: (لقد كان أهم لعبة يريد أن يلعبها ضدنا الإنكليز خاصة بمركز مصر، وقد وجدت انه لا يزعجهم شيء كما يزعجهم وجودنا فيها لأنهم يخشون أن يجعلها نابليون قاعدة للهجوم على الهند، ولذلك كنا كلما توقف وليم بت في أمر من الأمور قلنا له: (إذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع أن نخلي مصر) فنراه في الحال قد رجع إلى صوابه، وبسبب مصر نلنا شروطاً باهرة في الصلح مع الإنكليز والحق إننا لم نخش الأساطيل والجيوش الإنكليزية وإنما نخشى دهاءهم السياسي، ويختلف الإنكليز عنا في نقطة هامة هي أننا إذا حصلنا على جزء من الممتلكات فيما وراء البحار جلسنا مطمئنين في باريس ودبرنا التسهيلات التي نستطيع بها إخضاع ذلك الجزء لنا ونحن في أماكننا جاثمون. أما الإنكليزي فيحمل زوجته وأبناءه ويذهب إلى ذلك الجزء كائناً ما كان وصفه محاولاً جعله كأية بقعة من بلاد الإنكليز.
وأخيراً تم التفاهم على شروط المعاهدة وهنأت المسيو أوتو على نجاحه وكان شديد الفرح بذلك النجاح فلم يجلس مطمئناً إلينا بل أخذ يجري من غرفة إلى غرفة وهو يضحك ضحكاً عالياً وأنا جالس في ركن من غرفة الاستقبال انظر إليه كلما مر من أمامي. وفي وسط السهرة جاءت رسالة على يد رسول من باريس فنظر إليها السفير ولم يفتح فمه بحرف، بل خانته قوته ووقع على الأرض فجريت نحوه فاجتمعنا حوله وحملناه فنام على النمرقة وكان شكله يدل على أنه قد مات لولا أن نبضه كان لا يزال يدل على حياته.
والواقع أني اكره الفضول ولكن لما رأيت الإغماء على السفير لم استطع منع نفسي من النظر إلى الرسالة التي سببت ذلك فكدت اصعق أنا أيضاً عندما قرأتها. لكنه لم يغم علي، بل جلست في ركن من القاعة وأخذت ابكي. وهذه الرسالة تدل على أن جيوشنا أخلت مصر. وكانت المعاهدة لم توقع بعد ولا بد إذن من فسخها لأن الإنكليز ما عادوا في حاجة إلى إخراجنا منها. لكننا فرنسيون فلا نهزم بسهولة. والإنكليز يظلموننا حين يرون أن إظهارنا للعواطف التي يستطيعون كتمانها يدل على إننا ضعفاء.
بعد قليل أفاق المسيو أوتو وقال: (ترى يا مسيو ألفونس أن هذا الإنكليزي وليم بت سيضحك مني عندما أطلب إليه توقيع المعاهدة). فخطر ببالي خاطر فجأني وقلت: (تشجع! كيف نجزم بان الإنكليز وصل إليهم هذا الخبر؟ ربما استطعنا الحصول على توقيعهم على المعاهدة قبل أن يعلموا بهذا الخبر)
فقفز المسيو أوتو من مكانه ومد نحوي ذراعيه وعانقني وقال: (لقد أنقذتني يا مسيو ألفونس! إن الخبر وصل إلى باريس عن طريق طولون، وسيصل متأخراً إلى إنكلترا عن طريق جبل طارق؛ فإذا نحن احتفظنا بالسر أمكننا الحصول على توقيعهم على المعاهدة
ولست أستطيع أن اصف حالتنا في اليوم التالي؛ فقد كانت ساعاته تمر بطيئة، حتى لقد انتقل المسيو أوتو من الشباب إلى الشيخوخة في ذلك اليوم. ولم أطق الصبر على الانتظار، فخرجت من المنزل مرتاداً كل طريق مقتحماً كل مكان. ولكنني لم اسمع أي خبر. ولما جاءت الساعة الثامنة وهي موعد توقيع المعاهدة اقترحت على المسيو أوتو أن يشرب زجاجة من الخمر قبل أن يذهب، لأني خشيت أن يستدل الإنكليز على الحقيقة من اصفرار وجهه واضطراب يده. ثم ركبت معه عربة من عربات السفارة، وكانت الخمر قد أنعشت قواه، فلما وصلنا إلى باب وزارة الخارجية بقيت في العربة ونزل وقلت له: (إذا تم التوقيع فاعطني إشارة. والى ذلك الحين سأمنع وصول أية رسالة إلى الوزير الإنكليزي)، فصافحني ووعدني بأن يدني شمعة من النافذة حتى أراها من الطريق، ثم تركت العربة تعود ووقفت قرب الوزارة فرأيت العربات مقبلة، وقلت في نفسي: لو جاء رسول من رئيس الوزارة إلى وزير الخارجية فإني أمنعه ولو بقتله، فان آلافاً من الجنود قد ماتت لتكسب مجد الحرب. وماذا إن شنقت وانتصرت بلادي. . .؟
ثم خطر ببالي خاطر فدعوت حوذياً وأعطيته جنيهاً وقلت له: (إذا ركبت عربتك مع أي إنسان فلا تتلق الأوامر منه بل مني، وأنزلني في شارع هاري ولا تترك الذي معي إلا في نادي ويتر في بروتون، وسأعطيك جنيهاً أخر)
فوافق الحوذي. وبعد دقائق جاء رسول وهم بدخول الوزارة فأمسكت بذراعه وقلت: (هل أنت رسول إلى وزير الخارجية؟)
قال: (نعم). فقلت: (تعال معي فهو الآن عند السفير الفرنسي)
وكان كلامي بلهجة تأكيد لم يتردد الرسول في تصديقها. وركب معي في عربة الحوذي الذي اتفقت معه. ولكن السائق جرى بنا في الطريق الذي أرشدته إليه وهو يختلف عن الطريق المؤدي إلى السفارة. فصاح الراكب معي بالحوذي أن يقف وقال إن في الأمر حيلة. ومنعته فاستغاث فكتمت أنفاسه فجلس هادئاً وأردت أن أطمئنه فقلت: (أني رجل شريف مثله، وان الأمر مراهنة فقط).
قال: (مراهنة! ألا تعلم أني أؤدي عمل الحكومة؟ أن عملك يستوجب العقاب)
فقلت: (هذا هو موضوع المراهنة)
قال: (إذاً فأنت مجنون)
عند ذلك نظرت إلى ساعتي فوجدت موعد التوقيع قد فات ولم أجد ضرورة للاستمرار في الخطة، فأوقفت العربة ونزلت راكضاً تاركاً من فيها تحت رحمة الحوذي. وركبت عربة أخرى إلى دار السفارة. ومن منعطف في الطريق راقبت ذلك الرسول يقبل نحوها. وبعد دقائق نزل المسيو أوتو فرحاً مستبشراً وقال لي أنه تم توقيع المعاهدة. ولكن بعد التوقيع وصلت رسالة إلى الوزير الإنكليزي بأن الفرنسيين أخلوا مصر. فقال ذلك الوزير أنه لو تقدمت الرسالة دقيقة لما أمكن توقيع المعاهدة، ولكن أمرها خرج من يده.
فهنأت السفير بانتصاره، وعدت وفكرت في أن مصادفات صغيرة كتأخير الخبر لحظة أو تقديمه لحظة يكون لها تأثير في مصائر الدول وأحوال السياسة العالمية. فآمنت بالقضاء والقدر ولم أعد أسخر من اعتقاد الشرقيين بهما. وعكفت بعد ذلك بأيمان صادق على استئناف ترجمة القران وسائر الكتب الإسلامية.
عبد اللطيف النشار