مجلة الرسالة/العدد 42/النجاشي العادل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 42/النجاشي العادل

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1934



للآنسة سهير القلماوي

(كلا لا تطعهم واسجد واقترب) هكذا كان ينبعث الصوت خافتا واضحا عذبا حنونا، وهكذا كان يتردد الصوت في صدر الرسول وهو وسط الكفار والمشركين والمنافقين والمستهزئين من أهل مكة. فإذا ما تغامزوا عليه، وإذا ما تآمروا على قتله، وإذا ما استهزأوا بوحيه، وإذا ما سبوه ولعنوه وتهجموا عليه، كان هذا الصوت الخافت الحنون يكرر ويعيد: (كلا لا تطعهم واسجد واقترب)

ولكن آل الرسول وآل عبد المطلب، كانوا أعزاء في قريش، وكان الرسول محمياً بعزتهم مطمئناً للوحي الذي ينزل على قلبه. أما المسلمون المستضعفون، أما العبيد وأما الإماء، فلم تكن لهم عزة ولم يكن لديهم وحي، وإنما إيمان هو كل ما يملكون. ومتى درأ الإيمان عن صاحبه العذاب؟ بل متى لم يجلب الإيمان لصاحبه عذابا؟ ورأى الرسول عذاب هؤلاء المؤمنين المستضعفين فأمرهم بالهجرة من مكة، ولم تكن هجرة في الإسلام بعد فقالوا له حائرين؟ وإلى أين نهاجر يا رسول الله؟ قال إلى الحبشة، فان بها ملكاً عادلا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا.

وفر قلة من المسلمين بدينهم لأول مرة ملتجئين إلى النجاشي العادل ملك الحبشة، فآواهم ونصرهم وأقاموا عنده في خير جوار لم يؤذوا ولم يسمعوا شيئاً يكرهونه، ولكن قومهم بمكة عز عليهم هذا الفرار، أو قل عنَّ عليهم أن يتلقاهم النجاشي هذا اللقاء. فأرسوا وراءهم عظيمين من عظمائهم مزودين بالهدايا الثمينة ليأتيا بهم من أرض النجاشي العادل.

وفد العظيمان على أرض الحبشة فوزعا هداياهم على أساقفة النجاشي العادل، وفي الغد قدما عليه وهو جالس على عرشه في أبهة الملك وعزته وسطوته وقدما له هداياهما وقالا له (أيها الملك أنه قد أوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاءوا بدين جديد ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا انتم. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا واعلم بما عابوا عليهم)

أنصت النجاشي العادل إلى قولهما وإذا أساقفته تصيح معهما (صدقا أيها الملك. قومهم أعلى بهم عينا. فأسلمهم إليهما) وهاج النجاشي قولهما وثار لموافقة أساقفة لهما فقال غاضبا ( اسلم إليهما قوما بادروني ونزلوا بلادي واختاروا جواري دون سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان في أمرهم)

وأرسل النجاشي خلف المسلمين فآتوه وهو على عرشه وأساقفته ناشرون مصاحفهم حوله، وتكلم عن المسلمين جعفر بن أبي طالب قال، (أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش. . . حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا. . . وامرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكشف عن المحارم. ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. . . فصدقناه وآمنا به واتبعناه. . . . فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا. . . فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا. خرجنا إلى بلادك. . . ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك) قال النجاشي العادل وقد أثر فيه قول جعفر: هل معك مما جاء به من الله من شيء؟ قال جعفر نعم، قال له فاقرأه، فقرأ جعفر (كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا: إذ نادى ربه نداء خفيا. قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا).

أنصت النجاشي لآيات الله يتولها جعفر فلم يشعر إلا والدموع تنهمر من عينيه وتبلل لحيته. النجاشي ملك الحبشة العظيم، النجاشي الذي ذاق هول الدهر، فقد غدر به قومه وقتلوا أباه وباعوه ليخلصوا منه ثم لجأوا إليه أخيرا حين احتاجوا إليه، هذا النجاشي الذي بلا الدهر واستمرأ غلظته وجفاءه، نعم هذا النجاشي يبكي لمجرد تلاوة آي الذكر الحكيم وكأنه صعب عليه أن يبكي لمجرد تلاوة آيات فالتفت إلى أساقفته وفيهم الغليظ القلب، وفيهم الجافي الطبع، وفيهم البارد العاطفة، فإذا بهم كلهم باكون وقد اخضلت لحاهم من الدمع. ولكن عظيمي مكة وقفا جامدين! لقد ألفا هذه التلاوة ولم تؤثر في أكبادهما الغليظة شيئا. (الأعراب أشد كفر ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله).

خرج العظيمان المكيان مخذولين، ولكنهما لم ييأسا، فجاءا النجاشي العادل في الغد يريدان الوقيعة بينه وبين من آووا إليه فقالا له أيها الملك: انهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيما فناداهم النجاشي وقال لهم وما تقولون في عيسى بن مريم؟ فرد عنهم جعفر ابن أبي طالب (نقول فيه الذي جاءنا به نبيناً : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول) وآمن النجاشي العادل بقولهم وإن لم يؤمن به أساقفته، ورجع العظيمان إلى مكة خائبين وظل المسلمون في جوار النجاشي العادل آمنين مطمئنين

وجاء النجاشي منازع له على العرش يحاربه فلم ينس المسلمين في محنته. وإنما أعد لهم سفنا وقال لهم إذا هزمت فهذه سفنكم توصلكم إلى أهلكم بمكة، وإذا انتصرت فانتم كما كنتم آمنون في جواري. وصلى المسلمون من أجل النجاشي فانتصر على عدوه، وظلوا في جواره آمنين إلى أن تهيأت لهم مكة فرجعوا إليها

وانشغل المسلمون بجهادهم عن الحبشة وملكها النجاشي العادل، وبينما هم ملتفون حول رسولهم يجاهدون من أجله وفي سبيل تعاليمه ودينه، إذا بهم ينعى إليهم النجاشي العادل. ولم ينس الرسول يده على المسلمين يوم كانوا مستضعفين فارين من وطنهم فاستغفر له وصلى من اجله.

كان المار قديماً بأرض الحبشة يرى على ضفاف النيل بقعة ينبعث منها النور فيظنها لأول الأمر وهج الشمس، فإذا ما اقترب منها عرف انه نور ينبعث من الأرض لا من السماء، فإذا ما سأل أهل البقعة عن مبعثه قالوا هذا قبر النجاشي العادل، هذا قبر أول من آوى المسلمين المهاجرين يوم كانوا مستضعفين في الأرض!

سهير القلماوي