انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 418/من وحي الحرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 418/من وحي الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1941



جيل وجيل

للأستاذ محمود البشبيشي

- 4 -

فساد منطق الحياة اليوم - في الاستقرار يقظة للقلم - دوافع

الحرب وأسرارها - الغرائز والحرب - جهل الإنسان الأول

بحقيقة الغرائز - فساد الغرائز اليوم - أثر الطمع والحقد

والأثرة في فسادها

. . . اللهم إن الإنسانية قد ضلت وهي لضلالها تخبط في تيهاء، وتخفق اكثر ما تفوز، وكأنما فاضت حيوانيتها الكامنة فجفأت ما فيها من صفات كلها ضلال وكلها شرور!!

اللهم إن حقيقة الأشياء تقاس اليوم بالكمية لا بالكيفية؛ وقد انعكس منطق الحياة فأصبح مسيخاً قائماً على أسس من الشهوات والأغراض

اللهم إن الأطماع قدغلبت، والجحدود قد طغى، والظلم قد أسفر، والضلال قد اختال واضطربت موازين الحياة!!

لعمري لو أمكن أن تمسخ صورة مشوهة بطبيعتها لما أمكن أن تكون أقبح مما صارت إليه صور الإنسانية في هذه الأيام العجاف!!

متى يتجلى على الإنسانية بدر الإخاء، ويسطع في كل قلب شعاع الصفاء، ويعم الشرقي والغربي جوّ من الرحمة يصل القوي بالضعيف، والضعيف بالقوي، صلةً لا تُشعر هذا بقوته ولا ذاك بضعفه!!

فما يُطرب الكاتب الإنساني شيء ما يُطربه انتشار مبادئ السلام الروحي، لا السلام المقيد برموز وألفاظ، السلام المسطور في القلوب، لا السلام المحفوظ في أوراق! وكما يُحب أن يصول ويجول في ميادين الاضطراب الاجتماعي ليستشعر لذة واجب المصلح السديد الرأي، يُحب أن يخبر الناس عن كثب ومخالطة في ظل السلام والاستقرار لتغزر تجاريبه وتصدق أغراضه. . .

أما بعد فحديثنا يتصل كل الاتصال بالحرب وجو الحرب، ويساير أحوالها ويلابسها أصدق ملابسة، وواجب الكاتب الحق أن يكون لسان الحياة الناطق بما يضطرب فيها. وخير الأفكار ما كان في جوهره وليد الحوادث. وحقيق بمن يحمل القلم وهو أشرف سلاح أن يشرعه في وجه المدلهمات يحللها، وينشر لقومه ما يبصرهم بما في الاتجاهات المختلفة من الضّرِ والشّين، ويقفهم على ما فيها من النفع والزّين

. . . كنت قلت في أول نقاشي مع ولدنا الأديب (حسين) إن الناس لم يفرطوا في أمور دنياهم والإنسانية والروابط الدينية، إلا منذ أن فرطوا في شخصيتهم وأخلاقهم، فأصبحوا لا يحكمهم شعور حي، ولا يقيد شرورهم رحمة. . . ورأى هو أن السبب فساد التأمل واختلاطه بحب الذات، فأصبح الإنسان لا يرى الشيء حسناً إلا إذا كان له نصيب من حسنة!

وقادنا الحديث إلى ذكر الحرب ولكنا لم نتناول يومئذ منبهم أسرارها بالتشريح، وكأنما تركنا الأمر إلى عودة، وقد عدنا له فما حديث الحرب بيني وبينه؟

قلت: ما السر في الحرب وما الدافع إليها؟ وكيف تظل قيودها تطوق الإنسان إلى اليوم، وقد سار به الزمن وسار معه من طفرة إلى طفرات في الرقي العملي والنظري؟ وكيف يعجز اليوم عن حل مشكلاته فلا يجد سبيلاً غير التدمير والتخريب؟

لقد قيل إن المعرفة تكفل السلام بسمو الفكر، والترفع عن الدنيا، والتطهر من أدناس الوحشية والهمجية، وانتشار مبدأ الإنسانية. . . فهل تحقق كل هذا؟ وما ينفض العالم يده من غبار حرب ضروس، إلا ليخوض في أوعاث وأوعار حرب عاصفة، تغمر السماء بالموت الطائر، وتكتسح الأرض بالموت الزاحف!!

لقد قيل إن المدينة تصلح فساد الحياة، وتثقف أودها، وتصل أطراف الإنسانية فتقوم! فهل عرفنا سوى أن المدنية تقدم في تقويض البناء، وتقطيع الأواصر؟ فما السر في هذا الاضطراب؟ وما مدى أثر المدنية والتقدم فيه؟

قال: لعل السر من قديم هو طبيعة المغالبة في سبيل البقاء، فالإنسان بما اجتمع فيه من غرائز تقربه من الحيوان مسوق إلى استغلالها فيما جُعلت له، وخاصة حين تفرض عليه قيود الحياة استعمالها، وعندما تتهيأ له أسباب يقظتها؛ فهناك غريزة المقاتلة قد تغلغلت في نفسه كما تغلغلت في الحيوان، وهو في حاجة إليها لمدافعة الشرور والخوض في مَرابط الهَلَكَة والسعي وراء ما يحفظ نوعه، وهو في كل ذلك مدفوع بدافع حب البقاء، والكفاح في سبيله، تُسيره غريزة فيطيعها - إذن هو يحارب يا بني، أو يميل إلى الحرب بدافع (غريزة المقاتلة) حباً في البقاء والذود عن حقوقه، ورغبة في الاعتزاز بوجوده في الحياة وشعوره بهذا الوجود، فهل يكون ذلك مبرراً للحروب وأهوالها؟ نقف أمامه موقف الاقتناع بأنه أمر غريزي فطرت عليه النفوس، فلا سبيل للخلاص من قيوده! وهل إذا وضح أنها لون من ألوان البقاء يجوز أن نتغاضى عن أهوالها وشرورها، ولا نحاول تشريح أسبابها والنظر إليها كمرض اجتماعي له علل ونتائج؟

- ذلك أمر آخر، فهي كغريزة جدير بنا أن نتأمل حقيقتها بين سائر الغرائز التي تتصل بها، فليس من شك عندي أن غريزة المقاتلة وجدت لحكمة جديرة بالاعتبار، وليس من شك في أن الحياة وما بها من هلكات وما يحف بها من مخوفات جديرة بان تتحصن لها الأحياء بمثل هذه الغريزة. . . وإنما يكون ذلك بقدر محدود يجيء من بعده الخير المنتظر، الخير الذي يصيب المجموع ولا يقتصر على الفرد، الخير الذي تطهر من أدناس الأنانية والأغراض، وخلص منها خلوص الحقيقة من شباك الباطل. وقياساً على هذه الصورة الكاملة لها، أرى أن حرب اليوم قد خرجت عن النطاق المعقول لغريزة المقاتلة، وأصبحت فناً فريداً من فنون الفساد الذي لحق أسس الحياة باضطراب العقل وضلال التأمل، وما تولد منهما من نظم تقود إلى الدمار وتدفع إلى الأثرة القبيحة

إذن وضح أن الحرب في صورتها الفطرية التي تدفع إلى حب البقاء وحفظ النوع من غير اعتداء على الحقوق وليدة غريزة المقاتلة. . . ولكن حرب اليوم صورة لفساد تلك الغريزة

وقد يكون من أسباب الحرب ودوافعها غريزة (حب الاقتناء)، وليس بعجيب أن تكون سبباً من أسبابها، فمن الواضح الجلي أن الإنسان قد درج منذ نشأته على السعي وراء الرغبة الجامحة في اقتناء كل ما يرى؛ يدفعه إلى ذلك حبه لنفسه وطمعه في الانفراد بالمنفعة. ويظهر أثر تلك الغريزة قوياً عنيفاً في عهود الطفولة أيضاً كما كان في عهود الإنسان المظلمة، وكما هو في بعض المجتمعات التي بقيت على فطرتها وظلام غرائزها؛ ولكن أثر الغريزة يكون أكثر وضوحاً في عهد الطفولة حيث ينظر الطفل إلى كل شيء نظرة الطامع فيه. ولعل ذلك يرجع إلى ضيق مدى تأمله وبصره بالأمور، أو تجرده من معنى الخير العام الذي لا يشتد أثره إلا بعد طول رياضة وعظيم دراية وبلوغ لتمام العقلية العامة!. . .

- ومن عجب يا ولدي أن الإنسان مع معرفته اليوم للخير العام وتشدقه بجليل منافعه، تراه منساقاً إلى طاعة هذه الغريزة بل الخضوع لها خضوعاً غلب على قلبه وعقله فأفسد معنى الخير فيها كما أفسد معنى الخير في غريزة المقاتلة، فما السر في ذلك؟ وكيف يصبح حاله وقد أدرك سرها؟

السر عندي. . . أن هناك بعض صفات كامنة في النفس، تغلف هذه الغريزة بغلاف يفسدها، فهناك الطمع والحسد والحقد والغيرة العمياء، تجعل من هذه الغريزة قوة قاهرة، وتفرض سلطانها على كل تصرفات الإنسان، فيندفع في سبيل رغباتها، وقد يخرج عن حدود الخلق ويتخطى الخير العام، ولكنه لا يستطيع سوى إرضاء تلك الغريزة الجامحة. . .

ومن هنا يكون الاعتداء على حقوق غيره، وابتزاز ما ليس من حقه، واختراع الأسباب والعلل لهذا الاعتداء وذلك الابتزاز!

- وثمة غريزة أخرى يا بني قد يكون لها الأثر الكبير في الحروب والميل إليها؛ وهي غريزة الهدم والتدمير، فإن الإنسان مشدود إلى مظاهر هذه الغريزة من يوم ميلاده، ولكنها أكثر وضوحاً عن الطفل لأنه لا يميز بين العمل ونتائجه، فهو فاقد للقياس السليم، لأن الحقائق لا توزن عنده إلا بميزان عاطفة الطفولة التي لا يهمها سوى إرضاء صاحبها على أية صورة كانت بالهدم أو البناء!!

وهي أيضاً موجودة في المجتمعات التي ظلت على فطرتها العمياء، وقد كانت من قبل في العهود المظلمة؛ ولكن إذا جاز أن يتصف بها الطفل لضيق تأمله أو انعدامه، فما يجوز أن تعلق بالرجل الكامل، فما السر في سيطرتها اليوم على العقل البشري؟

السر هو أن بجوار هذه الغريزة غريزة أخرى تشعلها كلما أصابها خمود، هي غريزة السيطرة، فصاحب هذه الغريزة يميل إلى فرض سلطانه على غيره، بل إلى فرض ميوله ومعتقداته. ولعل تضارب المذاهب المختلفة من ديمقراطية ونازية وفاشية وشيوعية وصورة صادقة لهذه الغريزة؛ وصاحب غريزة السيطرة يفعل كل شيء في سبيلها؛ فإذا وجد من يعترضه تنمر وظهرت فيه غريزة الهدم والتدمير في أشد صورها، رغبة في قهر هذا المعترض! وإذا وجد من استكان له وخضع، لم يقنع بذلك بل دفعه هذا إلى التمادي في بسط سيطرته. . . وإن الحرب لمشتعلة حتما حيثما ظهرت هذه الغريزة وما يلابسها

ظهر إذن أن الحرب قد تكون وليدة غريزة المقاتلة كما بينا ووليدة غريزة الاقتناء والامتلاك كما أسلفنا، وأن من أسبابها غريزة الهدم والتدمير كما وضح أن حقيقة المقاتلة والاقتناء حقيقة تقتضيها أسباب الحياة ولكن في حدود الخير العام، كما ظهر أن فسادها واختلاطهما بالأثرة والحسد والطمع والغيرة جعلهما صورة فاسدة من صور الحرب اليوم!

- بقي شيء واحد يا والدي وهو كيف نفسر أسباب الحرب في العهود المظلمة وفي عهدنا الحاضر؟ وهل هناك اختلاف كبير بينهما؟

أما السبب فهو يرجع كما بينا إلى الغرائز السابقة في العهدين، ولكني أعتقد أن الحرب كانت في العهود المظلمة وليدة جهل العقول بحقيقة الخير في الغرائز الفطرية، وأنها اليوم وليدة فساد هذه الغرائز!!

وجماع القول في ذلك أن تصرفات الإنسان في عهوده المظلمة بقيت كما هي في بعض المجتمعات التي تعيش على الفطرة

ثم إن جهله بغرائزه في تلك الأحوال يشبه كثيراً ضلالة الغريب في فهمها أيام الطفولة! فقد أعشت الأبصار في العهود الأولى ظلمة الغريزة، حيث لم يكن في وسع الإنسان الانتفاع باّللمح الباِصِر من التجاريب، وكذلك الأمر في عهد الطفولة والمجتمعات المتأخرة! ولم يك همه في أيامه المظلمة غير ابتزاز ما اختزن دونه، والنظر إلى الأشياء بعين الفرد، وعين الطمع، فقد كان يومئذ أغلَف القلب لا تنفذ إليه أسرار معاني الخير من غريزة المقاتلة، وحب الاقتناء، وكذلك الأمر في الطفولة والمجتمعات المتأخرة. . .

هذا مكانه من غرائزه أيام جهالته وتأخره وطفولته! فأين هو منها اليوم؟ وقد رقى سلماً أطلعه مطالع النور والمعرفة، وذهب في التقدم مذاهب الجن. . .! لا يبالي ولا يستوحش، يزعم أنه على بصيرة من نفسه، ويقين من أمره، وإنه إلى بلوغ أعظم المثل العليا لمنتظر راج. . .

أين هو اليوم من غرائزه؟ هل أدرك مُنبهمها؟ أم ظل على حيرته الأولى؟!

إنه اليوم عليم بأسرارها خبير! ولكن علمه قد أضله، وخبرته قد أعمته! لأنه جعل الأطماع مقصداً، والأغراض هدفاً، ووزن الأمور بميزان الفرد فضل السبيل، وهو من ضلاله يضرب في تيهاء مظلمة

أجل، لقد صاول وداور وناوص حتى فك قيود استغلاق غرائزه، ولكنه قد بذل ويبذل وسعه في إفسادها!. وهكذا انقلب الأمر من جهل إلى معرفة أفسدتها الأطماع والأغراض الشخصية. . .

وهكذا أستطيع الآن أن أقرر أن الحرب كانت قديماً وليدة الجهل بأسرار الخير الكامنة في الغرائز، وأنها اليوم قد أصبحت وليدة فساد هذه الغرائز!

أما بعد فهذا حديث الحرب صُب في قوالب من فنون الحديث بيني وبين ولدنا الأديب (حسين) أول ما يبْدَهك منه أقباس الفكر الفلسفي القائم على قوة التصوير والحِجاج، وأشهد أني، وإن كنت لا أميل دائماً إلى خوض أوعار الفلسفة وأوعاثها إلا في خلواتي الفكرية الخاصة، قد اضطررت اضطراراً إلى مكابدة صعابها على صفحات الرسالة إرضاء لميول ولدي الفلسفية، ونزعاته الفكرية العميقة الطيبة الغراس، المأمونة الغاية.

محمود البشبيشي