مجلة الرسالة/العدد 418/أبو المظفر الأبيوردي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 418/أبو المظفر الأبيوردي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1941



شاعر العرب

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

ذكرت من قبل كاتباً من كتّاب اللغتين العربية والفارسية اسمه رشيد الدين الوطواط، وبينت أنه عربي قرشي من ذرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجعلته مثلاً لاختلاط الأمم الإسلامية بعضها ببعض، كما جعلته مثلاً لامتزاج الأدبين العربي والفارسي في نفوس كثير من الفرس والعرب الذين استوطنوا بلاد فارس

وهذا موضوع واسع؛ فما زالت بلاد الفرس تعد من مواطن الأدب العربي منذ جمعت أخوة الإسلام العرب والفرس وإن اختلفت الأحوال على مر الزمان

ومن الشعراء الذين نبغوا بتلك الديار وهم ينتمون إلى بيوت الخلافة، الشاعران: المأموني والواثقي، وهما من ذرية المأمون بن الرشيد والواثق بالله بن المعتصم. ومنهم أبو المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي

فأما نسبته فإلى أبيورد، وهي بلدة بخراسان في شماليهّا الشرقي، وتعد اليوم في التركستان الروسية. وهو من قرية من قرى أبيورد اسمها كوقن على ستة فراسخ منها، بناها عبد الله ابن طاهر في خلافة المأمون؛ وقد ذكرها في شعره فهو يقول عن الشام:

وتلك دار ورثناها معاويةٌ ... لكن كوقن ألقانا بها الزمن

وأما نسبه فينتهي إلى أبي سفيان بن حرب، بينهما ستة عشر أباً. وكان يتلقب المعاويّ انتساباً إلى معاوية الأصغر وهو الجد التاسع من أجداده. وقد تلقب في شعره بالأمويّ والمعاويّ، وأكثر من الافتخار بهذه النسبة في شعره كقوله:

خذي قصبات السبق عني فما لها ... من الحيّ غيرَ ابن المعاويّ حائز

وروى ابن خلكان أن الأبيوردي كتب رقعة إلى الخليفة المستظهر بالله وعلى رأسها (الخادم المعاوي) فكره الخليفة مكاتبته بذلك فكشط الميم من المعاوي فصار (الخادم العاوي)

- 2 - والأبيوردي من شعراء القرن الخامس الهجري توفي سنة 507 ولكن ابن خلكان يقول: وكانت وفاة الأبيوردي المذكور بين الظهر والعصر يوم الخميس لعشرين من ربيع الأول سنة سبع وخمسين وخمسمائة بأصبهان مسموماً وصُلى عليه في الجامع العتيق بها رحمه الله تعالى

وهذا التاريخ الذي ذكره ابن خلكان والذي يظهر فيه التدقيق بذكر اليوم والساعة أدى إلى تضليل كثير من الناس في تاريخ الأبيودري. وقد وقع الغلط في كلمة خمسين. فوفاته كانت سنة سبع وخمسمائة لا سبع وخمسين وخمسمائة

وفي حوادث سنة 507 ذكر ابن الأثير وأبو الفداء وفاته. وكذلك أرخها بهذه السنة ياقوت الحموي في معجم البلدان

ثم له مدائح كثيرة في الخليفة المقتدي بالله المتوفى سنة 487 وما أحسبه مدح المقتدي إلا بعد أن أمضى شطراً من شبابه في خراسان ثم رحل إلى العراق. فبعيد جداً أن يعيش بعد المقتدي أكثر من سبعين سنة. وقد مدح أيضاً الوزير نظام الملك المتوفى سنة 486

- 3 -

لم يقتصر فضل الأبيوردي على إجادة الشعر؛ فقد كان واسع العلم بفنون كثيرة. روى ابن خلكان عن أبي زكريا بن قغده صاحب تاريخ أصبهان قوله في الأبيوردي:

(فخر الرؤساء، أفضل الدولة، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، يتصرف في فنون جمة من العلوم، عارف بأنساب العرب، فصيح الكلام، حاذق في تصنيف الكتب، وافر العقل، كامل الفضل، فريد دهره، وحيد عصره)

وروى ابن خلكان كذلك أن المقدس صاحب كتاب الأنساب ذكره في ترجمة المعاويّ وقال: (إنه كان أوحد زمانه في علوم عديدة؛ وقد أوردنا عنه في غير موضع من هذا الكتاب أشياء)

وقد نبه إلى هذا الغلط من قبل الصديق الأديب عباس إقبال في كلمة أرسلها إلىّ حينما دعا الأستاذ علي الطنطاوي إلى الاحتفال بمرور ثمانمائة عام على وفاة الشاعر ونشرتها في الرسالة وكان يكتب في نسبة المعاويّ. وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:

وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل

وقال ابن خلكان: (وكان من أخبر الناس بعلم الأنساب نقل عنه الحفّاظ الإثبات الثقات) ثم قال في آخر ترجمته:

(وله تصانيف كثيرة مفيدة منها تاريخ أبيورد، وكتاب المختلف والمؤتلف، وطبقات كل فن، وما اختلف وائتلف في أنساب العرب. وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إلى مثلها. وكان حسن السيرة جميل الأثر له معاملة صحيحة)

هذا ما ذكره ابن خلكان وليس بين أيدينا اليوم مؤلف من هذه المؤلفات

- 4 -

ولسنا نعرف من أخبار الشاعر وأسرته إلا نبذاً متفرقة في الديوان. نجد في الديوان مِدَحاً في أبيه تدل على أنه من الكتاب وأنه ذو مكانة وجاه. ومدحة في عمه تدل على أنه من الخطباء. ولعله كان خطيب الجمعة في بعض البلاد، وهو منصب له مكانة في التاريخ الإسلامي. ونجده يمدح بعض الوزراء من أسرته ويمدح بعض بني عمه وهكذا. ونجد في الديوان قصائد في مدح بعض أخواله من سروات العجم. ويدل الديوان على رحلات الأبيوردي في أرجاء فارس وفي العراق والبلاد العربية. وكان الرجل طموحاً عيوفاً فلم يسكن إلى جانب من الأرض، وهو يقول في قصيدته التي هجا فيها فريبرز ملك شروان:

فقلت أين المحصلون ومن ... ينشر قوماً طوتهم الحقب؟

وقد أخلق الفضل بالعراق وفي ... فارس لما اضمحلت الرتب

والشام أقوى وطالما عهدت ... لفارس النظم حلبةً حلبُ

فكيف يشتد صلب قاصدها ... مادام للكفر حولها صُلب

وأي سوق تسوق فائدة ... قيامها يوم تعرض الخطب

وقد عرض عليه بعض الوزراء الكتابة فأبى وقال:

خليلي إن العمر ودعت شرخه ... وما في مشيبي تلاف لفارط

ألم تعلما أني أنست لعطلة ... مخافة أن أبلى بخدمة ساقط

فلا تدعواني للكتابة إنها ... طماعة راج في مخيلة قانط ينافسني فيها رعاع تهادنوا ... على دَخن ما بين راض وساخط

وأنكرت الأقلام منهم أناملاً ... مهيأة أطرافها للمشارط

لئن قدمتهم عصبة خانها النهي ... فهل ساقط لم يحظ يوماً بلاقط؟

وأي فتى ما بين بُرْدى قابض ... عن الشر كفيه وللخير باسط

وينبئنا الديوان بما كان بينه وبين الخلفاء العباسيين من مودة، فله مدائح كثيرة في الخليفتين المقتدي والمستظهر يشيد فيها بمجد العباسيين، ويبالغ في مدحهم، ويذكر قرابته إليهم، يقول في مدح المقتدي:

أسير وأسرى للمعالي وما بها ... لطالبها إلا لديك لحوق

وقد ولدتني عصبة ضم جدهم ... وجد بي ساقي الحجيج عروق

ونجده في قصيدة يطلب من المستظهر داراً تقيه برد الشتاء يقول:

فهذه شتوة ألقت كلاكلها ... حتى استبد بصفو العيشة الكدر

ومنزلي أبلت الأيام جدَّته ... فشفني المبليان الهم والسهر

وللفؤاد وجيب في جوانبه ... كما يهز الجناح الطائر الحذِر

تحكي عناق محب من يَهيم به ... إذا تعانقن في أرجائه الجدُر

ولن تقيم به نفس فتألفه ... إذ ليس للعين في أقطاره سفر

والسقف يبكي بأجفان المشوق إذا ... أرسي به هَزِمُ الأطباء منهمر

وما سرى البرق والظلماء عاكفة ... إلا وفي القلب من نيرانه شرر

وابن المعاويّ يهوى أن يكون له ... مغنى ببغداد لا تخشى به الغِيِر

مثوى يدافع عن كتبي - وأكثرها ... فيه مديحك - أن يغتالها المطر

كذلك نعرف من الديوان أنه فارق العراق كارهاً، وأن جماعة هنالك منهم وزير للخليفة قد أساءوا إليه. فلما أرسل إليه الخليفة يعاتبه على مفارقة بغداد أجاب بقصيدة فيها هذه الأبيات:

بغداد أيتها المطى فواصلي ... عَنَقاً تئن له القلاص الضمّر

إني وحق المستجَن بطَيبة ... كلف بها، وإلى ذَراها أصوَر

وكأنني مما تسوّله المنى، ... والدار نازحة، إليها أنظر إلى أن يقول:

فصددت عنها إذنبابي معشري ... وبغى علي من الأراذل معشر

من كل ملتحف بما يصم الفتى ... يؤذي فيظلم أو يخون ويغدر

فنفضت منه يدي مخافة كيده ... إن الكريم على الأذى لا يصبر

ثم يكتب من أصبهان إلى بعض أصدقائه بمدينة السلام يعرب عن حنينه إليها:

تحن إلى ماء الصراة ركائبي ... وصحبي بشطي زنَّروذ حلول

أشواقا وأجوازُ المهامه بيننا ... يطيح وجيف دونها وذميل

ألا ليت شعري هل أراني بغبطة ... أبيت على أرجائها وأقيل

هواء كأيام الهوى لا يغبَّه ... نسيم كلحظ الغانيات عليل

إلى أن يقول:

فقل لأخلائي ببغداد هل بكم ... سُلوّ فعندي رنة وعويل

يرنحني ذكراكم فكأنما ... تميل بي الصهباء حيث أميل

لئن قصُرت أيام أنسى بقربكم ... فلَيلى على نأي المزار طويل

- 5 -

ويبين في شعر الأبيوردي اعتداده بنفسه واعتزازه بنسبه، وإباؤه وكبرياؤه وعفته، مع طموحه وبعد آماله. وقد قال عنه ابن منده الذي ذكرناه آنفاً: (وكان فيه تيه وكبر وعزة نفس. وكان إذا صلى يقول: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها) أقول وهي دعوة عجيبة لا أحسب صاحبها يقنع بملك بني أمية الذي امتد من السند إلى المحيط وجبال البرانس

وفخر الأبيوردي بعربيته وأمويته يلقاه قارئ الديوان تصريحاً وكناية في مواضع كثيرة يقول:

أنا ابن الأكرمين أباً وأماً ... وهم خير الورى عماً وخالاً

إلى أن يقول:

وهم فتحوا البلاد بباترات ... كأن على أغرنَّها نمالا

ولولاهم لما درت بفَيء ... ولا أرعى بها العرب الفصالا

وقد علم القبائل أن قومي ... أعزهم وأكرمهم فعالا وأصرحهم إذا انتسبوا أصولاً ... وأعظمهم إذا وهبوا سجالا

مضوا وأزال ملكهم الليالي ... وأيَّةُ دولة أمِنت زوالا؟

وقال أيضا:

وقالت سليمى إذ رأتني لتربها ... وراقهما وجه أغر مهيب:

أظن الفتى من عبد شمس فإن يكن ... أبوه أبا سفيان فهو نجيب

أرى وجهه طلقاً يضيء جبينه ... وأحسب أن الصدر منه رحيب

سليه يكلّمنا فإن اختياله ... على ما به من خَلةّ لعجيب

فقلت: غلام من أمية شاحب ... بأرضكما نائي المزار غريب

وقال في شعر الصبى:

قالت لصحبي سراً إذرأت فرسي ... من الذي يتعدي مهره خببا؟

فقال أعلَمهم بي: إن والده ... من كان يجهد أخلاف العلى حلبا

وذا غلام بعيد صيته وله ... فصاحة وفَعال زيَّن الحسبا

وظل ينشدها شعري ويطربها ... حتى رأته بذيل الليل منتقبا

فودعته وقالت يا أخا مضر ... هذا لعمري غلام يعجب العربا

(البقية في العدد القادم)

عبد الوهاب عزام