مجلة الرسالة/العدد 415/الزوجة المثلى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 415/الزوجة المثلى

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1941


للأستاذ عباس محمود العقاد

وصلت إليَّ محاضرة العالم الفاضل الدكتور عبد المعطي خيال عميد كلية الحقوق بالإسكندرية في موضوع (الزوجة المثلى)، وهي المحاضرة التي اقترحتها عليه وزارة الشئون الاجتماعية، وأذاعها الأستاذ في منتصف الشهر الماضي، وفيها يقول ما فحواه أن الآفة كلها هي: (حرص الشباب على المادة، وجريه وراء الكسب، وحطه من القيم التي خلفها السلف الصالح ومن قواعد الأخلاق التي كانت مقررة عندهم، واكتفاؤه بالعجل من اللذات)

وظهر العدد الماضي من (الرسالة) وفيه مقال صديقنا الأستاذ الزيات الذي يعقب به على خطاب السيدة (ليلى)، وما رأته من أن السبب المباشر والمصدر الأول لمشكلة الزواج هو المادة، وكان ختام مقالة: (إن المال إذا جعل غاية للزواج كان شقاء لمن وجدته ولمن فقدته على السواء. . .)

وعندي أن المادة هي آفة العصر الحديث كله، وفي عداد مشاكله للكبرى مشكلة الزواج. فالناس لا يتهالكون على المادة ولا على اللذة العاجلة إلا إذا قل إيمانهم بالحياة. ومن ثم يغلب الشح على الشيخ والضعفاء، كما يغلب على الشعوب التي ضاعت من أيديها السيادة وقيم الحياة العليا. فكل تهالك على المادة إنما هو بديل من الحياة الصحيحة، أومن الثقة بنفاسة الحياة، وكأنما يقول الإنسان لنفسه: علام الصبر والانتظار والإرجاء وأي ضمان لك من الأخلاق والعواطف وهى هباء؟ إنما ضمانك الوحيد المادة التي في يديك، والمنفعة التي تسوق غيرك إليك، وكل ما عدا ذلك لا يجدي شيئاً عليك

لكن الزواج مشكلة كبرى، ولو خلص الناس من آفات العصر ومشكلاته، ومن ولع الشباب بمآربه ولذاته

الزواج مشكلة لأنه يحاول التفوق بين نقائض كثيرة في الطبيعة الإنسانية، ولا يقتصر أمره على التوفيق بين فردين فمن الناس من يضن أن الزوجة المثلى هي المرأة المثلى؛ وهذا في اعتقادنا خطأ ظاهر يكتشف بقليل من الروية

لأن المرأة المثلى من شأن الطبيع أما الزوجة المثلى فمن شأن المجتمع والآداب الإنسانية حسبما تتعاقب بها الأزمان

وقد تكون المرأة أنثى طبيعية من الطراز الأول في تكوين الأنوثة؛ وليس من الملازم بعد هذا أن تكون زوجة من الطراز الأول في معاشرتها لزوجها وفي أمومتها أو في رعايتها للآداب وقيودها

وقد تكون المرأة زوجة مثلى في البيت والأمة، ومع الزوج والولد، ولا يلزم من ذلك أن تبلغ فيها الأنوثة الطبيعية تمامها

وتنجلي هذه الحقيقة بعض الجلاء إذا تذكرنا أن الحيوان فيه إناث مثليات في عرف الطبيعة، وليس فيه زوجات مثليات على النحو الذي يتطلبه الإنسان

وهنا مشكلة ليست بالهينة من مشكلات الزوج، لأنها مشكلة التفوق بين ما توحيه طبيعة الأنثى، وبين ما تمليه آداب

المجتمعات، وهما شيئان لا يتفقان كل الاتفاق

ويفهم بعض الناس أن الزوجة المثلى هي التي ترضي الرجل، وان الزوج الأمثل هو الذي يرضي المرأة

وهذا خطأ آخر من أخطاء الآراء في هذا الموضوع، ويكفي أن نسأل: ما هو غرض الزواج، ليكون الجواب تصحيحاً سريعاً لهذا الخطاء المشهور

الزواج مقصود لأنه وظيفة اجتماعية ونزعة إنسانية، ويصح أن يتم أداء هذه الوظيفة بمضايقة الزوجين معاً أو بمضايقة

زوج واحد منهما، كما يصح أن يتم أداؤها بما يرضي أحدهما أو كليهما، فلا غرابة من أجل هذا أن تبر الزوجة المثلى بعهد الزواج وهى لا ترضي الرجل كل الإرضاء في كل حين، وأن يبر الزوج الأمثل بذلك العهد وهو مكره على إغضاب حليلته التي يتوخى لها الإرضاء والإيناس

وهنا مشكلة ليست بالهينة كذلك من مشكلات الزواج، لأنها مشكلة التوفيق بين الهوى والواجب، أو بين النظر القريب والنظر البعيد، وهي المشكلة الخالدة في حياة الإنسان

ومن المشكلات في هذا الباب أن الزوج الأمثل لامرأة لا يلزم أن يصبح زوجاً أمثل لامرأة أخرى. فالرجل في الأربعين زوج أمثل لامرأة في حدود الثلاثين، والرجل الذي فيه صلابة زوج أمثل للمرأة التي فيها شكاسة، والرجل الحليم المئتد زوج أمثل للمرأة المتعجلة الرعناء، ولكنهم يختلفون ولا يتوافقون هذا التوافق، فإذا هم أسوأ الأمثلة للأزواج وأقلهم أملاً في الرفاء والوفاء

والبيت مشكلة المشاكل في العصر الحديث

ففي العصور الماضية كانت المسافة قريبة جداً بين العالم البيتي والعالم الخارجي، وكانت الملاهي الخارجية أشبه شيء بملاهي المنادر في البيوت مع قليل من التوسع والتعميم. فلم يكن من العسير أن تتفق معيشة الأسرة ومعيشة المحافل الساهرة، ولو كانت محافل لهو وانطلاق

أما اليوم، فالمسافة بعيدة جداً بين عالم البيت والعالم الخارج، لان المناظر التي يراها الساهر في العالم الخارج لا يراها في

بيته ولو كان من أهل السعة واليسار، وإنما نشأ هذا عن اختراع الآلات التي تعمل للألوف وألوف الألوف ولا تقصر

عملها على جماعات من الناس يعدون بالعشرات كما كانت محافل اللهو في العصر القديم. وليس من المعقول أن تنفق الشركات مليون ريال على منظر سينما يدار في مندرة أو بهو أو قصر كبير بضع ساعات؛ ولا نعرف اختراعاً من هذه الاختراعات يوافق الحياة البيتية غير المذياع الذي يسهل اقتناؤه في الصغير والكبير في البيوت، وهو وحده لا يغني عن سائر ألا فانين التي تتنوع في محافل السهرات

فالبيت في العصر الحديث مهدد الأساس، ولا وقاية له من هذا التهديد إلا الإقلال من العواصم الكبرى وتشجيع الإقامة في الريف، وإلا تربية الذوق المستقل الذي يصعب انغماسه في غمرة الجماهير، وتربية الإرادة الفردية التي يهمها أن تنطوي على نفسها حيناً بعد حين، ويعجبها أن تنعم بالعشرة الأخوية بين الصحب المتفاهمين والأقارب المتعاونين، فوق إعجابها بضجة السواد وزحام القطيع

وليس ما نذكره هنا حلولاً لمشكلة الزواج ولا علاجاً حاسماً لآفات العصر الحديث، ولكنه محاولة لفهم المشاكل على حقيقتها لاغني عنها وعن أمثالها قبل الرجاء في علاج ناجح؛ إذ كل علاج لا يسبقه الفهم الصحيح يقع على غير الداء، وقد يضاعف الأذى من الشفاء إلا أننا نعتقد أن الحلول جميعاً لن تخلي الزواج من عقدة مؤرَّبة باقية على الزمن كله، لأنها قائمة على طبيعة في النفس الإنسانية لا يرجى لها تبديل كبير

تلك العقدة هي غرابة الأسرار الجنسية التي تدفع بالرجل إلى اختيار المرأة، وتدفع بالمرأة إلى اختيار الرجل. فليس لزماً أن يحب الرجل امرأة تستحق حبه، أو تصلحه وتصلح أبناءه، أو تجد فيه مزية كالمزية التي يجدها فيها؛ بل يتفق كثيراً أن يترك المرأة التي تسعده ويتعلق بالمرأة التي تشقيه، ويتفق كثيراً أن يهواها للأسباب التي توجب عليه احتواءها والإعراض عنها. وشأن المرأة في هذه الخليقة أعجب من شأن الرجل وأنأى عن الرشد ودواعي الاختيار المميز البصير؛ فإن إخلاصها لمن يستحق منها الإخلاص اندر من إخلاصها لمن يفسدونها ويسيئون إليها، وهي خليقة لها أسرار اعمق من عرف المجتمع وآداب الزواج وأواصر الأهل والأسر، وليس بالميسور مع بقائها في الطباع خلو الزواج من المشكلات

ولكن الطبيعة تهدينا إلى بعض الأسرار كما تخفى عنا كثيراً من الأسرار، وحسبنا أن نقتدي بها في أساليبها لننتهي إلى شيء في هذا الباب خير من لاشيء. فإن أساليبها في علاقة الجنسين تجري في نهجين مطردين لا يختلفان بين الإنسان وسائر الحيوان وإن اختلفت في الحيوان بعض المظاهر والغايات

أول هذين النهجين هو مزج الواجب بالسرور، فلا يخدم الإنسان النوع بإدامة النسل أو بالإصلاح والإرشاد إلا وفي خدمته سرور له يقويه على واجبه ويغريه باحتماله

وثاني هذين النهجين (التوريط) الذي يقيد الإنسان حين يربد الإفلات فلا يقدر على الإفلات، لأن مصاعب النجاة من الحالة التي يعانيها أكبر من مصاعب الصبر عليها بعد وقوعه فيها. وخير الأمثلة على ذلك كفالة الأبناء ومتابعة السعي في سبيل المجد من مرحلة إلى مرحلة، وقد كان الساعي فيه يحسب أنه مستريح بعد المرحلة الأولى

وتلك هداية لا يعدم الفائدة من يتوخاها في علاج جميع المشكلات

عباس محمود العقاد