مجلة الرسالة/العدد 414/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 414/البريد الأدبي
نصوص من الشرائع المصرية القديمة
في شتاء عام 1938، كانت بعثة الكشف عن الآثار المصرية القديمة بجامعة فؤاد الأول، تقوم بأعمال الحفر والتنقيب في تونة الجبل (هرموبوليس غرب) فعثرت على ملف من ورق البردي طوله متران وعرضه 25 سنتيمتراً داخل (قادوس) من الفخار كسر جزؤه الأعلى، وكان من المحتمل أن هذا الملف يؤلف قسما من مجموعة قوانين مدنية وجنائية، كانت محفوظة في عدة قواديس أقفلت قفلاً محكما
ومنذ حوالي عام ونصف عام عهد إلى الدكتور جرجس متى من جامعة فؤاد الأول بترجمة هذا الملف الذي كان مكتوباً بالخط الديموطيقي، فتبين من ترجمته أن للملف أهمية كبرى في تاريخ القوانين والتشريع، إذ أنه يحوي مجموعة عظيمة من القوانين المدنية، وخاصة ما يتعلق بالمالك والمؤجر وشؤون الهبة والميراث، وحقوق الانتفاع والتسجيل. وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يكشف الحفر عن نصوص تتعلق بالتشريع المصري الذي كثيراً ما ورد ذكره في نصوص الآثار المصرية، وشاد بعدالته كتاب اليونان والمؤرخون القدماء
ومما يجدر بالذكر لهذه المناسبة أن القواديس التي كانت فيها مجموعة القوانين المدنية والجنائية توجد في مبنى صغير شيد باللبن (الطوب الأخضر)، وهو يقوم الآن تجاه معبد توت والدهليز الثالث؛ وكانت هذه المجموعة تحت رعاية كهنة توت يرجعون إليها كلما دعت الحاجة. ثم حدث أن احتل هذه الأمكنة في العصر الأول قبل ميلاد المسيح طوائف من النساك الذين سئموا الحياة فهربوا من المدن إلى أماكن منعزلة، وألقوا بما عثروا عليه فيها من الآثار جانباً، ولهذا وجد الملف الثمين المتقدم ذكره ملقى على الأرض قريباً من الجدار الغربي للمبنى
وقد كان هذا الملف مثار المناقشة بين أعضاء المجمع العلمي المصري في الاجتماع الذي عقد بداره في الأسبوع الماضي
حول الرحلات العربية
أشكر لحضرة الفاضل الأديب الأستاذ محمد محمود رضوان مقاله رداً على مقالي (الرحلات العربية)، فقد أتى فيه بما يكمل ما فاتني، وتفضل فدلني على نوع من الرحلات في طلب العلم أرجو أن تتم لنا قراءته وتحصل لنا معه الفائدة في كتابه الذي يشتغل الآن بتأليفه عن المسلمين والتربية
ولقد اعترض الأستاذ الفاضل على روايتي لبيت الأعشى:
وشاهدنا الجل والياسمين والمسمعات بأقصابها وذكر أن الرواية الصحيحة (بُقصابها) لا (بأقصابها)، والحق أن كلتا الروايتين صحيحة؛ فإلأقصاب جمع قصب بفتحتين وهي جمع قصبة الغناء كما جاء في المخصص لابن سيده. وأظن - إذا لم تخني الذاكرة - أنني أخذت روايتي عن كتاب (شعراء النصرانية) للأب لويس شيخو اليسوعي، ولا أدري عمن أخذها هذا. أما الأقصاب بمعنى الأمعاء، فهو معنى آخر للكلمة ليس هذا موضعه
ولقد سميت الراحلين من قريش إلى اليمن والشام (رحّالين تجاوزاً)، لأنهم ليسوا رحّالين بالمعنى العلمي الذي نعرفه الآن ولم يكونوا: كابن جبير وابن خرداذبة والمسعودي والمقدسي وابن بطوطة. والقرآن لم يسمّهم رحالين كما يذكر الأستاذ رضوان؟ ولكن سمي عملهم رحلة أي نقلة
أما استعمالي لأفعل التفضيل (أملأ) من الفعل الخماسي (امتلأ)، فهو استعمال صحيح لا غبار عليه؛ وقد وجدت له نظيراً في اللغة؛ فالعرب يقولون؛ (هذا الكتاب أخصر من ذاك)؛ وكان الأولى - قياساً - أن يقولوا: (هذا الكتاب أكثر اختصاراً من ذاك). فهذا الاستعمالان شاذان حقاً في نظر النحويين - والأستاذ جد عليم بسخافاتهم في كثير من المواضع - ولكنهما صحيحان لورود الاستعمال عليهما من قديم
أما العبارة التي يتحداني الأستاذ أن أعربها وأبين له جواب شرطها، فإني أسأله أن يقدرّ الجواب بما يشاء، ليتضح له صحة الاستثناء، وعليه التحية والسلام
محمد عبد الغني حسن
إلى الأديب إبراهيم نجا
ورد في قصيدة الأديب إبراهيم نجا المنشورة بالعدد 413 من الرسالة هذه الأبيات:
أيها الورد جميل أنت ... لكني حَزينُ
أيها الأُفق رحيب أنت ... لكني سَجين أيها النورْ رطيب أنت ... لكني دَفين
حطم الدهر جناحي ... وبرتْ جسمي السنون
وقد ضبط الشاعر القافية (حزين) بالرفع كما ترى
قلت: إن الصواب واحد من إثنين:
1 - إما أن تضبط القوافي كلها بالسكون
2 - وإما أن يقول (السنينُ) بدلاً من (السنونُ)
وقد يبدو هذا غريباً بادي الرأي، ولكنك حين تمعن الفكر يتبين لك صحة ما أقول. . . حقيقة أن الرفع مطّرد في قوافي الأبيات الثلاثة الأولى ولا غبار عليه، ولكنه شذّ في البيت الأخير لأن رفع (السنون) الملحقة بجمع المذكر السالم بالواو يدل على أن الشاعر أعربها إعراب جمع المذكر السالم وهو المشهور، وإذن فقد وجب عليه ضبط النون بالفتحة كما تقول (المسلمونَ)، وكما يقول الله تعالى: (كم لبثتم في الأرض عدد سنينَ) (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنينَ) (قال تزرعون سبع سنينَ)
أما إن أراد الشاعر ضبط النون بالضم فعليه فعليه أن يعرب الكلمة الظاهرة على النون مع لزوم الياء كقول الشاعر:
دعاني من نجدٍ فإن سنينه ... لعبْن بنا شيباً وشيّبننا مردا
وفي الحديث: (اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف) في إحدى الروايتين
وبعد. فإنه يحق للدكتور زكي مبارك أن يقول للأديب نجا:
(كما يدين الفتى يدان)
وإلى الأب أنستاس
في مقالك القيم الأخير (ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب)
قلت: (وفي التاج، البدء: السيد الأول في السيادة، والثُّنيان الذي يليه في السؤدَد)
وأقول: ليس بين يديّ الآن (التاج) لأرى ضبط (السؤدد) أهو كما نقلت أم لا؛ ولكني أعرف عن أساتذتي في دار العلوم أن هذه الكلمة إذا هُمِزتْ ضمَّت الدال الأولى فتقول: (السؤددُ)، وإذا لم تهمَز فتحت هذه الدال فتقول: (السُؤَدد). أما (السؤدَد) بالهمز وفتح الدال فلا وعلى ذكر أن البدء معناه السيد أذكر بيتاً يستشهد به النحاة في باب الجوازم وهو:
فجئت قبورهم بدءاً ولمَّا ... فناديت القبور فلم يجِبْنَه
أي ولما أكن بدءاً قبل ذلك أي سيداً
محمد محمود رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
المرحوم إبراهيم طوقان في العراق
حظيت بزمالة الراحل الكريم في دار المعلمين الريفية بالرستمية من ضواحي بغداد - وقد كان قبل هذا العام في إذاعة القدس، ولكن نفسه الكبيرة ضاقت بها فمكث معنا قرابة نهاية العام الدراسي الحالي، بعد جهد حميد بذله لطلابه؛ ولكن جسمه النحيل الذي يحمل هذه النفس العالية والروح الشاعرية لم يحتمل عناء الدرس، فانقطع عن المدرسة وعاد، ثم انقطع وعاد، ولكن المرض غالبه، ففضل الاستقالة والعودة إلى (نابلس)
عاش معنا سبعة أشهر كان فيها مثال الأخ الكامل والصديق الوفي. كان حلو الحديث جميل المعاشرة عذب السمر، تجلس معه فلا تحب ترك مجلسه؛ يغمرك بما تطلب منه من شعر جذاب يملك على النفس مشاعرها، من شعره وشعر شوقي وحافظ والجارم وعلي محمود طه وكان معجباً به لأن شعر طه كان يفيض على البلاد العربية، وقد كان الفقيد حدباً على العرب والعربية، وكثيراً ما كان يحدثني عن شعراء مصر وأن كثيراً منهم لا يهتم بغير ذكر مصر ورجال مصر وآلام مصر وآمالها، فحملني رجاءه إلى شعراء مصر الإجلاء أن يعنوا بالشرق العربي حتى يكون الشعر المصري النفيس الغالي ترنيمة المواطن العربية جميعها. لأن الجميع ينظر إلى مصر وشعرائها وكتابها نظرة الإمامة والتبجيل والقداسة وما كنت أعتقد هذا الرجاء سيصبح يوماً ما وصية الراحل الكريم لشعراء مصر الأكرمين. ولقد كان كثير الاهتمام بمصر وأخبارها السياسية والأدبية، ولا غرابة في ذلك، فقد حدثني بأنه تربطه بمصر رابطة الأصل والنسب
مات طوقان؛ وهو عزيز على دولة الأدب، عزيز على زملائه وطلابه.
وإن الكلام في نواحي عظمة طوقان، وكرم نفسه وعلو همته، وعراقة محتده، لا تسعه هذه العجالة. فأكِلْ إلى الزملاء العارفين قدره توفيته، وعند الله حسن جزائه في جنات الخلد جزاء الصديقين والشهداء والصالحين
السيد إبراهيم سالم
بطن الشاعر. . .
(بطن الشاعر) هذه كلمة أشبه بالألغاز والأحاجي، ظلت أستوضحها - بيني وبين نفسي - وأستلهم الله تفسيرها، فلم أجد ما يشفي الغلة، اللهم إلا ما يتخبط فيه الفكر ويتعثر معه الخيال. . .
وربما قلت - في بعض الأحايين - إذا أردت التاريخ لها أنها ظهرت يوم كانت الفلسفة مبغضة محاربة. فلما خاف الفتى من الفلاسفة أن يموت من عثرة لسانه، أغمض وأغرب، وعمَّى وألغز، وأغلق وأبهم، لِيَنْجُوَ بجلده، ويخلصَ نفسه إن اشتد عليه النكير، أو تجهّمت له أعين الجلاّد. وأغلب الظن أن هذه الكلمة يوم (ماتت) لم تشأ إلا أن تترك لها ذَنباً يلعب فيما يسمى بغرابة اللفظ وغموض المعنى. وقد كان المتنبي يلذ له أن ينام ملء جفونه عن أوابد شعره، في الوقت الذي يسهر معاصروه في شرحه، ويختصمون في بيان منزلته.
وهكذا يحكي عن بعض المؤلفين القدامى، أصحاب الشروح والحواشي والتقارير. . . فقد كان الواحد منهم يروقه أن يتخبط الناس في كلامه، ويقبلوه على وجوهه المختلفة، ويزيدوا على عبارته، أو ينقصوا منها، ليستقيم المعنى ويظهر المراد، فإن لم تتطاحن فيه الأفهام، وتختلف العقول، وتتضارب الآراء، فهو كتاب ميت، أو مؤلف لا قيمة له. . .
وكان أخوف ما يخافه الإمام الشيخ (محمد عبده) أن يتصَّدى أحد بالكتابة على مؤلفاته، نراه يستعيذ بالله من هذا ويتبرأ منه، وقد حدا به إلى ذلك أنه رأى الكتب - في عهده - لا ترمي إلى المعنى الخالص، والبيان الصراح، ولكنها تتلوى وتتخبط، وترمي إلى التعقيد والإبهام. . . وربما كان فينا من أدرك هذا - في الأزهر - حين كان الأستاذ أو التلميذ في الدرس، يمر بالعبارة من العلم، أو الجملة من الكتاب، فإذا رأى أنه مر بها مرور الكرام، وعبرها عبوراً سهلاً، اتهم فهمه، وأساء الظن بعقله، واستكبر على نفسه أن يعلق المعنى بخاطره - عفواً - دون تكلف أو معاناة، فعاد يرجع الضمير إلى مرجع آخر، أو يورد الشبه والاعتراضات، ليرى هل يسلم له الفهم، ويخلص المعنى، أم تحيط به الأشواك والعقابيل. . . لأنه يعلم - حق العلم - أن صاحب الكتاب كدح فيه ذهنه، وأتعب نفسه، وأضاع من وقته الجم الكثير وأن تأليفاً كهذا لا يمر به قارئ إلا على جسر من التعب، وطريق أدق من الصراط. . . وبعض الناس يحيط الإغلاق ببيانه ولسانه. . . فهو كاتباً أشبه به محدثاً، بطنه كظهره، وظهره كبطنه. . . لا يضيرك أن تقول المعنى في بطنه أو ظهره. . . كأنما هم عالة على البيان، أو زائدة في بني الإنسان!!!
إبراهيم علي أبو الخشب