مجلة الرسالة/العدد 410/مقال أوحاه قصف المدافع في ليلة قمراء
مجلة الرسالة/العدد 410/مقال أوحاه قصف المدافع في ليلة قمراء
دنيا الشقي السعيد
في 172800 ثانية
للدكتور زكي مبارك
في الساعة العاشرة من مساء الجمعة وهو اليوم الثاني من شهر مايو، شهر الأزهار، كما يسميه أحد شعراء الفرنسيس، مضيت إلى دار المفوضية العراقية مع مترجم (آلام فرتر) لنشهد آلام الأصدقاء الأعزاء وقد آذتهم أخبار الحرب في يوم الاحتفال بميلاد (الملك الشبل) وهو ابن غازي وحفيد فيصل
وفي الساعة العاشرة من مساء الأحد، وهو اليوم الرابع من شهر مايو، حملت القلم لأحدث قراء (الرسالة) عن تفاصيل ما ثار بيني وبينهم من خصومات، ولكن المدافع ثارت فوق رأسي حتى كدت أتوهم أنني المقصود بعدوانها الأثيم، فالبيت الذي أقيم فيه يرتج ارتجاجاً عنيفاً جداً؛ وأنا أكتب هذه السطور بدون أن أعرف كيف تنتهي هذه الليلة السوداء، وإن كانت قمراء. وصاحب البيت يطرق باب غُرفتي بعنف ليحضني على النزول إلى السرداب، فأجيب: دعني، دعني، فأنا أشتهي أن أموت والقلم في يدي!!
ومعنى ذلك أنني في الإسكندرية وفي أخطر مكان وهو (الرمل)
الغرفة محجوبة النوافذ بحجاب سميك، وفيها نور ينفعني ولا يراه أحدٌ غيري، وأنا مع ذلك أكاد أشهد نيران المدافع وهي تخترق أحجبة النوافذ، فهل حان الوقت لأستريح من دنياي، ولأنجو من بغي الأعداء، وغدر الأصدقاء؟
طاخ! طاخ! طاخ!
تلك أصوات المدافع، وكأنها تقصدني بالذات، فهي تُزلزل الدنيا من حولي، وتنذرني بغاية كريهة دميمة هي الموت في مكان لا أودِّع فيه أهلي وأبنائي
طاخ! طاخ! طاخ!
اصنعوا ما شئتم، أيها العادون من بني الألمان، فأنا أشتهي أن أموت والقلم في يدي، ولن أنزل أبداً إلى السرداب، ولو لقيت الحتف بمدافعكم الباغيات طاخ! طاخ! طاخ!
لكم الويل ماذا تريدون مني، وقد قضيت شبابي في خدمة الآداب والفنون؟
طاخ! طاخ! طاح!
تلك إذن خاتمة المطاف لدنيا الشقي السعيد، وهو الرجل الذي شهد الاحتفال بعيد 14 يوليه في باريس ست مرات، ونعِم بالألعاب النارية في باريس أكثر من عشر مرات في مواسم مختلفات، ولعلها تزيد على العشرين، فلا ضَيْرَ عليه في أن يموت بالنار الحقيقية في إسكندرية وفي يده قلم أعنف من قنابل الألمان، وإن عشت بعد هذه الليلة الباغية، فسيرون كيف صدقتُ في الثناء على نفسي، فأنا بالرغم منهم فَتى مصريٌّ لم يعرف الخضوع لغير صاحب العزة والجبروت
طاخ! طاخ! طاخ!
الجيران يصرخون ويولولون، ونوافذ غرفتي تصرخ وتولول، وقلمي مع هذه المزعجات أكثر طمأنينة من التمساح الجاثم بأعالي النيل، فكيف أُغمِدُ قلمي في هذه اللحظة وأنا أشتهي أن أموت وقلمي في يدي؟
طاخ! طاخ! طاخ!
سأموت بعد لحظة أو لحظتين، فقد كادت نوافذ غرفتي تتصدع من هول الصيال بين مدافع الإنجليز وقنابل الألمان، فما أسعدني حين أموت والقلم في يدي، وإن كنت أرتاب في إنصاف التاريخ
توت! توت! توت!
انتهت الغارة بعد تسعين دقيقة، فواخجلتاه من العيش، وليس في يدي مدفع ولا سيف!
فما دنياي وأنا الشقيُّ السعيد في الثواني التي تعد بال172800؟
ما دنياي في تلك الثواني التي تفوق الأزمان الطوال؟
دخلت المفوضية العراقية في ليلة حرب وقد تهيأت أبهاؤها لتكون ميدان رقص، فقلت: إن اللهو لا يعاب على الأمم القوية والعراقيون أقوياء بالروح، وإن أُتهموا كذباً أو صدقاً بنقض العهود.
قال الحجاج: إن أهل العراق أهل شقاق ونفاق وأقول: إن أهل العراق أهل شقاق، ولكنهم ليسوا أهل نفاق
فأين من يسمع كلامي قبل أن ينجح من يسرهم إفساد ما بين إنجلترا والعراق؟
وأين من يسعى للصلح بين جيشين كانا بالأمس حليفين؟ ولن يستفيد من تأريث القتال بين هذين الجيشين غير من يتربصون لأولئك وهؤلاء؟
وهل ضاعت الفرصة لإصلاح ذات البين؟
ثم اشتركت في الحديث مع الرجلين الكريمين عبد الستار الباسل وعلي الشمسي، وكان الحديث حول ما تستطيع مصر أن تصنع في هذا الظرف الدقيق (؟!)
وقيل كلام وكلام وأنا ضيِّق الصدر بكل ما أسمع؛ فقد كان دخان المدافع في حدود الحبانية يصل إليَّ، على بُعد ما بيني وبين الحبانية. وهل يبعد عني شرٌّ يطير أُواره في أروقة بغداد؟
الله وحده هو الذي يعلم كيف كان حالي والرقص محتدم بأبهاء المفوضية العراقية، والرقص من فنون الحرب، لأنه صراع بين العواطف والأحاسيس
ورجعت إلى داري في سيارة رجل كريم من أشراف الحجاز وصدري يكاد ينشقُ من الألم والغيظ؛ فقد كنت أحب أن تعفيني الحوادث من صدمة الكرب في ليلة الاحتفال بميلاد ملك العراق!
ماذا أصنع؟ ماذا أصنع؟
سأمضي في الصباح لمقابلة رئيس الوزراء، وسأقول له كيت وكيت، وسيكون لي مقام محمود في التمهيد لشئون تقوى المركز الأدبي لمصر في الشرق
ثم جاء الصباح فتذكرت أني مسئول أمام وزير المعارف لا أمام وزير الخارجية؛ وخطة السير في هذا الأسبوع توجب أن يكون عملي في المدينة التي تواجه عدوان الحرب من يوم إلى يوم، فهل أغيِّر الخطة وقد عرفت أن عملي سيكون في مدينة مبتلاة بمخاوف الحرب؟
وكيف وأنا لا أرحم نفسي في أداء الواجب؛ لأني أؤدي الواجب بلا رقيب، فقد وثق بي رؤسائي وأسلموني إلى ضميري لأقتل نفسي بلا ترفق ولا استبقاء. ولو راقبني رؤسائي لرحمت نفسي، وانتفعت بحقي في تعديل خطة السير وفقاً للظروف، ومَن أسلمك إلى ضميرك فقد أسلمك إلى رقيب لا يعرف الغفلة ولا الهجود!
ثم امتطيت القطار إلى الإسكندرية وصدري معتكر بالمعاني التي ساورتني في الليل، وبعد الوصول بدقائق كنت أحاور الأدباء الإسكندريين، فهم سلوتي كلما حللت بمغاني ذلك الشاطئ الجميل
- ستطيل عندنا الثواء، يا دكتور؟
- خمس ليالٍ طوال!
- إذن فستمتع عينيك وأذنيك بقصف المدافع!
وفي صدر اليوم التالي كنت أؤدي واجباً بمدرسة الطائفة الإسرائيلية، وهي مدرسة لا تعطل في أيام الآحاد، أو هي المدرسة الإسرائيلية الوحيدة التي لا تعطل في الأحد الأول من كل شهر، وما يرضيني أن أقضي يوماً بلا عمل؛ وقد آذتني وزارة المعارف حين أسلمتني إلى ضميري
السنة الأولى الثانوية بهذه المدرسة مكانها في السطح. وعند الظهر صكت آذاننا المدافع بأصوات أعنف من قصف الرعد في لحظات الخوف والبأس
ومدير المدرسة يشير بأن ننزل إلى مكان أمين
وأقول: يجب أن نموت ونحن في الدرس
ثم يصلصل الجرَس مؤذناً بالانصراف فتضعف حجتي في العناد
وفي المساء يقع ما عرفه القراء في مطلع هذا الحديث
أما بعد فأين أنا مما كنت أريد؟
كنت أحب أن أتحدث عن الشاطئ الذي أوحشَ بعد إيناس
كنت أحب أن أدرس بعض الشؤون الأدبية أو الاجتماعية
كنت أشتهي أن أقول كلمة في (الإنسان) الذي رُفِعَ عنه بعض الحجاب فعرف من أسرار الوجود أشياء، ثم كان حاله حال الطفل الذي وُهِبَ مسدّساً محشواً بالرصاص فهو يصوبه إلى صدور الآمنين كيف شاء عقله الوليد! وإني لأخشى أن ينتقم الله من (الإنسان) فيسلبه القدرة على (استغلال) ما عرف من أسرار الوجود!
انتصف الليل أو كاد، وسكتت المدافع منذ لحظات، فهل هدأ البلبال الذي يساورني كلما فكرت في مصير الشرق؟
ما أشقى الرجل الذي يعيش وهو موكَّلٌ بتعقب ما في الدنيا من قُبح وحُسن، وجهل وعلم، وقنوط ورجاء، وإن استباح القول بأنه الشقيُّ السعيد
زكي مبارك