مجلة الرسالة/العدد 41/مقبرة عائمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 41/مقبرة عائمة

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 04 - 1934



للدكتور احمد زكي

ليست هذه حكاية من صنع الخيال، ولكنها واقعة صدق، أرويها عن راوية صادق ورجل مسئول:

سكيم وحكيم شابان من أهل الإمبراطورية السماوية المقدسة التي يسميها أهل هذه الدنيا غير المقدسة ببلاد الصين، نشآ في قرية من قرى مديرية (كانتون) ولازماها حتى بلغا سن الشباب الأول، سن العشرين، هذا باحتساب دوران الأرض واختلاف الليل والنهار، فانك كنت تراهما فتحسبهما بلغا الثلاثين أو فاتاها، وتحدق في وجهيهما الكالحين مليا فتجدهما مثقلين بهموم الأربعين والخمسين. وتلك المسحة الحزينة الكلحاء تجدها حيثما ضربت في بلاد الله فالتقيت بصبي شاب أو شيخ، دائما أبداً ذلك الوجه النحيل الشاحب المسكين الذي تكاد تقطر منه الصفرة والألم. اشترك سكيم وحكيم مع شباب أمتهم في حمل ذلك الوجه الكالح والحزين، وزاده كلاحة وحزنا فروض ثقيلة يفرضها الآباء من يوم يخلقون، فالابن دائما في طاعة أبويه ومن متاعهما، لقن صغيرا انه إنما خلق لخدمتهما وترفيهما وكسب معاشهما، وان وجوده في هذا العالم لا يبرره إلا التضحية لها بالنفس والنفائس.

وذات مساء ذهبا إلى حانوت القرية الصغير يشتريان من الأفيون أطيبه وأنضجه، ويتخيران منه أكثره تسكينا للطبع الثائر وتخديرا للمزاج الحاد، فقد كان اتفق في تلك الليلة أن أبويهما لم يكونا على أطيب حال وارحب بال، فالتقيا هنالك بعد غيبة أيام قليلة ملاتهما بالشوق الكثير، فرحب حكيم بسكيم، ورحب سكيم بحكيم، وتساءلا مليا في أدب كثير عن صحة أبويهما، ولما بلغا من ذلك ما طمأن بالهما وأقر خوفهما، انتقلا يصفان الزمن السيئ ويشكوان ضيق الحال، ويتأسفان على ما حاق بالقرية من الفقر والجوع وكان إلى جانبهما رجل من أهل الصفرة كذلك، إلا انه سمين بدين، وقد اضطجع على فراش من فرش الحانوت يهيئ لنفسه تدخيني الأفيون، وكان يستمع للشابين وشكاتهما، فلما بلغا من الحديث ما بلغا، شاء أن يتدخل فيأخذ بطرف من حديثهما فقال:

- نعم صديقي، إن في الزمن سوءاً، وان في الحال ضيقا، وكيف تقنع الروح فتهدا وتخلد للسلام والمعدة فارغة؟ فابتدره الصديقان:

- هذا حق. هذا حق لا مراء فيه

ثم أخذا يتساران:

- إن هذا الغريب المحترم لابد ان يكون فيلسوفا كبيرا لانه يتكلم بلغة الحكماء

وجرى الحديث بينهما وبين الحكيم المحترم، وبعد تحية تتلوها تحية، وشكوى منهما يتلوها تامين منه، وبعد ان ذكرا للغريب مرارا انهما وضيعان وحقيران لا يساويان خردلتين، تراءى للفيلسوف أن يفتح لهما عيبة حكمته ويدلهما على أقوم السبل واقر بهما للعناية بآبائهما الأشياخ حتى تنفرج الأزمة الحاضرة فذكر لهما جزيرة في ناحية من نواحي البحر المحيط يسكنها شياطين شقر من الهولانديين يقومون فيها بزراعة الطباق في مساحات مديدة واسعة، ويستخدمون فيها الشبان فيعطونهم أجور لا تتحقق إلا في الاحلام، هذا بشرطين: أولهما أن يكون الشاب قادرا ماهرا، وثانيهما ان يكون له الحظ المجدود الذي ييسر له الخدمة لدى هؤلاء الشقر. وذكر لهما انهما لابد مجدودان لأنهما وقعا غي سبيله، وانه هو أيضاً مجدود باستطاعته إسداء الخير لهما على هذا النحو. وكان في حديث هذا الفيلسوف عذوبة، كانت كلماته ملساء تنزلق في سهولة من بين شفتين ملساوين، ولا بدع فصاحبنا كانت تفرض عليه صناعته حذق الكلام وموادعة القلوب ومصانعة الإفهام، فهو رجل من الرجال المغامرين، الذين كانوا يجوسون خلال الريف يتصيدون الشباب البريء الساذج يبعثون به إلى وكلائهم بالموانئ ليرحلوهم في طلب العمل وراء البحر إلى حيث تشتري الأبدان اغتصابا لقاء كراء دنيء وعيش رقيق.

ولما كان في طبع الصيني ارتياب، وفيه كذلك حب المساعرة والممارسة، لم يطمئن سكيم ولم يطمئن حكيم إلى قبول الدعوى في الليلة الأولى من عرضها، وآثرا انتظار الغد، فالغد الذي يليه وانتهيا أخيراً إلى أن بلعا الطعم كما بلعه قبلهما ألوف وبثمن بخس، بخمسة وثلاثين دولارا فضة، باعا الجسم والروح وفي صبيحة يوم كان سكيم وحكيم يدقان بأقدامهما تراب الطريق إلى ميناء (كانتون) وهو ميناء في الشرق الأقصى في ذكر اسمه غناء عن سوء وصفه وشناعة الأمور التي تجري فيه، ولما بلغاه سيقا كالغنام في قطيع كبير من الضحايا إلى سفينة صينية عتيقة عرفت البحار طرازها منذ خمسة قرون. وكانت سيئة النظام فاسدة التقسيم عاطلة من كل أدوات الراحة ووسائل العيش، لا أقول الرفيه، ولكن اللازم للتميز بينه وبين عيش الأنعام وسائر الحيوان. دخل شباب الصين إلى السفينة الصغيرة وكانوا خمسين ومائة رجل فملأوا طابقيها حتى ضاقا بهم، ولكن لم يظهر عليهم انهم ضاقوا بهما، وكيف يضيق الصيني بشيء وهو من أمة يرى الرجل فيها صنوف الكرب تحل به بأهله، وألوان الخسف والعذاب تنزل بغيره وبأهل غيره، وهو يحدق إلى هذه والى تلك بعين تنظر ولا ترى، ومقلة إن أدركت من الصور مبناها فقد فاتها معناها.

وتحركت السفينة باسم عزريل مجراها والى جهنم مرساها. وبتحركها بدأت تتحرك الأمور. فالبحر أخذ يدور فدارت معه نفوس الراكبين - في الأمم المتحضرة يذهب دوار البحر بوقار الناس، وهم يعلمون ذلك من أنفسهم فيحرصون على حرمتها فيتقون ما يقع لهم من ذلك بالتخفي والتستر، أما أصحابنا فلم يعرفوا للوقار اسما ولا لحرمة النفس معنى، ولو انهم علموا من ذلك ما علم غيرهم لما أغناهم علمهم شيئا، فلم يكن في السفينة موضع فاضل، فكيف بمكان ساتر، وما حاجة الصيني العامل المسترق للستر والخفاء، فمضت أيام ثلاثة، اختلط فيها الإنسان والمتاع والمكان، بمقذوفات الحلوق في جو امتلأ فسادا وتنضح سماً.

وصحا الجو في اليوم الرابع فرفع الرجال رؤوسهم وقاموا إلى وجبة من سمك وأرز، الارجلين بقيا بلا حراك على ظهر السفينة. ومن اجل هذين اجتمع ربان السفينة بوكيله اجتماعاً سريعاً فقررا أن الرجلين يحتضران، وانه لابد ألا يموتا في السفينة فيجلبا لها الشؤم والخراب. وكان من عادة أمثال هذه السفن أن ترسى على شواطئ غير أهلة طلبا للوقود الرخيص الذي يفر إليها هربا من الضريبة. وفي أول إرساءة انزل الرجلان ففرحا لذلك فرحا كبيرا، ولكنهما ما لبثا أن أدركا انهما نزلا إلى ارض لا أنس فيها ولا عون بل فيها المرض المتصل والمرض البطيء. فبكيا واستغاثا يطلبان العودة إلى السفينة، ورفعا أيديهما عبثا بالرجاء والدعاء. وأقلعت السفينة بدونهما. وعلم الرجال الذين بها ان هذا مآل كل من يسقط منهم هذه السقطة، ولكن لم يتحرك فيهم بنان باحتجاج أو لسان بكلمة دفاعا عن هذين البائسين، وكيف يقع من أحدهم شيء فيه إفساد لمغامرة مالية تعود على نفسه وأهلة بالنعمة والثراء؟ وما هذه بأول مرة بردت فيها المنافع الذاتية الدم الإنساني في موقف كان من طبعه أن يغلي فيه ويفور.

سارت السفينة مع الريح جنوبا، وكان يهب من الشمال شديدا، فسرعان ما بلغت أرخبيلاً يقع إلى الجانب الأدنى من بوغاز (مالقة) فانقلب اتجاه الريح فاصبح حاراً لافحا، وبدأ العطش يأخذ من الرجال فاستنفذوا صهريج ماء كامل. وفتحوا الصهريج الثاني وبفتحته انفتحت طاقة من جهنم.

ففي مساء ذلك اليوم مرض ثلاثة من الرجال مرضا مفاجئا، وماتوا موتا سريعا فلم يمهلوا ربان السفينة ليفعل بهم ما اعتاد ان يفعله بالمرضى إذا قل فيهم الرجاء. فاستاء الربان وتشاءم وتربص شرا. وقذف الرجال الأحياء بالرجال الأموات من فوق ظهر السفينة إلى البحر، إلى أفواه القروش التابعة، ووحوش الأقيانوس السابحة، وكان في وجوههم جزع، وفي عيونهم رعب، وكانت في الجثث بشاعة وشناعة.

في الصين يعيش الناس في فقر مدقع وجهالة سوداء، وهذان يلدان القذارة فإذا حلت الهيضة (الكوليرا) بهم راعتهم اشد الروع فان كانوا على الأرض فروا منها وتفرقوا سراعًا في كل صوب، وفرقوا معهم عدوى المرض في كل ناحية، وان كانوا حيث لا مفر ولا منجاة استسلموا استسلاما كاملا، واشتد بهم الخوف فجمدوا عن الحركة وهذا ما حدث لسكيم وحكيم وأصحابهما على تلك السفينة المشئومة، فانهم جميعهم جلسوا القرفصاء ودلوا وجوههم بين أرجلهم يحدقون في الأرض تحديقا شديدا كأنما يريدون خرقها بانظارهم، وهم إنما يفكرون فيمن تكون عليه النوبة التالية، وبأي اسم يهتف الهاتف عن قريب.

ولم يطل تفكيرهم طويلا، فما انتصف النهار التالي حتى أجاب الهاتف منهم ستة رجال، وما جاءت العشية حتى زاد هؤلاء عشرة آخرين. وجاء النهار مرة أخرى وجاءت شمسه، وأخذت تصب على السفينة أشعة لا من ضياء لطيف ولكن حمما من النار، وكان من حولها البحر هادئا ساكنا كأنه صفحة الزجاج، تشقه السفينة بصدرها فيسمع انشقاقه واضحا في هذا السكوت الرهيب.

وزاد جدول المرضى وطال، وتحرك الريح فزادت سرعة السفينة، وما لبثت أن تراءت لها شواطئ جزيرة (سومطرا) وكان البحارة خمسة فمات منهم ثلاثة. ومات اكثر الركاب أو كانوا في سبيل الموت، وأحدق الأحياء إلى الأرض البعيدة، إلى الأمل النائي، إلى الحياة من بعد أن ذهب رجاؤهم في الحياة. وكان من بينهم نفر ذهب الرعب بصوابهم فزادوا الحال خبالا

وعلم الربان أن السلطات لن تسمح بدخوله المرفأ الذي كان يطلبه على هذا الحال، فنكب عنه، وسار بحذاء الشاطئ يطلب مرسى آخر، وبعد ساعات وصل إلى ميناء صغير لهولاندا. وازدحم الرجال على ظهر السفينة، وفي عيونهم بريق الأمل، وفيها كذلك بريق الدموع.

ولكن كان الربان اضطر إلى ان يستعين على قيادة السفينة بأيد تعوزها الخبرة وينقصها المران، فلم يستقم سيرها، وظهر كانتا لا تعرف إن تميل ولا إلى أين تقصد، أو كأنها تدري ولكن لأمر ما تخشى وتخاف. فأثار ذلك الريبة في موظفي الميناء فخرج إليها ضابط هولاندي في قارب ومعه بعض الجند، فلما بلغ صاح مترجمه الصيني إلى رجال السفينة يسأل ما بها. فصمت الجميع ونطقت الجثث المترامية على ظهرها.

فصرخ الضابط: (إنها الكوليرا. الكوليرا السوداء. لا سماح بالنزول وإلا هلك من في الجزيرة جميعا. يا مترجم. صح بهم أن لا أمل في النزول. وانهم إن أبو نسفت السفينة بمن بها).

فكان بالسفينة هرج، وفيها مرج شديد، واصطفت تلك الوجوه الجوفاء الشاحبة تطل على القارب تبكي وترجو في ذعر ودهش من ان تبلغ القسوة هذا المبلغ من الإنسان. وتحول الضابط بنظره عنها وفي قلبه إحساس قوي اليم بأنه إنما حكم بالموت على هؤلاء التعسين، ولكنها الأوامر لم يكن باستطاعته مخالفتها، وغير ذلك فلم يكن في الميناء محجر صحي ينزل هؤلاء الأشقياء فيه واجتمع الربان بوكيله، واعتزما أن يعبرا البوغاز إلى الشاطئ الآخر يحاولون النزول على شاطئ الملايا كان هذا آخر أملهم فتمسك الرجال به تمسك الغريق بقطعة خشب عائمة، فقام من استطاع منهم بالمعونة لنصل السفينة سريعا إلى منزل الخلاص. وجاء الليل فمرض الوكيل وذهب. وجاء دور حكيم فدافع المرض بقدر ما في جسمه من قوة، ومر بكل أدوار الوباء وآلامه. ونظر إلى صديقه سكيم والداء يملؤه، يرجوا ويسترحم ويطلب تخليصه، ولكن سكيما فر، فحكيم لم يكن في تلك الساعة صديق طفولته وصباه الذي كان يعرف، ولكنه رجل يزفر الموت في أنفاسه وجمع القبطان رجاله، وذكر لهم ان الخير في تجريد السفينة مما عليها من الأشلاء، وفي تنظيفها من مظاهر الوباء، وفي التخفي وفي التستر لكي يسمح لهم بنزول الشواطئ. فبدءوا في رمي الجثث إلى البحر بسواعد تضطرب، وفرائص ترتعد. وجاء دور الجثث التي لم تمت بعد، فنظر إليها الرجال ولم يمدوا إليها يدا، ونظروا إلى الربان يستنبئون، فصاح بهم: لابد من إزالة كل اثر فقذفوا بأجساد لا تزال بها حرارة الحياة. وكان حكيم لم يمت بعد، فاسترحم واستغاث. ومرت رعدة شديدة في ظهر سكيم لما رآه يقذف إلى الماء. ولكنه لم يفعل شيئاً.

دبر الربان ودبر القدر، فحدث ما لم يكن ينتظر. سكنت الريح وكان تيار الماء قويا في هذه المنطقة فحمل السفينة معه، وحمل معها الجثث التي قذفت بها، فسارت حولها في موكب مريع، وازدحم الرجال على السفينة ينظرون إلى الرجال الذين يرقصون في الماء. ونظر سكيم فيما نظر صديقه حكيما يصعد في البحر وفي فمه صياح وفيه إزباد وارغاء، ثم يغطس غطسة فسرتها ست من زعانف سوداء، أكلت (القروش) حتى شبعت، ومع ذلك بقيت على المائدة بقية صحبت السفينة حتى بلغت ميناء (كلانج).

وكان البرق قد طير خبر السفينة إلى (سنغافورة) فخرج رجال الميناء يطلبونها. فأقبلت تتهادى في ثقة من النزول هذه المرة لأنها تخلصت من آثار الوباء أو خالت أنها تخلصت منه، ولكن حال الرجال التي حملت كانت تنم عن كثير، وغير هذا فقد دخلت تجرر في أذيالها على الماء من بقايا الأموات وثائق حية تعلن التهمة للرياح الأربع فأحاط بها الجند من كل ناحية، وساقوها إلى جزيرة العزل، أما الأموات فدفنوهم مع كثير من الجير، وأما البقية القليلة الباقية فمركزوهم في نطاق مضروب، ومرضوهم فمات منهم ثلاثة، وخرج الباقون بعد حين في ذهول كبير، إلى الدنيا بلا خوف، إلى الأرض الجامدة الواسعة الامينة، يستقبلون حياة جديدة وأملاً جديداً. وكان كلما نظر ناظر منهم إلى خلفه اقشعر.

احمد زكي