مجلة الرسالة/العدد 41/مصر في الصباح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 41/مصر في الصباح

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 04 - 1934


للدكتور طه حسين

ولابد من الكتابة عن (مصر في الصباح) بعد أن كتب صديقي الزيات عن الحالة الحاضرة، فهما عنوانان طالما ترددا في أفواه ثلاثة من الشبان، ظلوا أعواما طوالا يلتقون كل يوم إذا كان الضحى، ثم لا يفترقون حتى يتقدم الليل. وكانوا إذا التقوا أخذوا في فنون من الحديث والقراءة وتناشد الشعر، والاختلاف إلى الدرس، وإطالة المقام في دار الكتب. ودفعوا إلى الوان من الهزل، وضروب من العبث، حتى كانوا مضرب المثل عند اللذين يعرفونهم واللذين لا يعرفونهم من الأزهريين.

وكان هؤلاء الشبان الثلاثة قد اتفقوا على الضيق بالدرس الأزهري القديم، والابتهاج بما لم يكن مألوفا في بيئات الأزهر من درس الأدب والعناية به، وقراءة الصحف والإغراق فيها، ومن التطلع إلى ما كان يقوله ويأتيه المثقفون الممتازون، أولئك الذين كانوا يدبجون الفصول في الصحف، يمسون بها السياسة والأخلاق وشؤون الاجتماع. وأولئك الذين كانوا يخطبون في المحافل والمجامع ويتحدثون في الأندية، وتنشر الصحف خطبهم ومحاضراتهم، ويتناقل الناس أحاديثهم ومحاورهم، وتذكر أسمائهم فتمتلئ بها الافواه، وتبتسم لها الشفاه، وتشرق لها الوجوه، ويشتد بها الإعجاب، ويتخذ الشبان أصحابها مثلا عليا لما شئت مما يطمع فيه الشباب من بعد الذكر وارتفاع الشان، والظفر بما يظفر به عظماء الرجال من الإكبار والإجلال. وكان هؤلاء الشبان الثلاثة إذا التقوا وفرغوا من قراءة في كتاب، أو استماع لدرس، أو إنشاد الشعر، أو نظروا أمامهم إلى هؤلاء العظماء المثقفين، فاجلوا واكبروا، ونظروا من حولهم إلى شيوخهم الأزهريين فتفكهوا وتندروا، وأطلقوا ألسنتهم بالفكاهة والنادرة، ولعل من الناس من كان يجلس إليهم ويسمع منهم، ثم ينتقل فيذيع ما سمع، ويملا به هذه الحلقات التي كانت تنحلق من حول الصحن وعند القبلة القديمة أو القبلة الجديدة، وكانت أصداء ذلك ترد عليهم فيفرحون، وكان إنكار ذلك يبلغهم فلا يرتاعون، حتى اقبل ذلك اليوم الذي دار فيه الملاحظون في الازهر، يجمعونهم من دروس الظهر جمعا، ويدفعونهم إلى مجلس الشيخ الأكبر دفعا، ثم يسالون، فمنهم من يجهر ومنهم من يجمجم، ثم ينهرون، فمنهم من يبسم ومنهم من يعبس، ثم يعلن الشيخ إليهم انه مطرودون، وان درسهم الذي كانوا يحبونه موقوف ممنوع، وان شيخهم الذي كانوا يكبرونه مكلف أن يدرس المغنى لابن هشام بدل الكامل للبرد، منفى من الرواق العباسي، مقرون إلى اسطوانة من هذه الأساطين داخل المسجد يختارها له (رضوان).

هنالك ضاق الشبان الثلاثة بعض الضيق، وفرقوا بعض التفريق، ثم يلبثوا أن استأنفوا الحياة ومضوا فيها باسمين، يطمحون إلى ما كانوا يطمحون إليه، يسخرون مما كانوا يسخرون منه، حتى ضرب الدهر بينهم بضرباته، كما قال حافظ رحمه الله في ترجمة البؤساء، وقد كانوا يعجبون بهذه الجملة إعجاباً شديداً، ويرددونها ترديدا متصلا. وهنالك مضى كل منهم في سبيله، واخذوا لا يلتقون إلا من حين إلى حين، فإذا التقوا كانت ساعات اللقاء أضيق من أن تسع ما كان يضطرب في نفوسهم من الخواطر والآراء والأحاديث.

وكانوا في حياتهم تلك، كما كانت الشعوب الأولى في حياتها، أصحاب حس وشعور، وأصحاب قلوب تتأثر، ونفوس تتغنى، وكانت عقولهم غافلة أو كالغافلة، فكانوا ينشئون الشعر وينشدونه، وقلما يفكرون في النثر، فان فكروا فيه قلما يحاولونه، فإن حاولوه فقلما يجيدون. وكانوا لا يخطر لهم موضوع إلا تناولوه مسرعين، فنظموا فيه الشعر وتنافسوا في الاجادة، ولم يتحرجوا من أن ينقد بعضهم بعضا. وكانوا يبلغون من ذلك ما يريدون يجيدون قليلا، ويسيئون كثيرا، ويرضون دائما. وكانوا يحسون انهم ضعاف في النثر، وانهم في حاجة إلى أن يأخذوا منه بحظ، وكان الزيات يحاول أن يقوم من صاحبيه مقام الأستاذ، لانه كان احب منهما للصحف، واكثر منهما عكوفا عليها وإغراقا في قراءتها، ويجب أن نعترف بالحق، فقد كان أوسع منهما صدرا للتجديد، يحب الكتاب المحدثين وما كانوا يحدثون من الآداب، على حين كان صاحباه يكلفان من الأدب بقديمه، بل بأقدمه. كان الزيات يكلف بالمتنبي بين الشعراء القدماء، وكان صاحباه يسخران منه ومن المتنبي، ويكرهان أن يسمعا له حين ينشد شعره البديع. كان الزيات يقرأ المثل السائر، وكان صاحباه لا يعترفان بمن بعد الجاحظ من الكتاب. كان الزيات يؤثر شوقي، وكان صاحباه يؤثران حافظا، ويتعصبان للبارودي، ويسرفان في تقديم الكاظمي عليهم جميعا. كان الزيات إذن يقيم نفسه من صاحبيه مقام الأستاذ في النثر، وكانا لا يتحرجان من أن يقرا له بهذه الأستاذية، فإذا أراد أن يزعمها لنفسه في الشعر كان الجدال والنضال، وكان تذاكر الغرزمة وآثار الغرزمة، وكان انتحال الشعر الرديء وحمله عليه وأضافته إليه، وكان انحاله هو للشعر الرديء وحمله على صاحبيه وإضافته إليهما، وكان إنشاد لمثل هذين البيتين:

بموسم عاشوراء قد عمت البشرى ... وضاءت لنا الأكوان مذ علت الذكرى

ونادى المنادي أيها الناس يمموا ... ضريح الحسين الشهم تنجوا من الأخرى

ولست ادري أي الثلاثة قال هذا الشعر الرائع، أو لعله شائع بينهم جميعاً. ولعل ثالثهم محموداً أن يكون قد حفظ هذا الشعر فيما حفظ من آثار هذا العصر، فقد كان إليه تخليد هذه الآثار التي لم تكن تستحق اقل من الخلود.

وفي ذات يوم اقبل الزيات يقترح على صاحبيه التفكير فيما ينبغي لهم في العناية من النثر، ويبين لهما ولنفسه أسباب هذه العناية ومذاهبها، ويرى أن ليس إلى ذلك من سبيل إلا أن يفعل الثلاثة كما يفعل الطلاب في المدارس، حين يعالجون الإنشاء، ويعرض عليهما وعلى نفسه هذين الموضوعين: (الحالة الحاضرة)، و (مصر في الصباح). وكان يقول ذلك جاداً كل الجد، مؤمنا كل الإيمان، وكان صاحباه يسمعان له في موقف بين الجد والهزل، يريدان أن يكتبا ويعلمان انهما لن يستطيعا. فيقدمان ثم يضطران إلى الإحجام، ويستران ضعفهما بالهزل والعبث، ثم يفزعان إلى الشعر فينظمان منه ما شاء الله لهما أن ينظما بين الجيد والسخيف. وكانت الأيام تمضي وتمضي، والأصدقاء يلتقون ويتحدثون في النثر، والزيات يقترح الكتابة في الحالة الحاضرة ومصر في الصباح. وصاحباه يسألانه عن مصر في الصباح كيف

هي؟ وماذا يقول فيها فلا يحير جواباً، فيتمثل ثالثنا بهذا البيت الذي كان يغيض الزيات ويحفظه:

شيخ لنا من ريبعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس

وقد فتح الله على الزيات بعد خمسة وعشرين عاما فكتب في الحالة الحاضرة. ولم يفتح الله عليه ولا على صاحبيه بعد خمسة وعشرين عاماً ليكتبوا عن مصر في الصباح. ولكنه قد كتب على كل حال، فمازال إذن قائما من صاحبيه مقام الأستاذ، ولن يستطيع صاحباه منذ يوم الاثنين الماضي أن يصدماه بهذا البيت:

شيخ لنا من ريبعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس وإني لأخشى أن يستطيل هو على صاحبيه، وقد عجزا ربع قرن عن أن يكتبا في الحالة الحاضرة، أو يصورا مصر في الصباح، فيصدمهما بهذا البيت بعد أن كان يخافه ويضيق به، ويكره استماعه منهما.

ولست ادري أأشفق ثالثنا من هذا النذير فاستعد لهذه الساعة الخطرة التي يلتقي فيها الأصحاب لتصفية الحساب، أم شغل بكتبه وأسفاره عن كل هذا الحديث. أما أنا فاعترف باني فكرت بهذه الساعة، وقدرت إنها ستكون عصيبة محرجة، وأشفقت من هذا الحرج، وحاولت أن احتاط له، واستعد لهجمة الزيات، واربا بنفسي عن أن اسمع منه هذا البيت الذي كنا نخوفه به، فاصبح خليقاً أن يخوفنا به:

شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس

فحاولت منذ أسبوع أن اطرق هذا الموضوع، وان اكتب عن مصر في الصباح، فإذا بلغت من ذلك ما أريد أمنت الزيات وحالفته على صديقنا الثالث، كما كنت أحالف صديقنا الثالث عليه، ثم ذهبنا إلى صاحبنا نسعى إليه مبتسمين، حتى إذا بلغنا مجلسه لم نبدأه بتحية ولا مصافحة ولا حديث، وإنما وضعنا الرسالة بين يديه وفيها الحالة الحاضرة

للزيات، وفيها مصر في الصباح لطه حسين. ثم ابدرناه معاً بهذا البيت:

شيخ لنا من ريبعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس

ثم انصرفنا عنه راجعين وتركناه يغلي كالمرجل. ولكن الله الذي فتح على الزيات فألهمه وصف الحالة الحاضرة لم يفتح علي ولم يلهمني وصف مصر في الصباح. ذلك إن الزيات راغ وزاغ وعدل عما كان يراد منه من وصف تلك الحالة الحاضرة قبل نيف وعشرين سنة إلى وصف هذه الحالة الحاضرة التي نبغضها اشد البغض ونضيق بها اعظم الضيق. وأي الكتاب لا يقدر على أن يصف الحالة الحاضرة الآن؟ وأي الكتاب لا يقدر على أن يجيد في هذا الوصف ويأتي فيه بالأعاجيب؟ ومن يدري؟ لعلي احسن إذا ذهبت إلى صديقنا الثالث فالتقيت في روعة أن الزيات قد ذكر اسمه القديم فراغ وزاغ، ووصف ما لم يكن يراد على وصفه.

وإذن فهو مازال عاجزا كصاحبيه، وإذن فما زلنا ننتظر من يصف الحالة الحاضرة ويصور مصر في الصباح.

أما أنا فلم اشك في أن مصر في الصباح موضوع خطير لابد من الكتابة فيه، ولكن أي مصر، أهي مصري أنا أم مصر الزيات أم مصر صديقنا محمود؟ فقد كانت لنا أمصار ثلاث مختلفة فيما بينها اختلاف غير قليل. كانت مصري أنا تبتدئ في ربع من ربوع حوش عطى، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بمشهد الحسين والحلوجي بعد أن يقطع السالك إلى هذا المشهد الكريم إحدى طريقين: حارة الوطاويط، أو شارع خان جعفر.

وأما مصر محمود فكانت تبتدئ في الظاهر في حارة ضيقة قريبة من بيت الشيخ الانبابي رحمه الله، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بما شئت من الطرق التي تستقيم إن أردت لها أن تستقيم، وتلتوي إن أحببت لها الالتواء.

وأما مصر الزيات فكانت تبتدئ في حارة ضيقة على قلعة الكبش، ثم تنحدر إلى شارع لا اذكر اسمه، ولكنه ينتهي إلى مسجد السيدة زينب. ثم تصل بعد ذلك إلى الأزهر من طرق تستطيع أن تستقيم وتستطيع أن تلتوي، تستطيع أن تقصر وتستطيع أن تطول. فأي هذه الأمصار الثلاث اصف؟ وعن أي الأمصار الثلاث اتحدث؟ فاما مصري أنا فقد كانت حلوة لذيذة في الصباح، ولكنها لم تكن تعجب الزيات، ولم تكن تلذ لمحمود. كان يوقضني فيها مع الفجر صوتان: أحدهما صوت المؤذن الذي كان يدعو إلى الصلاة في جامع بيبرس، والآخر صوت جارنا الشيخ الذي كان شافعيا موسوسا، ينفق نصف ساعة في إقامة الصلاة: ال. . . ال. . . الله الله. . ال. . الله اكبر، ثم يبدو له فيخرج من الصلاة أو يستأنف الدخول فيها: أل. . أل. . الله. . الله. . أل. . . الله اكبر ثم يمضي في صلاته حتى يتم الفاتحة أو يكاد وإذا هو يخرج ويستأنف الدخول فيها. وما يزال يقبل ويدبر، ثم يبدأ ويعيد، ثم يقيم الصلاة ويستأنف أقامتها حتى إذا أشفق من فوات الوقت عزم امره، وهجم على صلاته فاقتحمها اقتحاما ثم مضى إلى درسه في الأزهر الشريف.

استغفر الله فقد نسيت صوتا ثالثا كان يوقظني في السحر لا في الفجر صوت ذلك الشيخ الظريف الذي لم يكن عالما ولا شيء يشبه العالم، وإنما كان تاجرا اعرض عن التجارة، وانقطع للفكاهة والضحك في النهار، وللصلاة والنسك في لليل. فإذا اقبل السحر خرج من غرفته يهمهم ويجمجم ويضرب الأرض بعكاز غليظ، ويبعث في الجو صوتا هائلا رائعا يحمل جملاً متقطعة من الورد الذي كان يبدأه في غرفته ليتمه، ثم يستأنفه في مسجد الحسين، حتى إذا صلى الصبح عاد هادئا مطمئنا قد خف وقع عكازه على الأرض، وخف ارتفاع صوته في الجو، لان الذين كانوا نياما في السحر قد اصبحوا إيقاضاً حين ارتفعت الشمس.

استغفر الله، وقد نسيت أصواتاً أخرى، كانت تنبعث بعد أن ينقطع صوت المؤذن: فهذا سائق عربة قد اقبل يحل خيله أو يحل حماره الذي عقله تحت النافذة. وهذه (حمدة) التي كانت تبيع الوان الفاكهة على اختلافها باختلاف الفصول تفرضها علينا نحن المجاورين فرضا. فأما اشترينا وأما تعرضنا لغضبها، وويل لمن كان يتعرض لغضب (حمدة) فقد كان عنيفا مخيفا يضطرب له الربع ويزلزل له حوش عطى زلزالاً!!

على هذه الأصوات كنت استقبل مصرا، وكانت تستقبلني مصر في الصباح، فإذا هبطت من الربع ومضيت إلى مدخل حوش عطى، فهذا صاحب القهوة قد افاق، وهو يحك عينه من بقية النعاس، ويهيئ (الجوزة) للحاج فيروز، فإذا مضيت قليلا فهذه الحوانيت تستيقظ شيئا فشيئا، وهؤلاء باعة الفول والبليلة والطعمية قد ازدحم من حولهم الناس، حتى إذا تقدمت بعض، الشيء عطفت ذات الشمال ان كنت مستعجلا، فمضيت من حارة الوطاويط، حيث اقذر مكان خلقه الله، وحيث اعظم الناس حظا من البؤس رجالا ونساءً، قد جلسوا في اقبح شكل وأبشعه يسألون الناس. وان كنت مستانياً عطفت ذات اليمين، فمضيت من خان جعفر، وانتهيت على كل حال إلى شارع الحسين، ثم المفارق الأربعة ثم انغمست في شارع الحلوجي، ثم دفعت إلى باب المزينين. هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح واقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازور عني ازورارا. ولكني واثق الآن باني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلاماً يرضاها وابلغ من استحسانه ما اقصر عنه من غير شك لو أني صورت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند الكوكب في عابدين.

ان الزيات ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ من قلعة الكبش، وتنتهي إلى الازهر، وانما محمودا ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ في ظاهر القاهرة المعزية، كما كان يقول، وتنتهي إلى الأزهر، فأما مصرهما الأخرى هذه التي تبتدئ في شبرا وتنتهي عند الرسالة، أو عند قبة الغوري، فلسنا في حاجة إليها الان، وقد يحتاج إليها أبنائنا بعد ربع قرن، كما نحتاج نحن إلى أمصارنا تلك العزيزة في أيامنا هذه.

طه حسين