مجلة الرسالة/العدد 41/في المزرعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 41/في المزرعة

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 04 - 1934



بقلم إيفان بونين

كان ذلك الوهج الوردي الفاتر المنبعث من الغروب الداوي يغادر السماء متلكئا متباطئا. وتوارى الضوء شيئا فشيئا بين جحافل الظلام التي أخذت تخيم فوق مزارع الغلال الفسيحة المترامية. ثم أمعنت تلك الجحافل في الزحف حثيثا على القرية. . بعد أن أرسلت بعض النوافذ الصغيرة في جدر الأكواخ وميضا نحاسيا خالبا يستبي اللب. كان المساء هادئا ساكنا. قد حشدت قبل قليل قطعان الماشية في حضائرها، واحكمت دونها الرتج والإغلاق. وآب أهل القرية من عملهم المضني فتناول كل عشاءه على الحصباء قبالة أكواخهم ثم غرقوا في صمت ساهم عميق. لا صوت لغناء ولا صرخة لطفل

كل شيء كان يحلم حلمه المسائي. وكان الكابتن ايفانيش وقد جلس إلى نافذته المفتوحة يحلم أيضاً.

كانت (عزبته) فوق رابية آجام واطئة من الاقاقيا والليلاك تحتها انجم كثيفة ملتفة مشتبكة من القراص والحماض تنحدر إلى اسفل في اتجاه الوادي. ومن النوافذ تستطيع العين ان تقطع مسافات شاسعة فوق تلك الأيك والإحراج البالغة مكانا قصيا.

كانت الحقول ساكتة صامتة تحت ذلك الغسق الشاحب، قد انقطعت فيها الحركة. والهواء جافا دافئا عليلا. والنجوم في السماء ترتجف بإستيحاء وفي غموض مبهم كأنما تخفي في باطنها أسراراً لا تدرك وأحاجي لا تحل.

ليس هناك تحت النافذة إلا بضع جنادب دائبة في صريرها المتشابه من غير كلل ولا ملل، وهي في مكامنها تحت عساليج القراص وإلا صيحات السماني المتزنة الآتية من السهل النائي البعيد.

كان الكابتن ايفانيش وحده، كدأبه دائما. لقد كتب له أن يعيش وحيدا يقاسي آلام الوحدة ما بقي حياً.

كان أبواه لا يملكان شيئا، يعيشان في بيت الأمير (نوكايسكي) ماتا إبان طفولتهولما يبلغ من العمر سنة واحدة. قضي أيام طفولته وفتوته في بيت عمة له مخبولة وفي مدرسة أبناء الجنود. كان في شبابه ينظم الأغاني ناسجا فيها نسج ديلفك وكولتسوف. نظم في قصائده الغرامية الكثير عن (هي) المعهودة.

وما كانت (هي) المعهودة إلا (آنا) ابنة موظف في مكتب (تسجيل العقود) في القرية، لكنها ما كانت تحبه كما يحبها. كان اهل القرية يقولون عنه انه يشبه (السيد) ولكن ليس فيه شيء يسترعى النظر.

هو نحيف طويل بعض الشيء. قد صار يوما بتأثير الأمير ملازما في الجيش ثم ورث عن عمته نقودا واستقال من وظيفته أما (هي) فقد ذهبت لتقيم في بيت صديق لها وتزوجت واقفل هو مكتبه على قصائده الغرامية حيث ظلت وستظل إلى يوم موته.

أنشأ يشتغل بالزراعة وحاول العمل في مكتب الحكومة في القرية ولكن لم يسعفه الجد.

ومرت الأيام وانقضت الشهور وتعاقبت السنون، واصبح فلاحا حقيقيا: سترة طويلة تصل إلى ركبتيه وشاربان طويلان أسودان، على انه ما كان يعلم إن وجهه المنضمر المغضن بعض الشيء وما كان يعلوه من إمارات الحنو كان جميلا جذابا.

انه اليوم حزين مكلوم. وجاءت إليه في الصباح خادمة (اكرافية) التقية الورعة وذكرت له بين ما حدثته به (أتذكر السيدة (آنا) يا سيدي؟

- فأجابها الكابتن ايفانيش. نعم

فقالت له ماتت ودفنت في خلال أيام الصوم.

وبعد هذا لبث الكابتن ايفانيش طول يومه مرتسمة على شفتيه ابتسامة مضطربة غامضة. وفي المساء، وما أهدأ ذلك المساء وما اشده سكونا، وما أعمقه كآبة - لم يتناول عشائه ولم يذهب إلى فراشه مبكرا كعادته. بل تناول في يده لفافة غليظة من تبغ اسود قوي وظل جالسا إلى نافذته واضعا ساقيه الواحدة على الأخرى.

أراد أن يخرج من البيت ويذهب إلى مكان ناء، ولكنه سال نفسه: إلى أين؟!. أيذهب لصيد السمان؟ ولكن لم يبقى وقت لذلك، ثم ليس هناك من يرافقه. أيذهب؟ أم لا. . . لم يرق له صيد السمان. تنهد وخبط بيده ذقنه غير الحليق.

ثم قال في نفسه (ان حياة الإنسان لقصيرة ضنينة).

أترى الحقبة طويلة من يوم كان فتى في ميعة الشباب حتى الآن مدرسة أبناء الجنود - حسنا إنها ولت. . . إلى حيث لا رجعة. . . قر وسغب ولغب - أسفار إلى عمته، ما أغربها من عمة. ما اشد شذوذها وغرابة أطوارها. هو يتذكرها جيدا، حتى لكأنها الآن ماثلة أمام عينيه - عجوز بكر هيفاء نحيلة. لها شعر اشعث، اسود فاحم، وعينان دعجاوان شاردتان ذاهلتان. كان يقول عنها أهل القرية إنها قد أصابها الخبل من حادث غرامي لم توفق فيه. . . هو يتذكر كيف كانت تحفظ جيدا بعض أساطير فرنسية جريا على عادة كانت في ذلك الحين متبعة في مدرسة ليلية من طراز قديم، وكيف كانت تكررها مرة بعد أخرى. ويذكر أيضا كيف كانت تضرب على البيان لحن (بولوني أو كينيكسي). لقد كانت تلك الأغنية تبدو مخيفة غريبة، لأن السيدة العجوز كانت تغنيها من غير عاطفة ولا شعور

أوه - تلك الأغنية (بولوني أو كينيسكي). . . (هي) المعهودة أيضاً كانت تحسن غنائها وعزفها على البيان.

والآن أخذت النجوم في السماء تبعث بصيصا ضئيلا من نور خافت وتتلألأ تلألؤاً سحرياً لا تدركه الأفهام.

وطفقت الجنادب تسبح بصريرتها تسبيحتها الواهنة الوانية، لا تلبث تفتر حتى تهتاج من جديد في هدوء المساء وسكون الطبيعة. . . هناك بيان عتيق. هناك في تلك الغرفة الداخلية. النوافذ مفتوحة لولا أن (هي) المعهودة تدخل الآن في الغرفة، خفيفة الظل كالطيف وتعزف عليها، تمس مفاتيحها العتيقة المغبرة. . . ومن ثم يذهبان معا إلى هناك. . . إلى هناك باستقامة واحدة. . . يمران من تلك الطريق الضيقة بين الجويدار الكثيف. إلى اين. . . إلى بعيد، حيث الضوء ينبعث في الأفق الغربي.

كبح الكابتن ايفانيش جماح أفكاره وابتسم قائلا بصوت مرتفع (لقد ذهب الخيال معي إلى بعيد. . .)

كانت الجنادب تصدح بإنشودتها في نسيم المساء الهادئ البليل ومن البستان يعبق شذا الأرقطيون المحمل بالطل. وأريج زهرة الفجر ورائحة القراص المخضل المنعشة، فتختلط كل هذه الأرواح العطرة في الفضاء وتتجه شطر الأنوف كأنما تنتوي نية أو تبغي بغية. . . هذه العطور الزكية ذكرته بمساء كان قد رجع فيه من المدينة في ساعة متأخرة؛ وكيف ظل يفكر (عنها) يخدع نفسه ويمنيها بآمال السعادة والهناء. . .

ما كنت ترى في القرية نافذة تشع، ساعة ساق عربته إلى أعالي الرابية. كل شيء تحت تلك القبة السماوية الصاحية السلسبيل الزاخرة بالكواكب كان غارقا في سبات عميق. . . ليالي إبريل مظلمة دافئة من البستان كانت تفوح رائحة الكرز المزهر. والضفادع تنق وسنانة في البرك - فتبعث بموسيقى ضعيفة هزيلة من النوع الذي يسمع عادة في آخر هزيع من ليالي الربيع عندما يدنو الصباح. ظل زمناً طويلاً قبل أن يعقد أجفانه الكرى، استلقى في نومة عميقة فوق الحلفاء في الكوخ بالبستان. قد لبث ساعات يمشي الهوينى على سراب جار تحول من بعد إلى سحابة بيضاء شفافة متألقة من الأحلام البعيدة النائية. ولكن هناك جاءت من بركة ليست في الحسبان بعد حين صيحة مالك الحزين - كأنها لغز أو سحر، والظلام الحالك - الظلام الذي ضرببجرانه فيطرقات البستان الضيقة هو أيضاً بدا كاللغز أو السحر. وبعد ذلك، قبيل الفجر فتح عينيه واستنشق ملأ رئتيه نسمات البستان الندية الباردة المحملة بالعطر. ومن خلال الكوة المفتوحة قليلاً أطلت عليه نجوم الصباح اللامعة مضطربة قلقة. استفاق الكابتن إيفانيش من هواجسه واستوى قائماً. وراح يطوي أرجاء الدار ترجع الجدر أصداء خطواته، وينحني بلاط الغرفة هنا وهناك تحت قدميه مرسلاً صوتاً متزناً كأنما هو يئن تحت وطئهما أنين الألم.

(ثمانون عاماً عمر هذه الدار) قال في نفسه (لأستدعين الفعلة في الخريف سيكون البرد فيها في الشتاء المقبل قارساً لا يطاق). وفيما كان يتمشى جيئة وذهاباً كان يشعر إنه أضحى الآن أعجف سمجاً - هو طويل نحيل منحني بعض الشيء. ظل كذلك يجيء ويغدو ثم رفع حاجبيه وهز رأسه وغنى الغناء (البولوني). أحس إنه يرقب خطواته الخاصة - ينظر إلى نفسه - فقدم نفسه إلى نفسه على إنها رجل آخر يهيم في أرجاء الدار - رجل حزين قد أمضه الحزن وأرمضتقلبه الكلوم. حمل كنانته وخرج من الدار.

كان الضوء خارج الدار أكثر من داخلها، ولا يزال ضوء الغروب الشاحب الذي توارى خلف القرية يرسل على مزارعها بصيصاً ضئيلاً باهتاً. وبخطوات ثقيلة مرتبكة جاز رقعة من الأرض مفروشة بفراش من القراص انتهى منها إلى رابية وقف عندها. وبعد أن أشعل غليونه وقف على صخرة هناك ثم قال في نفسه (أراني جالساً كالبوم على سفح الجبل) وسيقول الفلاحون عني هناك. . . إن الشيخ لا عمل له. . . نعم لقد أمسيت عجوزاً (ألم تبت (أنا). . . حتى لكأنها لم تكن) أين ذهب كل ذلك. . . كل ذلك الماضي

كم ظل محدقاً ببصره في الحقول النائية كم ظل مصيخاً بسمعه إلى هجعة الطبيعة وسكنة المساء. . .

قال بصوت مرتفع (كيف يمكن ذلك؟!) كل شيء سيبقى على حاله. الشمس تشرق. الفلاحون يخرجون إلى الحقول حاملين على أكتافهم محاريثهم عاليها سافلها، وسوف لا أرى من ذلك شيئاً - وليس هذا فحسب، بل ولن أكون في هذا المكان أبداً ولو مرت ألوف السنين، لن أعود إلى الدنيا مرة أخرى، لن أجلس جلستي هذه على هذه الرابية. .

لبث زمناً طويلا جالساً جلسته تلك، مطرقاً يسحب شاربيه الأشيبين ويعبث بشعراتهما.

ترى كم من السنين كان الرجل الذي أمامه الآنشيئا خطيراً - بارزاً. . . لقد كان ذات مرة صبياً صغيرا - وكان شاباً يافعاً - ثم هو في يوم قائظ لافح من أيام الصيف قصد بعربته الصغيرة إلى الانتخابات. . . ماراً من طريق عريض رحب

ما اعرض ذلك الطريق!. . .

ابتسم الكابتن ايفانيش إلى نفسه من أفكاره التي تتواثب من شيء إلى آخر.

لكن ذلك كله كان منذ زمن بعيد. . . ممعن في البعد. . . كذلك.

أواه! ماذا يرى الآن أمامه يا لهول ما يرى! قد بلغ زمنا هو كما يقول الناس يصل فيه كل شيء نهايته، سبعون، ثمانون عاماً لا يقدر الإنسان أن يعمر أكثر من هذا - ما هي الحياة البشرية - طويلة كانت أم قصيرة

قال في نفسه: (إن حياتي طويلة على كل حال)

هناك في ظلمة السماء أضاءت نجمة وخرت إلى الأرض. رفع عينيه الحزينتين الكليلتين، وظل يحدق في السماء. وفيما هو يرسل بنظراته في أعماق تلك اللانهاية المظلمة الهادئة الزاخرة بالكواكب، تنهد الصعداء وشعر بالحزن يذهب عن نفسه، لقد عاش هادئاً مطمئناً وسيموت هادئاً مطمئناً. كالورقة في تلك الأيكة تجف وتسقط متى يحين أوانها، إيه، لكل أجل كتاب.

لا تكاد الحقول المترامية ترى في ظلمة الليل الحالكة. اشتدت الظلمة وزاد لآلاء النجوم. وبين الفينة والفينة تسمع صيحات السماني، وأخذت تنبعث من العشب الندي رائحة منعشة، استنشق الهواء بخفة، وبسهولة ملأ رئتيه، ما أشد اتصاله بهذه الطبيعة الهادئة الساكنة!

بغداد

ترجمة

ع. الحمدي