مجلة الرسالة/العدد 408/صورة وصفية دمشقية من القرن الماضي
مجلة الرسالة/العدد 408/صورة وصفية دمشقية من القرن الماضي
العجوزان!
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . أغلق الشيخ الباب فتنفس أهل الدار الصعداء، وأفاقوا إفاقة من يودع الحلم المرعب، أو الكابوس الثقيل، ثم انفجروا يصيحون، يفرغون ما اجتمع في حلوقهم من الكلمات التي حبسها وجود الشيخ فلم ينسبوا بها. وانطلقوا في أرجاء الدار الواسعة - والأولاد (صغار أولاد الشيخ وأحفاده) يتراكضون ويتراشقون بما تقع عليه أيديهم من أثاث الدار، ويتراشون بالماء، أو يدفع بعضهم بعضا في البركة الكبيرة التي تتوسط صحن الدار، فيغوص الولد في أمواهها، فتعدو إليه أمه أو من تكون على مقربة منه فتخرجه بين قهقهة الصغار وهتافهم وتقبل عليه لتنضو عنه ثيابه وتجفف خشية المرض جسده، فإذا هو يتفلت من بين يديها، ثم يركض وراء أخوته وأبناء عمه ليأخذ منهم الثأر، والماء ينقط من ثيابه على أرض الدار المفروشة بالرخام الأبيض والمرمر الصافي، التي أنفقت الأسرة ساعات الصباح كلها في غسل رخامها ومسحه بالإسفنج، حتى أضحى كالمرايا المجلوة أو هو أسنى. . . وعلى السجاد الثمين الذي يفرش القاعات الكثيرة والمخادع، وهم يتنقلون من غرفة إلى غرفة، ومن درج إلى درج، ويفسدون ما يمرون به من الأغراس التي لم تكن تخلو من مثلها دار في دمشق، من البرتقال والليمون والكباد والفراسكين والنارنج والأترج (الطرنج) وقباب الشمشير (زينة الدور) والياسمين والورد والفل؛ تتوسط ذلك كله الكرمة (الدالية) التي تتمدد على (سقالة) تظلل البركة تحمل العنب (البلدي) الذي يشبه في بياضه وصفائه اللؤلؤ، لولا أن الحبة الواحدة منه تزن أربع حبات مما يسمى في مصر والعراق عنباً. . . والجدة تعدو وراءهم ما وسعها العدو تصرخ فيهم صراخا يكاد من الألم يقطر منه الدم:
(ولك يا ولد أنت وياه. . . يقصف عمري منكم. . . وسختم البيت. . . يا ضيعة التعب والهلاك. . . الله يعجل علي بالموت حتى اخلص منكم!)
فيختلط صراخها بصياح الأولاد، وضحك الضاحكين منهم وبكاء الباكين، وهم يتضاربون، ويسقطون ما يعثرون به من الأواني والكئوس. . . لا يصغي لنداء الجدة أحد منهم. . .
ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر، فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم، وتتخافت أصواتهم ويحسون بدنو ساعة الخطر، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ، أو أن يصلح ما أفسد منها، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته، ويتذكرون ما هشموا من آثار المنزل حين عاثوا فيه مخربين، فيجمع كل واحد منهم ما يقدر عليه من حطام الأواني فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ، ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل. وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة، لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها، لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها من أربعين سنة. . . في ذلك اليوم المشؤوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه، وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا، فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية) عشر دقائق كاملات. . .
وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل، وخف (صرماية) للمسجد، و (بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار، و (قبقاب) للوضوء، وقد تخالف الشمس مجراها فتطلع من حيث تغيب، ولا يخالف الشيخ في عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق، أو يتوضأ بباجوج الدرج. . .
وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله، وتهيئ (البقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة، من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة، وهي لا تزال تذكر إلى الآن. كيف وضح لها أسلوبه في الحياة وبين لها ما يحب وما يكره، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب، كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه إذا هي أتت شيئا مما نهاها عنه، فأطاعت ولبثت هذا العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة لم تخالف إلا في ذلك اليوم المشؤوم وقد لقيت فيه جزاءها، ونظرت العجوز الساعة فإذا هي في منتصف الثامنة. لقد بقي نصف ساعة. . . ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال، كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعدادا للمعركة، فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام، وبعثت بالأخرى لتمسح أرض الدار التي وسخها الأولاد، وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافاً. . . ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه؛ ولكل شيء في هذه الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه، سنة سنها الشيخ لا تنال منها الغير ولا تبدلها الأيام، فهو يحب أن يوضع يده على الشيء في ظلمة أو نور، في ليل أو نهار، فيلقاها في مكانه. ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم، نظرت في الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق. . . فاستعدت وغسلت يديها ووجهها ولبست ثوبا نظيفا كعهدها ليالي عرسها لم تبدله، واستعد أهل الدار بكبارهم وصغارهم. فلما استوى عقرب الساعة الثامنة أرهفوا أسماعهم فإذا المفتاح يدور في الباب. أنه الموعد ولم يتأخر الشيخ عن موعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودة عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه من سبيل. فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها، وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر، وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها
غاضت الأصوات، وهدأت الحركة، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق، فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحازم المتزن، وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع، وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف. . . وكانت غرفة الشيخ التي يؤثرها على يمين الإيوان العظيم ذي القوس العالي والسقف المنقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق، والذي يتوجه أبداً إلى القبلة ليكون لأهل الدار مصيفاً يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف، ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق، يشرفون من على الصحن المرمي وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير. . . وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع كسائر الغرف الدور الشامية، تغطيها (تخشيبة) مد عليها السجاد وفرشت في جوانبها (الطراريح): الوسائد والمساند، وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن (التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة، وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار، وقد صف إلى جانبه علبة وأدواته، وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد كما حرموا الدخان بلا دليل. . . والى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير والكتابان اللذان لا ينتهي من قراءتهما: الكشكول والمخلاة، وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق، فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر، وكل شيء في كيسه الذي خصصه به، وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها. وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين أشبه الأشياء بصندوق الحديد، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب، فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه. ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علباً صغاراً في كل علبة نوع من أنواع النقد: من النحاسات وأنصاف المتاليك والمتاليك وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها والليرات العثمانية والإنكليزية ووالفرنسية، كل نوع منها في علبة من هذه العلب، فإذا أصبح أخذ منها مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية) الشهر، ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه، فضم كل جنس إلى جنسه. وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان)، الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا (وقلما كان يفعل) يستضيء به في طرق دمشق التي لم يكن فيها أنوار إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم، واكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان نهارا ويطفأ ليلاً. . . وفيها الكأس التي تطوى. . . والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار. . . وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة، فأهدى إلى أصحابه قسما منها وأودع الباقي خزانته. . . وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها لأنه حشوها (شكولاته). . . وكانت هذه هي عجائب الدار السبع!
وأمام الشيخ (الرحلاية) وفوقها (السكمجاية)، وهي صندوق صغير فيه أدراج دقيقة ومخابئ وشقوق للأوراق، وبيوت للأقلام في صنعة لطيفة، وهيئة غريبة، كانت شائعة يومئذ في دمشق، موجودة في أكثر البيوت المحترمة. . . . . .
والويل لمن يمس شيئاً من أدوات الشيخ أو يجلس في مكانه. ولقد جنى الجناية أحد الأطفال مرة فعبث بعلبة النشوق فأسرعت أمه فزعة وأخذتها منه وأبعدته وأعادتها إلى مكانها، فانزاحت لشؤم الطالع عن موضعها مقدار أنملة وعرف ذلك الشيخ - فكأنها أهل المنزل اسود - وحرموا بعده الدنو من هذا الحمى!
كان الشيخ في الثمانين ولكنه كان متين البناء شديد الأسر، أحاط شبابه بالعفاف والتقى، فأحط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة، وكان فارع الطول عريض الأكتاف، لم يشك في حياته ضعفاً، ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة. ولم يجد عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ أدرك. فهو يفيق سحراً والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخاشعة - والخشوع الفاتن - والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يمجد الله في السحر، يتحدر من أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها، يمازجه خرير الماء المتصل يصعد من نافورة الدار يمجد (هو الآخر) ربه ويسبح بحمده، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)، فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان، ثم ينطلق لسانه ب (لا اله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين، ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طول حياته، لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل. وكثيراً ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده ويغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي، ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوماً واحداً، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة، ويرجع إلى داره فيجد الفطور معداً والأسرة منتظرة، فيأكل معهم اللين الحليب والشاي والجبن أو الزبدة ولزيتون والمكدوس، ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحها ورتبها
والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي، وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصفت أثواب البز أما الجدران، ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء بسمعه وبصره، ويدفعون إليه الثمن، فإذا ركد السوق قليلا تلا الشيخ ما تيسر من القرآن أو قرأ في (دلائل الخيرات) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة، أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها، وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة من أهل الحل والعقد، وكان هؤلاء هم الحكومة (كلها. . .) وكان الشيخ مهيباً في السوق كهيبته في المنزل، تتحاشى النسوة المستهترات الوقوف عليه، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه لترى البضاعة، كما تكشف كل مستهترة، صاح بها فأرعبها وأمرها أن تستتر وإن تلزم أبداً حدود الدين والشرف، وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهاناً، أيهم يقرع عليه بابه، ويجعلوا الرهان ريالا مجيدياً أبيض، فلا يفوز به أحد منهم.
وكان الشيخ قائماً بحق أهله لا يرد لهم طلبا، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها، ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم، ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا. وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج من الدار ليشتري شيئا؟ وما لهم ولها كل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين أيديهم، وما اشتهوا منه يأتيهم؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها، إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها، ثم أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؟
يلبث الشيخ في دكانه مشرفاً على البيع والشراء حتى يقول الظهر: (الله أكبر)، فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح، لأن الوضوء سلاح المؤمن، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى، ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل عندما تكون الساعة في الثامنة. أما في العصر فيصليه في مسجد الحي، ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دق وجل من شؤونه. . . أختلف أبو عبده مع شريكه فيجب أن تؤلف جمعية لحل الخلاف. . . والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له. . . وعطا أفندي سلط ميزابه على الطريق وأذى السابلة فلينصح وليجير على رفع الأذى عن الناس. . .!
أي أن هذه الجماعة محكمة، ومجلس بلدي، وجمعية خيرية إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريبا عن الحي يحوم حول أحد المنازل سأل عنه من هو؟ وماذا يريد؟ وإذا رأى رجلا يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا اخته، ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأته في طريق فتعرف به حيثما سارت، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد، وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها على نساء جاره أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده، وإن فتح امرؤ شباكاً على الجادة سدوه، لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج، فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك، ولكنها من الداخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه نقياً من الفواحش صيناً؛ أهله كأهل الدار الواحدة لا يظن أحد منهم على الآخر بجاهه ولا بماله؛ وإذا أقام أحدهم وليمة، أو كان عنده عرس أو ختان، فكل ما في الحي من طباق وصوان وكؤوس تحت يده وملك يمينه
مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف. مطردة اطراد القوانين الكونية، حتى جاء ذلك اليوم. . . ودقت الساعة دقاتها الثمان، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ؛ ولكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم، وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألما شديدا لم يفارقها منذ الصباح. وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يرها وهي التي عودته الانتظار عند الباب، ولم تحد عن هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته؛ فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده، فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة. فهز رأسه ودخل، فلما وقع بصره لم تتمالك نفسها فنهضت على غير شعور منها تقبل يده، فلما مست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة؛ وكان الشيخ على ما بيده من شدته وحزمه وحبه النظام، قوي العاطفة، محبا لزوجته مخلصاً لها، فرجع من فوره ولم يأكل، ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله واكتفوا بتبادل الآراء في تعليل هذه الحادث الغريب، الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر من مداره. ومضت على ذلك ساعة أو نحوها، ثم سمع المفتاح يتحرك في الباب فسكتوا وحبسوا الأنفاس وترقبوا هذه المفاجأة. فدخل الشيخ وصاح: (روحوا من الطريق)؛ فاختبأ النسوة ليدخل الضيف، غير أنهن نظرن من شق الباب - على عادة نساء البلد - فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل كلما تردد عليه المرض. . . وكان الطبيب شيخاً وكانت بينه وبين العجوز قرابة، ومع ذلك فقد أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وإلا تظهر منها إلا ما لابد من إظهاره؛ ثم أدخله عليها، فجس نبضها، وقاس حرارتها، ورأى لسانها. وكان ذلك منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام، ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب، فودعه الشيخ وعاد، فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وإن تلزم الحمية وتتناول العلاج الذي يأتيها به. . .
مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش، وكان المرض يشتد عليها حتى تذهل عن نفسها، وتغلبها الحمى فتهذي. . . (صارت الساعة الثامنة. . . يلا يا بنت، حضري الخوان. . . والقبقاب؟ هل هو في مكانه. . .)! وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها؛ وكانت بنتاها وكنتاها بمرضنها ويقمن في خدمتها فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟ والدار؟ هل هي كما تعهدها أم قد اضطربت أحوالها؟ ذلك همها في مرضها وفي صحتها، لا هم لها سواه
وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبرا، وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها في كنف زوجها، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل، منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقده بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين، فيجتمع لها من أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي) ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط وأشكال المكدوس معمل امقار (كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامتة، ولا يعيقها ذلك عن تربية أولادها ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل، وتغسل القمح وتعجن العجين، وكذلك كانت الزوجات في القرن الماضي
حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة. . .؟ لقد آلمها الأمر وحز في كبدها، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته وهوله، فلم يكن من ابنتها المخلصة وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها وطفقتا تعقدانه أمامها، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز
واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً، ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حاراً مدراراً، وهم لا يدرون ماذا يعملون، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدوها. ثم هدا صياحها، وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة، ووقف من وقف حائرا يبكي
ولكن العجوز عادت تنطق بعدما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا؛ وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب. . . بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة، وكان آخر ما فكرت فيه عند موتها، وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها: زوجها ودارها. . .
ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله، ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء. لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة، فخلت حياته من الحياة، وعادت كلمته لا معنى لها، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام، فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه، وامتدت إلى (الخرستان) السرية التي أصبح بابها مفتوحا، فلم تبق فيها تحفة ولا مالا، وهو لا يأسى على شيء ضاع منه بعدما أضاع شقيقه نفسه. وتهافت هذا البناء الشامخ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين، فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق كله طهر وتضحية ونبل!
علي الطنطاوي
المحامي