مجلة الرسالة/العدد 406/في جنة الدنيا دمشق
مجلة الرسالة/العدد 406/في جنة الدنيا دمشق
غماغم الربيع
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
تعالي يا عروسي الخلوب
تعالي. . . يا سيدة بردى المعطر وابنة قاسيون الجميل. . .
اسمعي أيتها الغوطة المفتان. . .
لقد جئتك مسرعاً ولهان، وباسماً فرحان. . .
خرجت من الغيوم البيض كالعذارى، فخفقت في الفضاء، ورتعت في الهواء، وطوفت في الأرض، ثم أويت إلى أحضانك الريا. . . يا غوطة الشآم. . .!
لقد حملتُ إليك كل ما تشتهين. . .
لك الزهر. . . لتحليك بسماته
ولك النحل. . . لتطربك همساته
ولك العطر. . . لتسكر نفحاته
فتعالي. . . جعلك لك الخلود، وحملت إليك الجمال، وأوتيت إلى أحضانك من بين الغيوم. . .!
- 2 -
اسمعي. . . اسمعي. . .
سأجعلك فتنة النظر. . .
سأحييك بالنور والجمال، وأجعلك مغنى الحب ومرتع الخيال، وأوشي جنباتك الزهر بالأفياء والظلال، وأحلى أعطافك الخضر بلآلئ الغمام. . . الغمام الذي أذيته لك لؤلؤاً يبسم ويرف. . .!
فانظري إلي. . .
أنا الربيع الجميل. . .
إليك أويت يا غوطة الشآم. . .!
- 3 -
ما لربوعك صامتة لا تبين. . .؟
أأحزنها خفوق المجد، وزوال النعيم. . .؟ أم شجاها تولى الصحب وفقد الحبيب. . .؟
اسمعي همسي. . . ولا تحزني. . .
لقد شهدت مواكب الملوك العظام. . . وفتحت أحضانك للمحبين والهيام. . . وسمعت أحاديث المجد يرويها آل غسان. . . ثم استقبلت الفاتحين والغزاة، وبسمت للطارئين والبداة. . . فرتعوا في المغاني، وهوموا في الرباع، ثم. . . ثم غبيتهم على حفافي نهرك، وكفنتهم بوردك وزهرك، بين العشب والنعناع. . .
إلا تحسين. . . إلا تحسين. . .
وتحتك عظام تئن، وأطلال تنام! عظام أو الملوك الغطاريف الرافلين بالحرير، الغارقين في النعيم، اللاهين في الحنايا والقصور.
وأين القصور يا غوطة الشام؟ أين أغاني الوليد وأهازيجه. . . أين سكرات يزيد وصبواته. . . أين ترانيم المجد وأغاريده؟. . .
أين. . . أين. . .؟
اقدر لتلك الدماء التي شربتها أن تصبح زهرات حمراء، ولتلك الرفات التي طويتها أن تنقلب أعاشيب خضراء؟. . .
فاضحكي يا عروسي. . .
لقد مضوا كلهم وبقيت أنت. . . وسيمضي غيرهم وتبقين:
اضحكي لعيني الحلوتين. . . أنا الربيع. . . فلقد حملت إليك النور. . . وأتيت من أجلاك من بين الغيوم. . .!
- 4 -
أيامي قصيرة في الأرض يا عروسي. . .
تمر كومضة البرق، وبسمة الأمل، وقبلة الحبيب الراحل. . .
فافتحي لي أحضانك. . . وسأنثر قلبي في جنباتك. . . وأروي من دمي أكنافك. . .
يا من في أحضانك نثرت قلوب. . . وبين ذراعيك جادت نفوس، وعلى شفتيك أهرقت دماء. . .
وكان للمجد في صدرك تاريخ، وللنور في فضائك عيد، وللحب في محانيك تغريد، وللأغاني في سمائك ترديد. . .
فابسمي لعيني الحلوتين. . . يا عروس الشآم فلقد ولدتني الغيوم البيض كالعذارى. . . فجئت أحمل لك الحياة والنور!
- 5 -
واسمعوا أيضاً. . . اسمعوا. . .!
أنتم أيها الفنانون
يا من تبعدون الجمال وتقدسون النور. . .
تعالوا إلى غوطة الشآم. . .
انظروا لجمال الفينان؛ والدلال النشوان، والتبرج والفتون!
واسمعوا غماغم الهوى المعسول، وتأوهات الزهر المسحور وتمتعوا بالربيع النديان غافياً على ركبتي العروس. . . ينفث الرحيق، وينشر الأريج، ويداعيها بالقبل، ويسكب بين يديها الدموع. . . فنبت عند كل قبلة زهرة. . . ويتفجر عند كل دمعة ينبوع. . .
تعالوا. . . وانظروا ميلاد الشعر والحب. . .
أقبلوا. . . وارنوا إلى هداياي. . .
زهور سمت نجوم السماء
وعطور فاقت أفاويه الهنود. . .
ومياه رقيقة كنجوى المحبين
ولكن. . . لا. . . ما العطور، وما الزهور. . .
لقد وهت لها الحياة، الحياة، والجمال والنور
- 6 - بشرك يا غوطة الشآم. . .
إلى أحضانك جئت من الغمام. . .
أنا الربيع الجميل
أنا الذي أدغدغ النهود فتثب، وأشعل الخدود فتلتهب، وأغرق الألحاظ بالسحر والفتون. . . وأهز القدود بسكر الشباب، وأغمر القلوب بالحب والحنان. . .
أنا الربيع. . .
أنا ضحكات الشفاه، وخفقان القلوب، وغمز العيون. . .
أنا رنين القبلات، واختلاج القسمات، وأحلام العذارى، وهمس الأحباب. . .
أنا. . . أنا نصوع الزهر، وسطوع العطر. . .
أنا الحب، أنا الجمال. . .
مررت على الجنان. . . واصطفيت أبدع الألوان، وجئت إلى أحضانك مسرعاً عجلان. . .
فابسمي. . . واضحكي. . .
فلقد ولدتني الغيوم البيض كالعذارى،
فجئتك أحمل لك الحياة الحياة، والنور. . . والجمال. . .!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد