مجلة الرسالة/العدد 403/مرثية محمد محمود باشا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 403/مرثية محمد محمود باشا

مجلة الرسالة - العدد 403
مرثية محمد محمود باشا
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1941



للأستاذ محمود حسن إسماعيل

دَفَنَتْ وَرَاءكَ فَجْرَهَا الأَيَّامُ ... سِيَّانِ بَعْدَكَ ضَحْوَةُ وَظَلاَمُ!

نَفَضَ الردَى مَعْنَى الحَيَاةِ بِخَاطِرِي ... حَزَناً، وَمَاتَتْ في دَمِي الأنْغَامُ

لاَ اللَّيْلُ مَسْحُورُ السُكونِ، وَلاَ الضُّحىَ ... كَجَبِينِ مَجْدِكَ آلِقُ بَسَّامُ

أَنَا ذَلِكَ الطَّيْرُ الّذِي خَلَّفْتَهُ ... وَلَظَى الْهَجِيرِ لِنَوْحِهِ إِلْهامُ

تَرِدُ الأَسَى شَبَّابَتِي فَكأَنَّهَا ... حطَبُ يُجَاذِبُ صَفْحَتَيْهِ ضِرَامُ

وَكَأَنَّ عُمْرِيَ زَهْرَةُ بَرَّيَّةُ ... لاَ الظِّلُّ يُنْعِشُهَا وَلاَ الأَنْسَامُ

وَكَأَنَّ رُوحِي في الدُّجى صَبَّارَةُ ... بَيْنَ الْقُبُورِ حَدِيثُهَا إِعجَامُ

سُقِيَتْ بدَمْعِ الثاكِلينَ فَأَطْرقَتْ ... ثَكْلَى تفَزِّعُ صَمْتَهَا الأَحْلاَمُ

ماذا دَهَى وَتَرى وكانَ مُجَلْجِلاً ... بِعُلاَكَ تَنْقُلُ شَدْوَهُ الأجْرام؟

شَلَّتْ عَلَيْهِ أنَامِليِ وَتَمَلْمَلَتْ ... كَبَدِي وَغَشّتْ حَيْرَتِي الآلام

فَوَجِمْتُ كالمَأخُوذِ أيُّ بَقِيَّةٍ ... لِلْوَعْيِ تَنْشُدُهَا بهِ الأوْهَام!

أرْثِيكَ، يَا لِخَطِيئَة الدُّنْيَا وَهَلْ ... يَرثِي المَعَانِي الشُّمَّ فِيكَ كَلاَم

ضَجَّ الأثِيرُ وَقَدْ رَمَى النِّاعي بهِ ... خَبَراً لَدَيْهِ انْشَقَّتِ الأفْهَامُ

وَالنيَّلُ كادَ جَوَى تَمِيدُ ضِفَافُهُ ... وَتُصَوَّحُ الرَّبَوَاتُ وَالآجَامُ

وَالشْرقُ جَلَّلَهُ السَّوَادُ، فَقُدْسُهُ ... دَامِي الحَشَا، وَعِرَاقُهُ، والشامُ

وَالأرْزُ مُرْتَعِشُ الضَّفَائرِ ذَاهِلُ ... بَثَّتْهُ نَارَ جِرَاحِهَا الأهرامُ!

أمُحَمَّدٌ كَذَبَ النُّعاةُ فَلَمْ يَمُتْ ... مَنْ رِيعَ يَوْمَ فِرَاقِهِ الإسْلامُ

وَمَن التَقَتْ مِصْرٌ وَرَاَء رِكابهِ ... شِيَعاً يُؤَلَّفُهَا أسىً وَوئَامُ

وَمَن اصْطَفاهُ المجْدُ حَتِّى لَم يْكُنْ ... إلاّ لهُ صَرْحُ النُّجومِ مَقَامُ

وَمَن انتَضَى الأخْلاَقَ سَيْفاً شَرْعُهُ ... أنَّ الغُمُودَ عَلَى السُّيُوفِ حَرَامُ

وَمَن اسْتَعارَ النُّورُ حُجَّتَهُ فَلاَ ... زَيْفُ وَلا رَهَبْ وَلاَ إبْهَامُ

وَمَن اسْتَجارَ القَيْدُ حِينَ أذَاقَهُ ... لَهَباَ يَؤُزُّ جَحِيمَه الإقْدَامُ

وَمَن النّزَاهَةُ كالضُّحَى لاَ رَأيُهُ ... يَزْوَرُّ عَنْ فَمِها ولا الأحكامُ وَمَن الحَدِيدُ يُفَلُّ دُونَ عِنَادِهِ ... إنْ رِامَ كَيْدَ بِلادِهِ ظَلاّمُ

فَلَكٌ يَهابُ الدَّهْرُ بَأسَ مَدَارِهِ ... دَارَتْ عَلَيْه بِضَعْفِها الأسْقَامُ

وَطَواهُ مَنْ حَصَد السِّنِينَ بِمِنْجَل ... ضَافِي الجَلالِ يُقالُ عَنْهُ: حِمَامُ!

قَدَرٌ رَمَي قدَراً عَلَى رَاحَاتِهِ ... يَبْيَضُّ مِنْ لَيلِ الخُطوبِ قَتَامُ

وَأتَاهُ وَالأيامُ حَوْلَ سَرِيرِهِ ... أيْدٍ يُرَقرِقُ طُهْرَهَا الإحْرَامُ

تَدْعُو السَّماَء لعَلَّ كَفَّ طبِيِبهِ ... رَغْمَ القَضَاءِ يَعُودُهَا الإلْهامُ!

وَالّليلُ تَجْأرُ بِالدُّعاءِ نُجُومُهُ ... وَيَئِنُّ تَحتَ قِبابهِ الإظْلامُ

واَلعائدُونَ الجَازِعونَ حَدِيثُهُم ... كَدُمُوعِهِم بَاكِي الصَّدَى هَمْهامُ

وَالقَصْرُ مَخْنُوقُ السَّكِينَة شَارِدٌ ... سَجَّاهُ فِي لَهَبِ الذُّهولِ مَنَامُ

هَتَكَ الرَّدَى أستارَهُ، فإذا به ... قَلْبٌ يُمَزَّقُ صَفْحَتَيِهِ حُسَامُ

وِإذا (مُحَمَّدُ) أُمَّةٌ مَحْمُولَةٌ ... فَوقَ الرِّقَابِ تَلُفْها الأعْلاَمُ

وَقَصِيدَةٌ دَهْرِيَّةٌ يَبْلَى البِلَى ... وَنَشِيدُهَا تَجثُو لهُ الأيَّامُ

مَنْ كانَتِ الدُّنيَا تَهَابُ جِوَارَهُ ... أمْسَى يُجَاورُهُ حَصىً وَرِجَامُ

يَا زَيفَ هاتِيكَ الحَيَاةُ! وَيَالَها ... دُنيا حَقَائِقَ سِرَّها أوْهَامُ!

لَمَحَتهُ صَحْرَاءُ الإمامِ فَأوْشَكَتْ ... يَخْضَرُّ في يَدِها بِلَى وَرِمَامُ

وَتَنَفَّسَتْ نَفَسَ الرَّبِيعِ كأنما ... فَضَّتْ فَوَاغِمَ عِطرِهَا الأكمامُ

وَكأنها ظَمأى إلى نَبْعِ الْهُدَى ... وَالطُّهْرِ يُقْلِقُهَا صَدىً وأوَامُ

لَمَحَتْهُ فارْتَجَزَتْ مَسَابحُ رَمْلِهَا ... لَحْنَ الجَلاَلِ وَكَبَّرَ النُّوَّام!

وَتَوَاكَبَ الشُّهَدَاءُ أيَّ مُوَدَّعٍ ... هَذا الّذِي خَفُّوا إلَيْهِ وَقَامُوا؟

وَقَفُوا مَع التَّأرِيخِ صَوبَ رِكابِهِ ... يَحْدُوُهمُ التَّقْدِيسِ وَالإعْظام

والشَّمسُ شَلاءُ الشُّعَاعِ بَكى لها ... لَمَّا بَكَتْكَ إلي المَغيب غَمام

غَرْبِيَّةٌ وَدَّتْ لَوْ انْشَقَّ الدُّجى ... وَأضَاَء لَيْلَكَ طَرْفُهَا السَّجَّام

لِمَ لاَ وَمَجْدَُكَ سَارَ في أبْرَاجِهَا ... وَعُلاَكَ مِنْهَا يُرْتُجَي وَيُرَام!

يَا مُرسِل النَّظَرِ البَعِيدِ بِخاطِرٍ ... في غَيبِهِ تَتَعَثّرُ الأحْلام

قالوا السِّياسَةُ قُلْتُ كانَ بهَوْلِها ... الفَارِسُ المُتَجَبِّرُ الِمقدَام! قالوا الأمَانَة قلتُ تِلكَ صَحِيفةٌ ... سَيَظَلُّ يَقْرَأهُ بها الأقْوام!

قالوا الصَّراحَةُ قلتُ رِيحٌ عاصِفٌ ... بِيَدَيْهِ لا رَيْثٌ ولا إحْجام!

قالوا النَّزَاهَةُ قلتُ تَلكَ شِهادَةٌ ... سِيَّانِ فيها الصَّحْبُ والأخْصَام

قالوا النَّبالةَ قلتُ أرْوَعُ آيةٍ ... فِيهِ يُسَاجِل نُبْلها الحُكام!

قالوا البيانُ فَقِلتُ عِفةُ مَنطِقٍ ... لَمْ تَقتَرِبْ من طُهرِهَا الآثَام!

قالوا النَّدَى فأجَبْتُ واهِبُ عُمْرِهِ ... للنِّيل تَعْرِفُ جُودَهُ الأيَّام!

قالوا عُهودُ الشرق قلت شَأتْ بها ... لِلخافَقْينِ عَلَى يَدَيْهِ ذِمَامُ

في الدِّينُ في الأخلاق في الحُرَمُ التي ... نَادَى بها لِلعَالَم الإسْلاَمُ

قالوا. . فقال المَوْتُ أصْبَحَ سِيرَة ... سَتَظَلُّ تَرْوِى سِحْرَهَا الأهْرَام

وَأظَلُّ أقْبَسُ مِنْ ظِلالِ خُلودِهَا ... مَجداً تُرَقْرِقُ خَمْرَهُ الأنْغامُ

وَتَذُوبُ رُوحيَ كُلّمَا نَادَتْ بهِ ... مَن ذَلِك السَّارِي عَلَيْه سَلامُ

محمود حسن إسماعيل