مجلة الرسالة/العدد 402/الغناء والموسيقى
مجلة الرسالة/العدد 402/الغناء والموسيقى
وحالهما في مصر والغرب
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 1 -
هذه أولى أربع كليمات في الغناء والموسيقى، وحالهما في مصر والغرب؛ وهي ملاحظات عامة لم يُقصد بها إنسان معيَّن، وليس فيها محازبة لمذهب خاص، وعُرضها قد لا يخلو من فائدة
ذانك الفنان يجوز اعتبارهما من وجهين: القواعد الفنية؛ وبواعث الطرب الراجعة إلى ماهية الموسيقى والغناء الأصلية، أي الدلالة الصوتية على الأحاسيس والخواطر
فالغناء تطريب في الصوت في كلام المغني. والكلام العادي كلمات تدل بذواتها وبنسقها على خواطر وأحاسيس تتلوَّن فيه تلون الحال الفكرية النفسية في المتكلم؛ فيتلون صوته بالطبع والتبعية إذ يحدث فيه نبرات متفاوتات، ويجري في سرعة وبطء وخطف ووقف، وذلك كله يقوي دلالات الكلمات والسياق على الخواطر والأحاسيس، لأنه يزيدها وضوحاً وتأكيداً من حيث لا يشعر المتكلم. فهذا الذي يَحدث في صوته دلالةٌ صوتية تصاحب الدلالة الكلامية؛ وهي ماهية الإلقاء، وقد تكون أصدق من دلالة الكلام الذي تصاحبه: في مثل عبارة معناها ثناء تلقى بصوت يدل على أن المراد بها مُزاح ساخر؛ وفي مثل قول غاضب لمغضوب عليه: تفضَّل، بصوت يعني الطرد مع أن الكلمة مستعملة في التكريم
وما الغناء، على الإجمال، إلا تطريب يُعلى تلك الدلالات الصوتية في اللحن المطابق لمعاني كلام الأغنية، ولمقتضى المقام المعين بهذه المعاني؛ فتعلو الدَّلالات درجات متفاوتات على مستوياتها في الكلام المغَنَّى به لو أن صاحبه الفرضي تفوَّه به، من غير تطريب، في ذلك المقام. يؤيد هذه الحقيقة أن الأغنية إذا جاد لحنها، وأجاد غناءها صوت حسن موافق، كانت معانيها أعظم وقعاً عند السامع منها إذا هو قرأها هادئ النفس، أو سمعها مقروءة بلا ترنيم ولا ترتيل. فمن أين تعلو عنده منزلة هذه المعاني والأغنية واحدة على كل حال؟ أفلا نرى أنها تشرف بتقوية الدلالة الصوتية المبينة عن معاني الكلام وع حقيقة المراد به؟ ليس شك في أن السر والسبب المهم هو تقوية هذه الدلالة، والأمر صحيح واضح لا في الغناء وحده بل في الخطابة والتمثيل أيضاً
تلك الدلالات الصوتية تصاغ في نغمات متوائمات محكمات على ضوابط فنية، لتنسجم بالإيقاع في لحن يبرز معاني الكلام المغنى به، وعلى قدر المطابقة الواقعة بين نص الدلالات، أي معاني الملحن، وبين معاني هذا الكلام يطيب الغناء ولو لم يكن صوت المغني من أجود الأصوات
بديهي أن الملحن لا ينطق بالكلام المراد تلحينه، ولا يستعين أحداً ينطق به أمامه، كي يلاحظ ما يقع في مثل هذا النطق من دلالات صوتية ليرفعها في نغمات يصوغها لحناً، لكنه إذا كان حقاً فناناً فقهاً فإنه يتفهم ما في ذلك الكلام من مقاصد وأغراض، ناظراً في دقائق ما يكسوها من معارض وأثواب؛ ويتأمل ما يصور من صور حتى يتوهمها أمام ناظريه، وحتى تستقر في بصيرته وعقله الباطن، وما تصف من أحوال نفسية حتى يجدها كأنها في نفسه هو؛ ثم يأخذ في التلحين متى تهيأت له ملكاته، فيأتي اللحن بطبيعة الحال حاملاً تلك الدلالات، مطابقاً بها معاني الكلام على قدر حساسات الملحن وحسته، ومواهبه ومحصوله الثقافي؛ وإذا كان الكلام أغنية من إنشائه، فقد يكون أقرب إلى السداد في إنشائه لحناً لها
وشأن المغني في التمكن من اللحن وتجويد غنائه شأن الملحن في تلحينه، وذلك هو الأساس والصراط المستقيم إلى الإجادة يهديهما إليه الطبع ونصيبهما من تحصيل أصول الفن ومن فهم معناه، ومن لم يهتد إليه ويوطد صنيعه على هذا الأساس المتين جاء بشيء غير طائل
أما الموسيقى، ففيها الدلالات الصوتية المصوغة في اللحن الذي يخرجه العازفون من المعازف؛ وهذه الدلالات أملتها نفس ملحنه، إما أخذاً عن أحاسيس وخواطر تضمنها الكلام الذي انشأ له اللحن، وإما تعبيراً عن حستها الذاتية حين تيقظت فيها ملكة التلحين، وهي حالة استكنت في أعماق تلك النفس بواعثها من خوالج صاحبها في مدى حياته، ومن أخيلته وخواطره إزاء ما شاهد في دنياه وما أدرك من الكون بشعوره وعقله أو بفضل غيره
تلك الدلالات تؤديها معازف تختص بها، معازف يَحدث من تناسق أنغامها السياق الأساسي في اللحن بينا ترسل معازف أخرى أنغاماً مساعدة، تتلبَّس به متنوعة فيه، متفاوتة ارتفاعاً وانخفاضاً؛ فهذه تصاحب السياق الصوتي الأصلي وتزينه بتلونها الملائم، إذ تجري معه مؤتلفة، كصورة الظل مع صاحبه، فتزيده جمالاً وروعة، فهي مصاحبة أو تصوير. فما اللحن في الحقيقة إلا تعبير بدلالات صوتية مدلولاتها خوالج وخواطر وأخيلة جالت في نفس ملحنه، أو استعارتها نفسه من كلام لغيره، من فحواه ودقائق معانيه وما تصف. ومن هنا نظروا إلى اللحن الذي يعبَّر هذا التعبير، ويصور هذا التصوير، نظرهم إلى الكتابة فقالوا: الإنشاء الموسيقي، وميزوا بين إنشاء موسيقار وإنشاء موسيقار آخر، وعرفوا لكل طابعه الخاص
الفهيم المستمع إلى موسيقى جيدة، لا يصاحبها غناء، تصل ألحانها إلى سمعه غير مقيدة دلالاتها الصوتية، أي معانيها، بدلالات لفظية. ولذا تجد نفسه بعض الحرية في فهم هذه الألحان الموسيقية التي تحرك في وجدانه خوالج وأحاسيس، وتثير تداعي الصور في مخيلته والخواطر في ذهنه، فتذهب روحه مذاهبها في تأويل الدلالات الصوتية؛ فإذا سكنت إليها طرب ووجد الأريحية، وإذا هو آنس منها ما يعيب اللحن أو العزف أو لم يفهمها، أو لم توافق طبعه، فإنه لا تأنس إليها روحه. وعلى قدر موافقتها وسلامتها أو عيوبها يكون الاكتراث لها، أو الاستكراه والنفور منها
أما الغناء الذي تصاحبه الموسيقى ففيه الدلالة اللفظية تَفرض تأدية معان معينة، هي معاني الكلام المغنَّى، على الدلالتين الصوتيتين: دلالة الغناء ودلالة العزف الموسيقي معاً؛ فلا بد من المطابقة والائتلاف التام بين هذه الدلالات الثلاث حتى لا يُعكر نبوُّ إحداها ونشاز الأخرى صفاء اللحن ونقاء الغناء والموسيقى جميعاً
والكلام الذي يغنِّيه المغنِّي بمصاحبة الموسيقى يصل مع صوتيهما إلى آذان المصغين البصيرين، ويتعيّن معناه اللفظي بيّناً في أذهانهم فيقيد حرية نفوسهم كل التقييد، في فهم تينك الدلالتين الصوتيتين فهماً يغايره، وبذلك يمنعهم من تأويلهما تأويلاً يجعل لهما وقعاً عندهم؛ فإذا لم يكن الائتلاف تاماً بين معاني كلام الأغنية ومعاني لحنها وغنائها ومعاني موسيقاها حال هذا العيب الشنيع دون الطرب، وربما سبب الاستكراه والنفور ولو جاد العزف لآلي وصوت المغني
والمستمع السليم الذوق قد لا يحلل بعقله ما يسمع من الغناء والموسيقى مثل هذا التحليل، ولكنه لا يطرب من غناء وموسيقى تتنافر فيها تلك المدلولات اللفظية والصوتية؛ لأن عقله الباطن يدرك تنافرها، أو لأنها لا توافق مزاجه الروحي، وإن لم يكن بينها تنافر، أو لعدم وضوح معانيها له، ومدار ذلك كله هو الإدراك والذوق
ولكن الحقائق المتقدم بيانها ما مبلغ علمنا بها يا ترى؟ وهل يُلتفت إليها في بلادنا؟ الجواب في الكليمات الآتية في الأعداد التالية، وحسبنا الآن إشارة
لما دال الدهر القلَّب، وظعت أسباب الانحطاط على الشرق، وتفشَّاه الجهل، وذهبت الأخلاق، وضاعت فيه الآداب والفنون، لم يبق بعدها من الغناء والموسيقى، في الفترة المديدة التي سبقت بدء النهضة المصرية، سوى بقايا ضئيلة ههنا وثَمَّ، مستها الأسواء ولمّا نمعن في البحث عنها وعن أصولها وضوابطها، ولم نحسن الاعتناء بما بين أيدينا منها، ولم ندرك ماهيتها ونبني عليها؛ وليس لنا بد من طور آخر نقضيه متلمسين الفن الحق، متعثرين في سبله
نعم، فإن كثيراً من الملحنين والمغنين والموسيقيين والمستمعين - بقطع النظر عن الأقليات التي تدخل في باب الاستثناء - لا يزالون عندنا من بيئات دون الوسطى، ضئيل محصولهم، أولية عقولهم، ساذجة نفوسهم، سقيمة أذواقهم. وقصارى البارع من هؤلاء الفنانين أن يتقن تقليد ما ترك الجيل السابق، أو أن يعبث بشيء من بعض آثار القدماء، أو أن يمسخ الفن بما يزعم أنه تجديد وابتكار. وكثير من النقاد مثلهم ولم يفطنوا؛ لمواطن الأدواء، فليس في مقدورهم أن يصفوا الدواء، ونقدهم مغترض يساير الشُّهى ويتحرى مظان المنفعة، وخيره أقل من شره، ولو تنزه وصح لكان في مصلحتهم ومصلحة الجميع على السواء.
محمد توحيد السلحدار
-