مجلة الرسالة/العدد 4/خواطر وصور
مجلة الرسالة/العدد 4/خواطر وصور
بعض الناس
للأستاذ محمد عبد الواحد خلاف
عرفت فيمن عرفت من الناس رجلا اجتمع له كل ما يشتهي من جمال في المظهر، كان مديد القامة في غير شذوذ، مكتنز العضلات في غير ترهل، حسن قسمات الوجه في غير تخنث، اشرب لونه حمرة تنطق بما حباه الله من عافية في بدنه، محمود الملبس لا تنقصه فيه أناقة ولا حسن انسجام. وكان يغشى ناديا اختلف إليه جماعة من الإخوان فاستشعرت له أول الأمر هيبة وتوسمت فيه خطرا، وكان أحد الرفاق يتحدث في أمر شديد الاتصال بذاته فرأيت لهذا الرجل نظرة ساخرة. أدركت معها أنه يعلم عن هذا الحديث ما لا يعلم قائله، ولم يطل بي الانتظار حتى رأيته قد استولى على الحديث وأخذ يذكر عن نفسه وتجاربه المتصلة به كثيراً، وتشعب الحديث، وأثار الاستطراد ذكر مسائل مختلفة، وكان هو فارس كل ميدان والحجة في كل موضوع، وكان إذا ما اشتد الجدل علا صوته حتى غلب على كل صوت، وإذا أعوزه في دعوى أن يقيم الدليل، أفحم مناظريه بالضجيج والتهويل. وتكرر التقائي به حتى هان عليّ أمره، وصرت لا أحفل لقول يقوله. ولكني كنت أجد في دعواه العريضة شيئا من الفكاهة يروح عن النفس بعض ما تلقاه من جد الحياة.
وقرأ خبيث من الرفاق في إحدى الصحف خبر اعتصاب الحمالين لخلاف بينهم وبين رؤسائهم، فبيَّت في نفسه أمراً يهتك به ستر هذا الدعي. وأقبل صاحبنا يتهادى في مشية بطيئة وقورة وقد تدلى من بين شفتيه سيكار فاخر. واشرق وجهه بتلك الابتسامة الساخرة التي توحي إلى الرائي هو أن الناس عليه، وعلمه من حقائق الأمور ما لا يعلمون. فتلقاه المداعب الخبيث بتهليل المعجب الذي وقف على ما أخفاه من فعال، وبدا عليه ما يشبه الخجل والحياء لافتضاح مكرمة يأبى عليه تواضعه أن تنشر وتذاع. وقال له الصديق المداعب: (لك الله من بطل! لقد لمست في الأمر أصبعك، وشممت منه ريحك، وقلت منذ قرأت الخبر أنها لا شك إحدى أياديك في نصرة الضعفاء. ولكن نبئني كيف وفقت في جمع كلمة أولئك الحمالين مع انقطاع كل صلة بينك وبينهم، وكيف تم لك تدبير أمرهم؟).
وأشفقت من وقع تلك السخرية اللاذعة المكشوفة على نفس صاحبنا، ووجدت فيها قسوة شديدة على هذا الغر. ولكني عجبت حين وجدته يهز رأسه في أناة هزة الواثق، ويذكر أنها بداية حملات يقوم بها في رد حقوق المهضومين، وأن هذا شيء لا يستحق الذكر إلى جانب ما ستظهره الأيام من جهوده العظيمة في هذا السبيل.
وانطلقت من الأفواه ضحكات طويلة عددتها سخرية وعدها هو طرب إعجاب وتقدير، وبدأت بعد هذا أرثي للرجل وأشفق عليه مما سيحيق به من السخرية والازدراء في كل مجتمع يغشاه، حتى كانت بعض الحركات العامة فوجدت الرجل يتصدر مجالسها مسموع الكلمة عالي المنزلة!
أدركت عند ذلك أن أولى الناس في هذا البلد بالرثاء، هم ذوو الفضل والحياء.
أقيلوا عثرات الناس
[عدل]نشأت نشأة محافظة جعلتني أغلو في استنكار زلات الشباب. واشتد بالنقمة على كل عاثر، ولا يتسع صدري لتلمس عذر لخاطئ. وكنت أجافي من أعرف عنهم ذلك واشتط في الحكم عليهم، فلا أرجو منهم خيرا أبداً.
وكان لي صديق ألف الله قلبينا برباط من الود الصادق أنزله من نفسي أكرم منزل، وباعد بيننا طلب الرزق حينا، فلما التقينا بعد طول غياب وجدت على وجهه غمامة من الاكتئاب دلتني على انه يعاني بين جنبيه هماً مبرحاً ثقل عليه حمله. وكان كلما هم أن يفضي إلي بوجيعته ساوره شيء من الخوف فطواه في صدره. وما زلت أترفق به، حتى قص علي قصته، وعلمت انه في إحدى ثورات العواطف جمحت به نفسه، وأفلت منه قيادها فزلت قدمه، وأتى ما يأتيه كثير من الناس. ولم يجد فيما روى به حسه من متع غناء عما فقده من رضى نفسه وطمأنينة وجدانه، فهو لهذا بائس حزين.
وسكت الصديق ونظر إلي نظرة جازعة لما يعلمه عني من القسوة في الحكم على مثل تلك العثرات. والعجيب من أمري أني وجدتني أكثر محبة لهذا الصديق بعد أن قص علي قصته، وأشد فهما لظروفه ووجدتني أرى عثرته مقالة، وزلته مخفورة ورحت أهون عليه الخطب وأتلمس السبيل لتهدئة أعصابه.
وخلوت لنفسي بعد ذلك وفكرت كيف يتغير حكمنا على الأشياء بتغير فاعليها، ليس منا من أمن العثار. وإذا وقانا الله شرها في أنفسنا فقد يعثر حميم نعزه. فلم نقبل عثرات الأولياء ونتلمس العذر لأخطاء أنفسنا ومن نحبهم ثم نقسو في الحكم على من بعدت بيننا وبينهم الصلات؟
علمتني هذه الحادث أن أقيل كل عاثر وارحم كل خاطئ. وانظر إلى كل زلات الناس على أنها أمراض تعالج بالرفق والعطف والرحمة.
اللذائذ والآلام أوهام
[عدل]ليست اللذائذ الا بعض خدع الطبيعة تغرينا بها على أداء وظائفنا الحيوية، الست ترى أحدنا إذا مر وهو جائع بمقربة من طعام وفاحت رائحته فمست خياشيمه، أو لاحت صور فرأتها عيناه سال له لعابه وتحرق شوقا إلى التهامه حتى إذا ما ملأ منه معدته وأدى ما تتطلبه الطبيعة لحفظ الذات صد عنه كارها ولم تثر فيه رائحته ومرآه شهوة.
كذلك الحال في كل لذائذ الحس لا تبهر الا جائعا ولا تثير غير صادئ فإذا ارتوى منها زهد فيها.
ومثل اللذائذ الآلام فهي إحساس خادع ينبه المحروم من أداء وظائفه الحيوية إلى أدائها.
واحسبنا نستطيع بشيء من رياضة النفس والمران على حكم الاعصاب، أن نصل إلى منزلة نغالب بها إلى حد كبير خداع الطبيعة فلا تثيرنا كثيرا لذائذ الحس وآلامه.