مجلة الرسالة/العدد 4/القرية المهجورة
المظهر
< مجلة الرسالة | العدد 4
مجلة الرسالة/العدد 4/القرية المهجورة
للشاعر أوليفر جولد سمث
أتى عليك زمان كله رغد
يفيض فوق رباك الخير مطردا
وكان عهدك والفلاح مغتبط
يأتي له الرزق من غلاته رغدا
لكن تنكرت الأيام وامتلكت
هذي البلاد قساة أغلظوا الكبدا
فعطلت من ليالي الأنس أربعها
والأهل قد هجروها، لا أرى أحدا
(أوبرن) يا لمحة السحر التي اختلست
لقد طواك زمان كله عِبرُ
لكم رجعت إليك اليوم مكتئبا
والنفس ولهانة والقلب منفطر
أرتاد فيك مكانا كان يؤنسه
ظليل كوخك أو نسرينك العطر
فتملأ الذهن أفكار تراوحني
بذكريات عهود كلها صور
لما رمت بي النوى في دار غربتها
وذقت فيها نصيب الحزن والتعب
ركبتها ولقلبي الصب أمنية
في أن يكون إلى (أوبرن) منقلبي
وكنت أحرص في جهدي الطويل على
قنديل عمري حرص المشفق الحدب
ألكي أقضي في قومي بقيته
أروي لهم كل ما لاقيت من عجب
دعوهم حول نيراني لأطرفهم
بعد العشي بأخباري وأهوالي
كأنني أرنب في الدوِّ أفزعها
صيد فعدت لوكري بعد إجفال
قد كنت أحلم في آفاق دسكرتي
وكان عودي إليها جل آمالي
فذاك أحسن شيء سحر بهجتها
وذاك خير معادا تربها الغالي
يا عزلة الريف يا مكنون روعته
يا إلف شيخوخة الإنسان في الكبر
آها على طيب أحلام رزئت بها
وسدتها فيك بين الماء والشجر
ما كان أصفى نعيم المرء لو ختمت
مشيبه راحة في دوحك الخضر
يجفو الحياة وما تحويه من خدع
غرارة ونعيم غير ذي أثر
ما كان أعذب ذاك الصوت سيرسله
وحي المساء ليفني في أصائلك
قد كنت أمشي وئيد الخطو منتشيا
أصغي له وهو يعلو من منازلك
والليل أرخى على الراعي ستائره
فخب يحدو الرواعي في خمائلك
وقد تهادى الإوز الغر في شغف
على مياهك. . يلهو في جداولك
يا لهف نفسي عليك اليوم قد سكنت
عن سكب ألحانها هذي الأغاريد!
لم يبق في الغاب من صوت يجاوبه
صدى السكون ولا للريح ترديد
ولم تعد فيك تحيي الأنس ثانية
في الليل فتيانك الطيب الصناديد
لم يبق غير عجوز جد عانية
أو ثاكل هَّدها هَمٌ وتسهيد
قد أكرهتها حياة لا تبدلها
من مأكل خشن أو مشرب رنق
فقوست ظهرها فوق الضفاف على
هشائم العشب تجنيها أو الورق
وثم ترجع في ضعف يغالبها
لكوخها توقد النيران في الغسق
ظلت لتبقى على الوادي مؤرخة
له وتطوي بقايا العمر في قلق
هناك في أجمة كانت تشارفها
أشجار مهتزة الأزهار فيحاء!
قد أوحشتها غصون لا تشذبها
عناية فتدلت جد لفاء!
هناك من بين أغصان محطمة
تغشى المكان. . وبين الظل والماء
يقوم مرتبع القسيس في خفر
مستحيياً يتوارى تحت أفياء!
قد كان شيخاً وقور الذات متقيا
يخشى الإله ويقضي الليل أوابا!
يعده القوم من أهل اليسار وإن
لم يحو غير التقى ذخرا وأسلابا!
وكان في الناس محبوبا ومحترما
يلقي الغريب ويلقي الأهل أحبابا
لم يقرب المدن من إثم يطوف بها
بل كان يطوي القرى للوعظ جوابا!
ما زال سائله المسكين يقصده
وضيفه الشيخ يرعاه بلا برم!
ولم يزل يجلس الجندي مصطليا
في داره موقد النيران من أمم!
يروي له كل ما لاقى وتلذعه
نار الجراح فيشكو شدة الألم
والشيخ جانبهم دوما يقاسمهم
آلامهم بحنان غير متهم
يظل كالطائر الشادي يرف على
صغاره فوق أغصان الخميلات
يحتال كيما يطيروا. . ثم يحملهم
إلى جناب خصيب في السماوات!
قد راح يزجر من يبطئ ويسعفه
إذا تخلف عن طير الجماعات!
يهديهم نحو كون لا يطوف به
غير السعادة في علوي جنات!
م. ع. الهمشري