مجلة الرسالة/العدد 399/معركة السياسة بين هتلر وبيتان
مجلة الرسالة/العدد 399/معركة السياسة بين هتلر وبيتان
للأستاذ يوسف شبلي
كان المحور الدكتاتوري في المدة التي سبقت إعلان الحرب في سبتمبر في سنة 1939، وفي المدة التي لحقت إعلانها لا يقوم على أساس مشترك في العمل بين طرفيه، أو تساو عادل في إبداء الرأي والقطع فيه، بل استقل بتوجيه المحور في أعماله وفي أفكاره طرف واحد دون الآخر؛ وتطور الأمر فيما يختص بأحدهما إلى احتلال المقدمة؛ وفيما يختص بثانيهما إلى الوقوف في المؤخرة؛ حتى أهمل أمره وهان شأنه في الكبيرة والصغيرة على السواء.
لقد حار الكل في تعليل الموقف في مظهره الجديد، وطارت الأفكار في تلمس المعاذير والأسباب كل مطار ومدار؛ فكثرت الاحتمالات، وتعددت الإشاعات، واجتهد القريب والغريب في الاستنتاج والاستخراج؛ ونشط الفهيم والعقيم في الإفصاح والإيضاح. إلا أن شيئاً واحداً انقطع دونه التفكير وجف عنده مداد التحبير، وهو أن يكون الضعف سبب الجمود، ونفاد الحيلة العلة الأصيلة في هذا الهبوط والقعود.
أليس من دلائل القوة أن يعمد الزعيم الإيطالي في كل مناسبة وغير مناسبة إلى الخطب الحماسية يلهب بها أعصاب سامعيه، حتى إذا انتهى من إلقاء الخطاب تأبط شباب الفاشست - وكلهم دون سن النضوج - منشورات مليئة بالقذف والبذاء في الإنجليز والفرنسيين، وهرولوا مسرعين إلى حيث يقيم السفير الإنجليزي فيقابلونه بالصفير والتهليل، وبإلصاق تلك المنشورات على سيارته وعلى دار سفارته!
بل أليس من دلائل القوة أن يعمد السنيور موسوليني في تقديم مطالبه ونشر مآربه إلى رأس المدفع فيتخذ منه مسنداً، وإلى جناح طائرة فيجعل منه مقعداً، ليكون من مجمل هذه المظاهر الجوفاء والحركات النكراء صورة لقوة زعيم ورمزاً لغضب الحليم!
ما كان أحد يتوسم في إيطاليا غير القوة والجبروت، حتى إذا أشرفت معركة فرنسا في الميدان الغربي على الانتهاء، وأعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء، طمعاً في كسب غير مشروع، ورغبة في غنم مأمون ومضمون؛ وحتى إذا فوتت إنجلترا على الدكتاتورية قصدها بإطالة أجل الحرب، وتعين على إيطاليا أن تقوم بدورها في القتال، تكشفت الحقيق السافرة عن ضعف تام في جميع ميادين الحياة والنشاط
وبينما أحد طرفي المحور يعاني من مرائر الهزائم المتوالية في ميادين القتال: ففي الميدان الشرقي انقلبت الجيوش اليونانية في الدفاع في بادئ الأمر إلى الهجوم؛ وانقلبت الحرب من البلاد اليونانية إلى الميدان الألباني في بضعة أيام. وفي شمال أفريقيا وشرقها، أحرزت الجيوش الإنجليزية انتصارات حاسمة في معارك فاصلة، فوصلت في الشمال إلى ما بعد بني غازي وأسرت ثلاثين ومائة ألف أسير، وغنمت كثيراً من عتاد القتال؛ كما توغلت في الشرق أميالاً عديدة في المستعمرات الإيطالية. نقول بينما أحد طرفي المحور يعاني كل ذلك، إذا بالطرف الثاني يفشل فشلاً تاماً فيما كان يأمله من غزو الجزر البريطانية جواً وبحراً، وما كان يرومه من إنهاء الحرب في هذا الميدان؛ وكلما امتد الوقت بالحرب زاد استعداد الجزر البريطانية لملاقاة العدو إذا غامر بغزوها، حتى صارت فكرة الغزو اليوم مما لا يمكن تحقيقه أو الإقدام عليه.
وهنا وجب على إيطاليا أن تطلب المساعدة الألمانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حطام ومخلفات. . . كما وجب على ألمانيا أن تبحث في ميدان جديد تقهر فيه إنجلترا، يكون أقل مناعة، وأضعف حصانة.
ولما كان أمام الألمان خطة واحدة يجب عليهم أن يسلكوها، وهي أما الاتجاه شرقاً، والانتقال بالحرب إلى البلقان، ثم إلى الشرق الأدنى وأما الاتجاه جنوباً، لتجربة خطة الغزو بحراً في ميدان ضيق إلى شمال أفريقيا؛ فقد وجدت في هزيمة حليفتها واضطرارها إلى طلب المساعدة الفرصة المرتجاة؛ فتسللت الجنود الألمانية إلى شمال إيطاليا، واحتلت أسرابها الجوية جميع المطارات لتعمل هذه القوات في ميدان البحر الأبيض المتوسط، وتمنع النجدات البريطانية في حالة الاتجاه شرقاً، أو الاتجاه جنوباً.
غير أن المطارات الإيطالية، صار يقابلها في ليبيا بعد الانتصارات الإنجليزية الأخيرة عدد مضاعف من هذه المطارات، مما يجعل التفوق للقوات الإنجليزية في هذا الميدان
إذن يجب البحث عن قواعد بحرية وجوية تطل على البحر الأبيض المتوسط لضمان التفوق والاطمئنان على نجاح التجربة الجديدة.
لكن كيف السبيل إلى ذلك، ولم يبق إلا أسبانيا وفرنسا. أما أسبانيا فقد قال جنرالها للهر هتلر: إن للبحر الأبيض بابين، أحدهما غربي، والآخر شرقي؛ فإذا تمكنت من إقفال الباب الشرقي، فكرت في مساعدتك في إقفال الباب الغربي في جبل طارق، وهذا رد لا يفوت معناه ومغزاه على لبيب.
اتجه الهر هتلر إلى فرنسا، فهي أولى بأن تتحمل نتائج الهزيمة، وغرم الانكسار. فكاشف المسئولين من رجال حكومة فيشي بأغراضه ونياته، من الاستيلاء على المواني الفرنسية، في فرنسا غير المحتلة وفي المستعمرات؛ ومن انضمام وحدات الأسطول للعمل مع الأسطولين الألماني والإيطالي، ضارباً بشروط الهدنة التي حفظت لفرنسا أسطولها ومستعمراتها ناحية الأفق؛ فأبى عليه المريشال بيتان وصحبه أن يجيبوه إلى هذه المطالب والأغراض؛ وابتدأت المعركة السياسية بين هتلر وبيتان، تلك المعركة التي كانت منذ شهر يونيو من السنة الماضية، تتفاوت بين مظاهر اللين والشدة، وبين الاعتدال والاحترام، تبعاً لتطورات الحال، وظهور المفاجآت بين آن وآن.
ففي الأيام التي تلت انكسار فرنسا في الميدان الغربي، كانت هذه المعركة بين ألمانيا وفرنسا، تعلوها مسحة من اللين والتهاون، حيث كان الزعيم الألماني يمني نفسه بقرب غزو إنجلترا، والدخول إلى قصر بكنجهام، إذ يشرب فيه نخب الانتصار!
وأما اليوم، وقد أغلقت جميع الأبواب، وسدت كل المنافذ والفتحات؛ ولم تعد يد تمتد إلى الزعيم الألماني بالمصافاة، فقد تطورت المعركة بينه وبين بيتان إلى احتدام عنيف، وصفته التلغرافات بأنه نضال البقاء أو الفناء.
والحقيقة أن الهر هتلر يحسب حساباً خاصاً للفرنسيين، لما يعرفه عنهم من حدة المزاج، ولما يعلمه تمام العلم من استعداد المستعمرات لاستئناف القتال ضده عند الإشارة الأولى. لذلك جاملهم كثيراً في بداية الأمر، وحاول جاهداً أن يستدرجهم إلى داخل الدائرة الألمانية بالحسنى ولين الجانب. ولم يطرق بابهم بشدة إلا عندما أفزعته الحوادث، ووصل إليه فعل التيارات الآخذة في الاقتراب منه. حتى لقد فضل أن يلج الباب الإيطالي، بحيلة هتلرية، تحت ستار المساعدة ومباشرة عملية الإنقاذ، قبل أن يطرق الباب الفرنسي، ويلح في طلب ولوجه.
وإذا كانت الأنباء قد أجمعت على القول بثبات المرشال بتان أمام تهديد الألمان، ورفضه إجابة مطالبهم، معرضاً فرنسا لما يحتمل أن تتعرض له، من ظروف قاسية، لن تكون بحال أقسى مما هي عليه الآن؛ فليس الغريب أن تأتينا الأنباء بمثل ذلك، بل الغريب أن يجيب المريشال بتان هذه الطلبات، ويستسلم للتهديدات، في وقت وضح فيه الطريق أمام الحلفاء، واتسعت فرجات النور وسط الظلام الذي كان مخيماً على أوربا عند عقد الهدنة بين الفرنسيين والألمان.
إن العوامل التي ترغب الفرنسيين في استئناف القتال، وتحفزهم إلى تجديد النضال، كثيرة وعديدة. تجد هذه العوامل في ثبات البريطانيين، وظهور قدرتهم التامة على الوصول بالحرب إلى نتيجة مرضية. وفي موقف أمريكا التي وعدت رسمياً بمساعدة الحلفاء مساعدة لا تسمح لدولتي المحور بالانتصار بأي حال من الأحوال؛ كما أن القانون الذي يطلق يد الرئيس روزفلت في العمل، على وشك أن يفوز بالإقرار في مجلس الكونجرس. وفي شجاعة اليونانيين، واستبسالهم في الهجوم في الميدان الألباني وفي الانتصارات الباهرة التي أحرَزتها الجيوش الإنجليزية في ميادين الحرب الإفريقية الثلاثة، مما يبشر بضياع الإمبراطورية الإيطالية قريباً. وفي موقف الدول التي لم تدخل الحرب بعد، ولكنها أعلنت في صراحة تامة عن عزمها على الدفاع عن كيانها ضد كل من توسوسه نفسه بمباشرة الاعتداء عليها. وأخيراً في روح الحماس البالغة عند أهل المستعمرات الذين يتحرقون شوقاً إلى ملاقاة العدو، والانتقام للشرف الفرنسي من هزيمة يونيو من السنة الماضية.
وإذا تركنا كل ذلك، نجد أن لفرنسا قوة مادية في أسطولها، وفي مستعمراتها كفيلة بترجيح كفة الحلفاء إذا اختارت أن تستأنف القتال إلى جانبهم. وإذا عرفنا أن الخمسين مدمرة التي أرسلتها أمريكا إلى إنجلترا، كانت سبباً حاسماً في بعض الميادين، خصوصاً في ميدان البحر الأبيض المتوسط؛ فكم بالحرى يكون الفصل لمائة وخمسين مدمرة تملكها فرنسا. لا شك أن عدداً كهذا، يضاف إلى قوة المدمرات البريطانية، وما عساه أن يرد من أمريكا، وما تخرجه المصانع قريباً يكون له فصل الخطاب فيما هدد به الهر هتلر في خطبته الأخيرة من عزمه على مباشرة حرب الغواصات في الربيع القادم.
فإذا ألانت فرنسا قناتها، مع توفر أسباب الثبات، وأجابت الألمان إلى ما يطلبون؛ وقنعت بنصيبها الذي بذلته في هذه الحرب، وبنصيبها الذي قدر لها أن تنتهي إليه، من جرها في ذيل العربة الألمانية؛ فكيف يكون موقفها من مؤتمر الصلح القادم، عند ما تنتهي الحرب بنصرة الحلفاء!
أترضى فرنسا لنفسها، ويرضى كبرياء شعبها، وكبرياء قوادها، وفيهم أبطال فردون، وأبطال المعارك الهائلة في الحرب الماضية، أن تلعب اليونان، وبولندا، وهولندا، والنرويج، وتركيا، دوراً رئيسياً في هذا المؤتمر، ولا تستطيع فرنسا أن تمثل دوراً ثانوياً فيه! وإذا أجلستها إنجلترا إلى جانبها في مكان الصدارة من المؤتمر، فكيف يكون موقفهما فيما بينها وبين نفسها وهي تعلم الدور الذي قنعت بتحمله والقيام به.
لا شك أن كل ذلك، في جملته وفي تفصيله، وقد قدره المرشال وأعوانه حق قدره وحسبوا حسابه في المفاوضات الدائرة الآن بين فرنسا وألمانيا، في صدد المطالب المزجاة. ومن يدري! فقد يرى المسئولون عن مصير فرنسا من رجال حكومة فيشي، أن متاعب الحرب من جديد إلى جانب حليفتهم أقل من المتاعب التي تنشأ عن مزيد من التسليم، فيفضلوا الحل الأول على الثاني ويصلوا بدورهم في الحرب إلى النهاية المفروضة على أمثالهم.
وليس الغريب أن يقر قرارهم على شيء من هذا، بل الغريب أن يقف الفرنسيون جامدين، وأن يدوم تصميمهم بالتخلف في الطريق. وستأتينا (جهيزة) في الأيام القليلة القادمة بفضل الخطاب في هذا الشأن الخطير، عند ما يقول المرشال بتان كلمته النهائية في شأن المطالب الألمانية، وهي كلمة الشرف والإباء، والأنفة والكبرياء، على ما نظن، ويظن معنا الكثيرين.
(دار الأهرام)
يوسف شبل