مجلة الرسالة/العدد 396/من وراء المنظار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 396/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 02 - 1941



صاحب السلطان الزائل

أقبل فسلم في صوت كأنه الهمس، وأحسست ولم أكن عرفت بعد شيئاً من أمره روح المذلة في صوته؛ ومد إلى من نهض لتحيته يداً معرفة مرتعدة كأن بها استخذاء من أن تصافح الأيدي الممدودة إليه، ونهضت فيمن نهضوا فسلمت وأنا في حيرة من عبارات التحية توجه إليه مشفوعة بلقب (البك)

وأخذت نعته بهذا اللقب على أنه ضرب من المزاح، فكثيراً ما رأيت بعض المازحين في القرية ينادون بهذا اللقب رجلاً بلغت به الفاقة حداً جعله مضرب المثل في البؤس، وجعل لقب (البك) مضافاً إليه أكثر بلاغة فيما يتضمن من تهكم وفيما يثير من ضحك باستعماله هذا الاستعمال

ولكني لم أر للمزاح أثراً في وجوه الجالسين، بل لم أر فيها إلا التزام الجد والحرص على مظهر الاحتشام والسكون، وفهمت أن الابتسام يتقي بين الجلوس فيما يدور بينهم من حديث، فما تكاد تنفرج الشفاه حتى تنضم في استدراك سريع

واتجه منظاري إلى هذا البك الجديد، وأخذت أختلس النظر إليه، وكان كلما زدته نظراً زادني دهشة ذلك اللقب الذي يسبغ عليه في جد لا أثر للعبث فيه. وظللت أنظر إلى معطفه الذي تراكم عليه ما تراكم من آثار الزمن، وإلى جلبابه الذي لم أعرف ماذا كان لونه قبل أن يعلق به ما علق من تشويه، والذي راح يستر خروقه بأطراف ذلك المعطف الذي يعد تسميته بالمعطف وهو على تلك الحال من قبيل تسمية صاحبه بالبك. . .! أما طربوشه، فقد اتسق في هذا النظام اتساقاً بليغاً، إذ كانت اسطوانته من لون وقرصه من لون آخر، غير أن أحد جانبيه أكثر كدرة من الجانب الثاني، وإن كانت تلك الألوان جميعاً بقايا حمرة زائلة

وعرَّفه إليَّ وعرَّفني إليه أحد الخبثاء الذي أخذ ينظر إلى منظاري، وكأنه كان يرى فيه - كما حدثني بذلك بعد - آلة تصوير، وما كاد يذكر لي اسمه حتى ذهب اللغز من ذلك اللقب الذي لقب به؛ وقلت في نفسي: أهذا هو الذي سمعت من أخباره ما سمعت؟

وتزاحمت في ذهني صور ما علمت من أنبائه، وبرزت من بينها صورة كانت بين غيره من الصور، كما يكون المارد بين الأقزام. فهذا الرجل الذي أراه أمامي، هو بعينه الذي أشعل ذات ليلة دخينة لإحدى المغنيات في بندر قريب، لا بعود من الكبريت كما يفعل عامة الناس، ولكن بإحراق رقعة من الورق تركها حتى أتت عليها النار بعد أن أشعل بلهيبها تلك الدخينة. ولم تك هاتيك الورقة بذات قيمة كبيرة، فهي من فئة الخمسة جنيهات فحسب!

واضطجع صاحب السلطان الزائل اضطجاعه فيها بقايا الكبرياء، ونظرت إلى وجهه فرأيت في سحنته خيال تعاظمه الماضي، واستكباره يحيط به خيال استخذائه الحالي ومسكنته. والحق لقد كانت نظراته مزيجاً عجيباً من العظمة والمذلة والرضاء والضجر والخجل والتبجح، ثم كان وجهه الشاحب يذكرني بتلك الصورة التي كانت تعلق على الجدران لمحاربة (الكوكايين)!

ووجهت إليه بعض عبارات التحية فرد في هدوء واتزان وهو ينظر إليّ نظرات من يريد أن يستوثق من صدق تحياتي، كأنه لا يصدق أنه اليوم أهل للتكريم بعد أن هلك عنه سلطانه. على أنه ينتمي إلى أسرة معرقة لا يزال لبعض أفرادها جاه عظيم وثراء، وإن كان ثراؤها لا يبلغ اليوم في مجموعه عشر ما كان لها منه بالأمس. ولعل خيال ذلك الجاه الباقي في أسرته هو الذي يجعل الكبرياء تتغلب في وجهه أحياناً على الاستخذاء وإن كان الاستخذاء قد بات وهو طابعه الجديد

وقدم إليه أحد الجلوس دخينة فتناولها في صورة عجيبة وفي وجهه إمارات توحي بأنه يفهم من هذه التحية أنها ضرب من إعطاء المحروم، وعلى شفيته ابتسامة تصور هذا المعنى وتبرز ما في قرارة نفسه منه. وأيد ذلك لي إسراعه بإخراج علبة الدخائن من جيبه وتقديمه دخينة إلى من سبق فقدم إليه مثلها، ثم إنه تقدم في خفة وظرف فيهما طيف أريحيته الماضية فأشعل الدخينة لصاحبه ولكن بعود من (الكبريت). . .

وأردت أن يتكلم لعل الحديث يميل به إلى الإفضاء ببعض ما يقوم في نفسه من هذه الحال التي تدلي إليها بعد عزة، ولكنه لزم الصمت، وكان صمته أيضاً يجمع بين الحياء والاستعلاء. . .

ودخل علينا شيخ من أهل القرية فما وقعت عيناه على ذلك البك حتى أقبل عليه في اهتمام شديد وهو لا يفتأ يكرر قوله: (شرفت بلدنا يا بك! أهلاً وسهلاً بابن الأكابر. دي البلد كلها منورة بوجودك فيها! الله يرحم والدك البك الكبير)

وأخذ ذلك الشيخ يفيض في وصف سجايا البك الكبير وأبهته وجاهه، ويحكي في ذلك الحكايات الطويلة، ويذكر الضياع التي عمل فيها بأسمائها، ويقارن بين ما كانت تخرجه من خيرات هاتيك الضياع، مستشهداً برأي البك الصغير كأنها لا تزال ملك يديه يتمتع بخيراتها جميعاً؛ ثم تنهد ذلك الشيخ وختم حديثه في سذاجة محبوبة قائلاً: (هيه سبحان من له الدوام! يا ابني ما تزعلش أنت ابن الأكابر على كل حال، وعندنا إحنا يا فلاحين نقول إن دبلت الوردة ريحتها فيها).

ومضى الشيخ وأنا أفكر فيما ضرب من مثل، وأنظر إلى تلك الوردة الذابلة فلا أحس من سابق رائحتها فيها، ويتملكني الإشفاق حيناً، ولكني أذكر الورقة ذات الجنيهات الخمسة وأتصورها مشتعلة في يده فينفي الإشفاق من قلبي شعور يكاد بقرب من الشماتة لولا أني أكره الشماتة، شعور هو في الواقع إحساس خفي بعدالة الجزء وتطابق الجريمة والعقوبة.

ولما ذكر أمامي اسم البك الكبير وذكرت ثروته الهائلة التي انتهت إليه هو أيضاً من والده، وموطن هؤلاء وأسرتهم الكبيرة قرية تقع غير بعيد من قريتنا، عجبت كيف بدد هذا البك الصغير الماثل أمامي أو هذا الشيطان الكبير ثروة أبيه على هذا النحو حتى لم يبق له منها إلا الذكرى.

وتكلم أخيراً صاحب ذلك السلطان الضائع، وكأن حديث ذلك الشيخ أثار شجونه، وأخذ يصف لنا كيف كان يعيش، وهو لا يدري أنه يسرد علينا قصة سفهه! ولعله كان يحس إن لم يبق له من الثروة إلا فخاره بما كان له من ثروة، إن كان ذلك من دواعي الفخار، ونسي سكونه الأول فأطنب وأفاض في غير تحفظ أو استحياء. ومن درر حديثه قوله: (يا ما شوفنا عز! دا الواحد كان يأخذ معه ألف جنيه إلى الإسكندرية فيعود بعد أسبوع ما فيش في جيبه غير أجرة الوابور. . . دا أنا كنت هرون الرشيدي اللي بيقولوا عليه).

وقلت وكان ذلك المال من إيراد أملاكك طبعاً، فلتعثم قليلاً وقال لو كان ذلك المال من إيراد أملاكي ما ضاعت أملاكي؛ إنما كان بعضه من الإيراد وبعضه من البنك، وآه من البنك. . . آه من البنك!.

وإذ ذكر لي البنك ذهب من نفسي كل عجب، فكم استدرج البنك من أمثال هذا الذي ورث ما ورث فلم يشعر بقيمة ملكه حتى ذهب عنه كما جاء إليه. ثم سألته عن مصير هذا الضياع فقال أخذها الخواجة خريستو تاجر القطن. وأحزنني أن يمتلك مثل خريستو من ثري هذا الوادي أرضاً أولى بها بنوه، أرضاً كانت تكفي لأن يعيش عليها أكثر من مائتي أسرة من تلك الأسر التي تكدح صابرة في وهج الشمس وتسقى بعرق جباهها تربة وادينا ولا تمتلك الواحدة أكثر من فدانين أو ثلاثة فدادين.

وسألته عن شعوره إذا مر اليوم بهاتيك الضياع. ولشد ما أدهشني قوله إنه لم يرها كلها، وأنه لا يعلم إلا موضع ما كان يحيط بقصره منها؛ فلقد كان أمر زراعتها وتعهدها مفوضاً إلى نظاره الثلاثة الذين يمتلك الواحد منهم اليوم ما لا يقل عن ثلاثين فداناً، من أرض أجداده.

وكان مجلسنا هذا في دكان بدال. ولما هم البك بالانصراف طلب من التاجر أشياء ولكن التاجر نفي وجودها عنده. فلمحت عينا البك بعض الأصناف المطلوبة على رف من الرفوف فأشار إليها قائلاً: (أمال إيه ده؟) وأجاب التاجر بأن غيره دفع ثمنها وسيرسل في طلبها. وضحك صاحب السلطان ضحكة مُرَّة وهو يهز رأسه قائلاً: (هيه. . . طيب! السلام عليكم) ثم خرج وتنفس التاجر الصعداء.

واتجه إلينا ذلك التاجر وقال في لهجة اعتذار: إن قريبه فلان بك الذي ينفق عليه أمره إلا يعطيه شيئاً إلا بإذن كتابي قال: (دا مسكين ضيع كل ما يمتلك في المكيفات، اللهم احفظنا وباع عفش بيته. وهل تاب بعد كده؟ لا، دا صنف لا يستحق النعمة).

ومضيت وفي نفسي كلمة التاجر الأخيرة وأنا أحدث النفس قائلاً كم ذا بمصر من هذا الصنف الذي لا يستحق النعمة!

الخفيف.