مجلة الرسالة/العدد 392/هو عيد الميلاد ولكن أي ميلاد؟!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 392/هو عيد الميلاد ولكن أي ميلاد؟!

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1941



للدكتور زكي مبارك

كان من حظ المسيحية أن يُبعد مكانها في التاريخ، لتكثر فرص الشعر والخيال حول ميلاد المسيح، عليه السلام، حتى جاز لفريق من المؤرخين أن يرتابوا في شخصية المسيح، كما ارتابو في شخصية سقراط (؟!)

والارتياب في وجود تلك الشخصية النبوية لا يضر ذلك النبي في كثير أو قليل، ولكنه يؤدي إلى غاية لم يفطن لها أولئك المرتابون، وتلك الغاية هي التحقق من ظمأ الإنسانية إلى نور يُطلّ من علياء السماء. نور جميل جذاب يبدد ما في الضمائر من ظلمات الجحود

ولنفرض جدلًا أن الرأي ما رأى أولئك المؤرخون، وأن الإنسانية هي التي ابتدعت ذلك الميلاد، فكيف اختارت هذا الوقت من السنة وهو طليعة الشتاء؟ إن الذي اشتغل بالفلاحة يدرك ان الأرض في هذا الوقت تعتلج بقوة وعنف، وتتهيأ لثمرات العام المقبل بلذه وشوق، وهي في (الظاهر) غافية، ولكنها فيالباطن جذوة من اليقظة العارمة والإحساس الفوار في هذا الوقت تنظر الأرض إلى البذور وهي تقول: هل من مزيد؟ في هذا الوقت تستيقظ الأشجار التي جردها الخريف من الأوراق، ولو شرحت تلك الأشجار لظهرت عناصر (البزور) وهي الأثداء التي يرضع من رحيقها الورق الجديد في هذا الوقت تلقى بذرة فتنجح وتلقى بذرة فتخيب، لأن الأرض في هذا الوقت تحيا حياة عصبية، والحياة العصبية لاتعرف التدليل، فهي لاتقبل من البذور إلا ما يقوي على دفع عوادي البرد والجليد، ولن يكون الأمر كذلك بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ الميلاد، فحينئذ ترق الأرض وتلطف فتحضن البذور الضعيفة بترفق واستبقاء فهل فهمنا الآن كيف اختارت الإنسانية هذا الوقت لتاريخ الميلاد، على فرض أنه تاريخ مصنوع، وعلى فرض أن البحث من حيث هو بحث يسمح بالنظر في الفروض، بدون اعتداء على مقام المسيح، عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات؟! أما بعد فقد كان لي مع هذا التاريخ تواريخ كنت أحمل باقات الأزهار وطرائف الهدايا إلى مآلف القلوب والأرواح يوم كان لي قلب وروح، قبل أن تدور الدنيا من حولي بإفكها المرجف وبغيها الأثيم، وقبل أن أعرف أن شجرة الحب كشجرة الميلاد فيها أوراق صناعية لا تحس ما يحيط بها من أضواء وألوان، ولا تقدر على نق القلب من مكان إلى مكان وما أقسى الصحوة من غفوة العقل! وماأشقى العقلاء! لو كانت أرادت ما أريد فأطالت في غوايتي لعرفتها أكثر مما عرفت، لأن المحب المفتون يتغلغل إلى السرائر، وإن اتهم بالغفلة والجمق، ولأن العاشق الجاهل قد يرى المحاسن قبل أن يرى العيوب، والتثقيف الصحيح هو الذي يروضك على النظر في المحاسن قبل النظر في العيوب، ولو قويت جوارحنا حق القوة لأنسنا بجميع الوجوه وجميع الأشياء، ولكننا مع الأسف نتلقى دروس الحياة عن المعلولين والضعفاء، والتلميذ صورة الأستاذ في أكثر الأحايين كانت لي غاية من الهتاف بالحب، والهيام بالجمال، فما هي تلك الغاية؟ كنت أرجو الطب للنفوس العليلة التي لا تستريح إلا إلى شكوى الزمان كنت أسمو إلى خلق البشاشة والأريحية في صدور هذا الجيل كنت أحارب النزعة الأثيمة التي تقتل الأرواح والقلوب باسم الوقار والعقل هل سمعتم بقصة الشيخ خليل؟ هو رجل من علماء المالكية كان يفتخر بأنه لم يخرج من الأزهر مرة واحدة ليرى النيل، ولهذا الشيخ أحفاد وأسباط في العقلية، وأولئك الأحفاد والأسباط هم السوس الذي ينهش عظام الأخلاق - إن صحت هذه العبارة المجازية - فأخطر الآفات أن تصدر النصيحة عن رجل خمد فعقل، لأن الناس يسمونه بالعقل ولا يسمونه بالخمود، وكذلك يتلقون عنه درس الموت وهم يتوهمون أنه يدعوهم إلى مزاحمة الأحياء إلى متى الصبر على هذا الفهم السقيم لمعنى الأخلاق؟ ومتى ندرك أن الخلق من صور الحركة، وليس من صور الركود؟ الخلق جارحة من الجوارح، وما سميت الجوارح جوارح إلا لقدرتها على السيطرة والامتلاك، فالعين التي لا تجرح ليست عينا طبيعية، وإنما هي عين صناعية، إلى آخر القول في وظائف الأعضاء، أو منافع الأعضاء، كما كان يعبر الأقدمون ولكن من الذي يسمح بعد هذا الكلام دعوة إلى الخلق الصحيح؟ وكيف يعيش المتوقرون والمتزمتون إذا استمع الناس لمن يقول بأن الابتسام للحياة من شواهدالعافية الأخلاقية؟ إن الشرق مبتلى بالانحراف في فهم الأخلاق، فهي عنده سلب لا إيجاب، وهو يفكر فيما يترك قبل أن يفكر فيما يصنع، والنواهي والزواجر هي عنده الهدف الأول حين يتسامى إلى الاتسام بكرائم الحلال فما أصل هذا الإنحراف في فهم الأخلاق؟ لعل هذا الإنحراف يرجع إلى المعلمين، وكان التعليم مهنة مقصورة على الرهبان وأمثال الرهبان. فالخلق في أذهانهم هو انحسار واحتجاز وانقباض، ومن هنا يؤخذ المعلم بقيود لا يؤخذ بها غيره من طبقات المجتمع، لأن الرهبانية مفروضة عليه وأن لم يخطر في باله أنه مشدود إلى حظيرة الرهبانية. هو يحمل أعباء ميراث ثقيل من التبعات والتكاليف، ميراث يرجع إلى العهد السحيق يوم كان الناس يتوهمون أن كلمة الخير لاتجيء إلا من مصدر مجهول، ويوم كانسدنة الهياكل ينتفعون بهذه الغفلة العقلية فيتحدثون من وراء حجاب باسم السماء، وما تكلمت السماء، وإنما تكلم ناس مبرقعون خلقوا من الوحل لا من الطين! وبفضل تلك العقلية أنكر قوم أن تكون النبوة من حظ رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وهي عقلية باقية إلى اليوم، وإن زعمناس أنهم سلموا من دائها الوبيل لقد كثر المؤلفون في الأخلاق، فماذا صنعوا؟ هل غيروا ما بنفس الأمة من الفهم المنحرف لمعنى الحياة؟ هل راضوها على التخلق بأخلاق العصر، ولكل عصر أخلاق؟ هل استجابوا لدعوة العزةالروحية والعقلية فخلقوا الشوق إلى مسايرة ما في الآفاق العالمية من الصيال بين الأرواح، والصراع بين العقول؟ علم الأخلاق يدرس منذ أعوام طوال في معاهدنا العالية، فأين محصول تلك الدروس؟ كل ما وقع هو التلخيص لمشكلات أحسها بعض الأخلاقيين في الغرب، والأخلاق إحساس لا تلخيص، وفي الشرق مشكلات غير تلك المشكلات، لأن له أمراضا غير تلك الأمراض؛ ومن أمراض الشرق أن تجوز فيه الأستاذية الأخلاقية لناس لم يتمرسوا بمعضلات الوجود تلك خواطر ساقها ما وقعت فيه ليلة عيد الميلاد، فقد أخلفت موعدا لايخلفه الرجل إلا وهو مكروب، وهو موعد يذكر بإخوة له من قبل، يوم كنت مشبوب الصبوة في منادح باريس، عليها أطيب التحية وأجزل الثناء! وبماذا اعتذرت؟ قلت إني أحبر مقالا لإحدى المجلات، وهل يصعب الاختراع على من يعايش أبناء هذا الزمان؟! ومضيت وحدي أجوب الظلمات بعد إخلاف ذلك الميعاد، فراعني أن أجد في قلبي فراغا عميقا مخيفا يذكر بالفراغ المنصوص عليه في بعض الأحاديث، ففي الآثار أن الجاني قد يهوي في قاع جهنم سبعين خريفا، وكان قلبي كذلك، فلو هويت في أعماقه سبعين سنة لما وصلت إلى قرار مكين. وكيف وقد أعفيته من ثورة الوجد في ليلة عيد الميلاد، فلم يمس إلا وهو فضاء في فضاء، وتلك حال القلبالخالي من الأهل، والوجد أهل، ولكن أكثر الناس لايفقهون! ورجعت إلى داري بعد لحظات، وكان في نيتي أن أطوف بأرجاء القاهرة إلى نصف الليل، رجعت سليم القلب من الأسواء ولا يسلم القلب من الأسواء إلا وهو عليل، فالقلب كالطفل، لا يقبل على اللعب إلا في أوقات العافية، وإن جهل ذلك علماء الأخلاق وأردت أن أطب لقلبي فذكرته بما مر في العام الماضي من مكاره وعقابيل، ودعوته إلى النظر في قصة الصديق الذي كنت أشرب على ذكراه أكواب الدمع، وهو اليوم لا يذكرني حين يعاقر أكواب الصفاء. وذكرت قلبي بإحساني إليه حين جعلت له ماضيا في الصداقة والحب، فذلك الماضي وهو الأحجار التي بنينا بها وجودنا الصحيح، وجود القلب الخافق والروح العطوف، وهو الشاهد على أن حياتنا لم تخل من نوازع وأهواء، وأن لنا تاريخا في معاقرة الحقائق ومقارعة الأباطيل فهل وقع هذا المنطق من قلبي موقع القبول؟ إنه لم ينكر أنس الرجل بماضيه في الصداقة والحب، وإن زلزلت الأرض زلزالها فغيرت جميع المعالم من ذلك التاريخ ولكنه أنكر الاكتفاء بثروة الماضي، وإن امتلأبنمير الذكريات العذاب، فما كانت الذكريات إلا ومضة البرق لعين الساري الحيران، وهي ومضة تزيغ عينيه ولا تهديه، وهي ايضا تزيد حقده على ظلم الوجود وعمدت إلى القلم أثير به معركة أدبية، فقد كنت أعرف أن قلبي يكتحل بغبار المعارك التي يثيرها قلمي، فما نفع ذلك بشيء، وصاح القلب: هذه ليلة الميلاد، فأين الميلاد؛ أين الميلاد؟ وكيف؟ هل يجب أن أولد في هذه الليلة كما ولد المسيح؟ وهل أولد في كل سنة مرة، وما ولد المسيح إلا مرة؟! فأجاب القلب في حزم عنيف: يجب أن تولد من جديد في كل لحظة، لأن المقام على حال واحد يفسد مياه الأنهار، فكيف تراه يصنع بأفكار الرجال! _ولكن ليلة الميلاد قد ضاعت علي وعليك، ياقلبي! _إن ضاعت ليلة الميلاد فقد بقي يوم الميلاد وفي الصباح هتف الهاتف_وهو التليفون كما كان يسميه أهل لبنان_والهاتف روح لطيفة كانت بيني وبينها أشياء، وقد قدمت من بلد بعيد لتراني يوم الميلاد، فهتفت: ياقلبي يومي ويومك عيد!! وخرجنا معا، أنا وقلب، لاستقبال تلك الروح، وقد ولد الهوى من جديد، الهوى الذي ظلمناه باسم الوقار والعقل، وطال الحديث وطاب حول ما كنا عليه، وما صرنا إليه، ومن شرب من عيون تلك الظبية ما شربت لا يقول إنه رآها في يوم الميلاد، وإنما يقول إنه رآها في أبد الخلود! وعادت تلك الظبية إلى ضلالها القديم فأمرتني أن أكتب ما يجيش في صدري وأنا في حضرتها السامية، وهو امتحان أؤديه كلما التقينا، وحياتي كلها امتحانات! فامتشقت القلم وكتبت: باسم الله الذي أقسم بالقلم وما يسطرون أسجل هذه الكلمات: عنيت الحكومة المصرية كما عنيت سائر الحكومات بتدبير معاشات الموظفين، بحيث يجد الموظف ما يقتات به بعد بلوغ الستين، ولكن الحكومة نسيت أو تناست أن في الأمة رجالا لهم خدمات صوادق وليسواموظفين فليس لهم معاش، وهم الرجال الذين انقطعوا للصحافة والتأليف؛ فالأستاذ فلان خدم الصحافة نحو عشرين سنة ثم هده التعب، فهو اليوم يعاني البطالة والمرض بلا عائل ولا معين. والأستاذ فلان أخرج طائفة من المؤلفات الجياد، وكان يعيش عيش الفقراء من تلك المؤلفات، وهو اليوم لا يقدر على التأليف، فهو في فقر مدقع ولا يسأل عنه أحد من أصحابه القدماء. وفلان كانت له سابقة في الابتكارات الأدبية، وهو اليوم معوز لا يجد القوت الطفيف. وفلان قضى شبابه وكهولته في التدريس بالمدارس الحرة ثم قصمه المرض فخرج بلا معاش وله أطفال يصرخون من الجوع في كل صباح وفي كل مساء وعند هذه الكلمة شرقت بدموعي، وكاد صوتي يرتفع بالنحيب، فصاحت الظبية:_تبكي وأنا معك؟ هل تقص ما كان بيني وبينك؟ ويلي عليك وويلي منك!! _نعم، يا شقية، هي قصة حبي، فدعيني أدون كل شيء! ثم مضيت فكتبت والدولة التي تنفق ما تنفق على مختلف الشؤون لا تذكر أن في مصر كتابا وشعراء وباحثين أعجزهم المرض عن السعي في سبيل القوت، ولهؤلاء آثار ظاهرة أو خفية في نهضة الأمة وقد يكون لهم تلاميذ_ولو بالفكر_من بين كبار الوزراء فما الذي يمنع من أن تفكرالدولة في حماية هؤلاء من قسوة الاحتياج ثم سكت، فقالت الروح: هل وصلت في مكايدتي إلى ما تريد؟ فقلت: ستعلمين بعد لحظات! ثم كتبت: قد يقال إن الدولة لا تستطيع معاونة أهل الأدب بصفة رسمية، لأن الأدب ليس له رسوم ولا حدود، وهو مباح الحرمات يدعيه من يشاء! وأجيب بأن الدولة تستطيع أن تجعل الفصل في هذه القضية من اختصاص مدير الجامعة أو وزير المعارف ومن المفهوم أن هاتين الجهتين لهما دراية صحيحة بأقدار الأدباء والباحثين، وأنا أرضى بأن ترصد الدولة مئتي جنيه فقط في كل شهر لعشرين رجلا من هؤلاء، فإن استجابت الدولة لدعائي فقد ترفع عن كاهلي عبئا ثقيلا جدا، هو عبء التفكير في أديب كانت له جولات موفقة في ميدان البيان، وإن كان من ألد خصومي وغلبني الحزن فبكيت، فقالت الروح: يظهر أنني دللتك أكثر مما يجب، فعدت أسرع من الأطفال إلى البكاء! فاستمهلتها لحظة وكتبت: والدولة مع ذلك. . . ثم فكرت قليلا وكتبت. والدولة التي تترك بعض الأدباء يموتون من الجوع هي الدولة التي تمن علينا بأنها أنشأت وزارة للشؤون الاجتماعية! ثم؟؟ ثم أحسست يدا تصدني عما أكتب بقسوة وعنف، فعرفت، أني في حضرة تلك الروح، وأن المقام لا يسمح بمثل هذا الكلام الحزين_ماذا قلت في؟ _قلت إنك غبية وحمقاء! _أنت وحدك الغبي، وأنت وحدك الأحمق! _هذه كلمة حق، لأني قضيت عشرين سنة في خدمة أمة لا تعرف أن القلم له حقوقه_وما شأن القلم فيما بيني وبينك؟ _القلم هو الذي يجرني أحيانا إلى نحاورة الحمقى لأدرس الغرائز والطباع ليكن ما تريد، أيتها الروح، فإشارتك أمريطاع أما بعد، وسيطول شقائي بأما بعد! أما بعد فقد حدثني الشاعر حافظ ابراهيم مرات كثيرة أنه كان يتمنى الاتصال بقصر جلالة الملك ليكون سفيرا بين القصر الرفيع والأدب الرفيع وقد مات حافظ قبل أن يظفر بتحقيق تلك الغاية، ولم نسمع أن رجلا فكر فيما فكر فيه حافظ، ولم يصل إلينا من قرب أو من بعد أن ناسا يسرهم أن يكون للأدب حظ من الرعاية والتشريف بقصر الملك، مع أننا في عصر فاروق بن فؤاد بن اسماعيل لقد شقى قلمي في الدعوة إلى أن يكون للأدباء مكان في الحياة الرسمية، لأنهم عنوان الحياة وزينة الوجود، ولأن آثارهم هي الباقيات لصالحات فوق جبين التاريخ. ثم انتهى الحلم، حلم اليقظة في يوم الميلاد، ورجعت تلك الروح إلى بلدها البعيد، وبقيت حيث كنت أعاني بلاء الهجر وعناء الصدور أيها البلد الذي لا أسميه تخوفا من الرقباء! فيك أيها البلد الجميل روح لطيفة يصلني برها من وقت إلى وقت، فيك روح لا تحتفل بعيد الهجرة ولا عيد الميلاد، ولكنها تذكرني في عيد الهجرة وعيد الميلاد، لأنها تشعر باحتياجي إلى البر في مواسم الأرواح والقلوب أيتها الروح، أنا مشتاق إلى مصدر الوحي، فمتى تعودين؟ أنا في دنياي غريب، أيتها الروح، وأنت البلسم الشافي لوحشة الغريب هو عيد الميلاد، ولكن أي ميلاد؟ هو ميلاد الحب الصادق، فتلك أول مرة مسحت فيها دموعي بأناملك اللطاف، يا حجتي الباقية على أن الهوى إله معبود

زكي مبارك

2 - أومن بالانسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف الطبيعة تنتظر - عالم جديد من الفكر والحديد_حيوانات ووحوش حديثة_قدرة الفكر_الثقة بالانسان_كنوز مدخرة_حياة مريضة كل شيء في الطبيعة يبدو عليه أنه ينتظر غاية الحياة الإنسانية. . . ويبدوعلى الإنسان كذلك أنه ينتظر غاية مجهولة في حياته على الارض. . . كل شيء ينتظر بلوغ الإنسان إلى غايته، كما ينتظر كبار البيت بلوغ طفل عزيز. . . وكل شيء في البيت مسخر للطفل: يضحك له إذا ضحك، ويألم إذا تألم، وتعرض أمامه دواب البيت وحيوانه ودواجنه ولعبه وهكذا الطبيعة أراها تنتظر صابرة غير متململة أن يسير هذا الطفل الإلهي ويهتدي إلى الطريق المقصودة المرصودة. . . وهو لا يزال يتعثر ويذهب ذات اليمين وذات الشمال ويرتد وينتكس ويعترك ويحترب ويخلد إلى تراب الطريق يعبثفيه في ذهول وغفلة، لا يعرف كيف يمد بصره إلى حدود الأفق البعيد الذي يناديه: أنظر إلي دائما، واضرب بيديك ورجليك في العقبات والسدود حتى تصل وكان لعبثه عذر فيما مضى أيام كان يدور على نفسه وسط المبهمات والألغاز، وأيام كانت طريق حياته بهماء معتمة تلفها جهالات وتحيط بها أهوال. . . كل ما فيها غامض مغلق، سواء أكان جامدا أم صائتا أم ناطقا أم ساكتا. . . فهو لا يرحم سئلا ولا يجيبه. . . كهوف وأغوار ورياح مجهولة المهاب، وأمطار غير مدفوعة بتدبير، وصرخات وحش وطير وبهائم، ونجوم تطلع وتغور، وشمس تشرق وتغرب، وجبال واقفة لا تريم ولا تزول، ومالا عدد له من الأهوال والأحوال. ولكنه الآن راكب الريح والماء والأثير وطاوي الأرض في خطفات، ورائد السماء بالمقربات، وكاشف الجن المستور بالمكبرات، وقايس أبعاد النجوم وأضواءها بدقيق المقايسات، وصانع الحيوان والوحوش الحديدية من السيارات والدبابات والمدافع والطائرات والباخرات والغائصات، فلا يليق به أن يصر على العبث والزحام على التراب بعد رأى الكنوز في كل أفق تتفتح لعينيه وكان قدرا مقدورا أن تبقى العناصر والحيوانات خادمة له حتى يبلغ أن يستغنى عنها بما يصنعه تقليدا لها ومحاكاة لنماذجها. . . فحين عجز الحصان وضاقت طاقته عن إشباع شهوة السرعة عنده ركب آلات سرعتها كذا ألف من الأحصنة. . . وحين عجز الزيت والشمع عن إشباع شهوته للضوء صنع مصباح الكهرباء فأضاء له بقوة كذا ألفا من الشموع. . . وحين هدد بفناء أقواته ولباسه ابتدأ يركب أقواته من العناصر التي يتركب منها النبات واللحم. . . وصار يصنع الصوف والحرير من اللبن والخشب. . . وصار يأخذ الزبد والدهن من ال. . . بعد أن يحلل ويعزل ويطهر بالترشيح والتبخير والتكثيف كما ترفع الشمس والهواء الغازات والأمواه المقطرة من الأبوال والأقذار وتعيدها إلى الأرض صالحة في دوراتها الأبدية. . . وقد رصد لكل قوة في الطبيعة مقياسا يقيس قوتها ويبين اتجاهها حتى يحترس منها ويتقي وينتفع. . . فللأمطار مقياس، وللضغط الجوي مقياس، ولاتجاه الرياح مقياس، وللزمان مقياس، وللمكان مقياس، وللحرارة والرطوبة وغيرهما مقاييس وأظنه بهذا قد وضع عينه وفكره على حركة كل شيء واتجاه كل شيء في المادة. وذلك كله بمثابة خيوط الشبكة الحديدية التي ابتدأ يطرحها على قوى الطبيعة التي تنفعه أو تضره في مرافق حياته. . . وهذه الأرصاد التي أرصدها لابد ستنتج له عالما فكريا جديدا يسلم روحه إلى عالم خلقي جديد وأعتقد أن هذه الحرب ابتداء دورة زمنية بالإنسان وبعوالم فكره وروحه وجسمه. فليرصد الراصدون ذلك في يقظة وانتباه أجل، إنه عالم جديد من الفكر والحديد. . . الفكر المطلق البارد القانص لأسرار المادة والقوة. . . والحديد الطائع البليد القاسيالمتمم لإرادات الرجال. . . الذي وجد فيه القلب الإنساني أعظم معبر عن بأسه وتصميمه في اختراق السدود فصهره وشكله بنار عزمه قبل أن يصهره بنار كيره ويشكله بمطرقته ولقد ضمرت أظفار الإنسان منذ أن اعتمد عليه. وكان كشفه مبدأ انقلاب في حياته، والآن يبتدىء به انقلابا أعظم بعد أن سلط عليه خياله وعلمه وصار يطير به ويزحف ويدفع ويجر وهل تظنون أن هذه الأهوال التي يشهدها الإنسان الآن لا تترك في نفسيته آثارها المحتومة فتخلقه خلقا آخر؟ أتظنون أن قلبه وفكره لا تغيرهما رؤية هذه الطكرق الحديثة في البناء والإفناء والهدم والسرعة والانقضاض والحشد والتعبئة ومعاشرة هذه الوحوش والحيوانات الحديدية؟ إن من شهد تغير العالم بعد الحرب العظمى التي أظهرت قوة الآلة واختفى وراءها الإنسان يوقن أنه ستختفي بعد هذه الحرب أشياء وتظهر أخرى. . . وأخشى ألا يقام للحياة الفردية بعد هذه الحرب وزن بعد أن رأى الفكر أن ملايين من الجماجم والقلوب البشرية تسحق وتحرق بمصهور النار. . . وملايين من المعابد والمعاهد والمنازل المقدسة العامرة بالتحف ومخلفات العلم والفن والجمال تنسف وتذرى في الريح هشيما وهباء ودخانا لقد احترق الإنسان الأوربي مع جميع ما جمعه من الذهب وأقامه من البيوت والمحاريب والتماثيل. . . ولقد اختفت روح الحياة الرفيقة الوديعة الماثلة في اللحم والدم والأعصاب الإحساس وابتدأ عالم جديد من فكر مجرد غير مصحوب بإحساس وقد لبس الفكر أجساما من المادة العمياء، وكأنه قد انفصل عن الأجسام الإنسانية، واختبأ واستسر في السيارة المصفحة والدبابة والطائرة. وصار يدب ويطير بهذه الأجسام الحديدية كأنه هو والحديد الذي يختفي فيه جسم واحد. فهو للآله كالروح والعقل في الجسم الحي. وقد صنع للآلات أحشاء فيها حرارة ونبض، ولكن ينقصها السر الإلهي فيالأميبة ذات الخلية الواحدة، ويخيل إلى أن الإنسان هو ذلك الإلهي لتلك الحيوانات الحديدية وحين قصرت دواب الأرض التي سخرها في خدمته عن سرعة عقله صار يبحث عن القوى المجردة كالكهرباء ويلبسها أجساما من الجماد، ويسيرها بها بطاقة عظيمة مصحوبة بفكره وتسديده. فترى السيارة الآن تحيد عن العقبات بأسرع مما يحيد الحصان عنها. فهي أطوع للانسان من الحصان، لأنها ترى بعينه وتتحرك بسرعة فكره والفكر المجرد طليق في غير حدود. والوجدان والإحساس مقيدان في حدود الأذواق والمشاعر. فإذا لم يصحب الفكر بالوجدان والإحساس اختراق الإنسان به الآفاق في سرعة فائقة كأنه شعاع ثاقب، بل أسرع من الشعاع. بل ليس شيء أسرع من الفكر ولقد يخيل لفكر الإنسان أنه يستطيع أن يضع يده في النار فلا تحترق، ويمشي برجليه على الماء فلا يغرق، ويسلم جسمه للريح فيطير، وينظر بعينه وراء السدود فيرى ما وراء الآفاق. فالفكر لا يرى كل أولئك مستحيلا. . . ولكن الوجدان والإحساس يقيدانه بالحدود الموضوعة للمادة، ويهددان الجسم بالألم إذا لم يعترف بهذه الحدود والقوانين وقد خيل الفكر لبعض السفسطائيين اليونانيين قديما أن كثافة الأجسام وهم من الأوهام، وأقام الدليل النظري لمعارضيه على ذلك، فتحدوه أن يخترق بجسمه الجدار الذي أمامه، فقام واندفع إليه بقوة، وكانت النتيجة المحتومة: تحطم جسده وفدخ رأسه. . . إن فكر السفسطائي لم يخطيء في توهمه استطاعة اختراق لبجدار، ولكنه أخطأ حساب الوجدان والإحساس. والحقيقة أن الفكر لا حدود له ما دام يسير وراء القوانين الطبيعية. . . فلقد استطاع أن يخترق الجدران والجبال بالصوت والصورة والحركة حين خضع للنواميس الطبيعية فخضعت هي له كذلك. ولست أدري أقريب أم بعيد ذلك اليوم الذي يستطيع الإنسان فيه أن يخترق الأجسام بالأجسام مع وجود الالتئام وعدم الصدام، وأن ينقل الأجسام من مكان إلى مكان كما ينقل الصور والحركات والأصوات، وبالسرعة ذاتها التي يجري بها هذه المعجزات. . . إن الثقة بالعقل الإنساني بعد أن فعل ما فعل في تغيير الأرض ينبغي أن تكون من البدائه للانتفاع بها في بناء الحياة الجديدة. . . وكما آمنا بعلم الطب لتنظيم حياة الأجسام ينبغي أن نؤمن بعلم النفس لتنظيم حياة الأرواح وقد كان الإنسان في الحقب السابقة منزوع الثقة بنفسه لكثرة ضغط عوامل الطبيعة عليه وكثرة العقبات التي تعترض سبله وتجعله يشعر بحقارته وضعفه وسط عظمة الأسباب والقوى الطبيعية. . . ولكنه بعد أن تمكن من صنع كل شيء لنفسه والانتفاع بأكثر القوى، والمناعة ضد الأوباء والطوفان والقحط والصواعق يجب أن يكون إيمانه بعقله إيمانا أصيلا ليصنع به مستقبله صنعا يريحه ويرقيه ويجعله يتفرغ للفكر فيمن خلقه قادرا هكذا. . . إن الإنسان يأتي بأعمال عظيمة في صميم غايات الحياة وهو عنها غافل لا يدرك ماذا تكون نتائج عمله في مستقبله ومركزه. وإن مصانعفورد مثلا تخرج في كل ثانية واحدة سيارة كاملة! هذا جبروت وملكوت إنساني واسع يتفتح أمام عيون الراصدين لحركات الابن البكر للأرض! فهذه السيارات حيوانات حديدية تولد كاملة من أصلاب المصانع وأرحامها ولا تحبو ولا تدرج ببطء الطفولة وإنما تسير بسرعة الفكر الإنساني كما قدمنا في هذا المقال. . . وهي وأشباهها مما نتج من اللقاح بين الفكر والحديد قد ملأت الأرض وأدللت دولة الخيل والبغال والإبل، وصيرتها أشياء أثرية يوشك الناس أن يحتفظوا بها في المتاحف أو حدائق الحيوان. . . في كل ذرة رمل، وقطرة ماء، ولمعة شعاع، وخفقة نسيم. . . كنز مدخر لمستقبل الإنسان على الأرض. . . فليعرف ذلك الذين يشكون الفقر وشح المواد الطبيعية. أولئك الذين يثيرون الحروب من أجل الطمع والاغتصابأن تكون أمة هي أربى من أمة وليسلموا قياد الإنسانية لعلماء الطبيعة الذين يضربون معاولهم على كل منجم في الأرض والماء والهواء والشعاع ولنأخذ الحياة عريضة؛ بالانتفاع بكل ما في الأرض، وباستعمال جميع قوي الإنسان والجماد والحيوان، وباستخراج كل كامن من النبات والركاز، وباستنزال كل معلق من الشعاع والماء والهواء وبتوليد كل ما يمكن أن يولد من العناصر والقوى، وبوضع كل شيء أمام كل شيء لينشأ من الأوضاع المختلفة التي لا عدد لها حيوات جديدة معقدة لا عدد لها، يترقى بها الفكر والحياة ويغرز فيضهما وترحب بها آفاق النفس، ويظهر لنا بعدها أن الكون مليء بالأسرار وكلمات الله التي لا تنفد.

عبد المنعم خلاف