مجلة الرسالة/العدد 391/الأزهر وبعثاته العلمية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 391/الأزهر وبعثاته العلمية

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 12 - 1940



للأستاذ محمود الشرقاوي

في عدد الرسالة الأخير (390) كتب الأستاذ الدكتور محمد البهي مدرس علم النفس والفلسفة بكلية أصول الدين مقالاً فيه صدق كثير، كان عنوانه (شخصية الأزهر العلمية)

وقد قلت إن هذا المقال فيه صدق كثير، وهذا أكبر ما يمكن أن يُمدح به كاتب في هذا الزمن، وفي هذا البلد الذي فيه قول الصدق من أكبر العيوب ومن أكبر المعوقات للذي يريد أن ينجح وأن يصل إلى ما يريد يسلك له كل طريق

وقد أثار هذا المقال الجيّد الصادق في نفسي طائفة من الخواطر أعتقد أن فيها - هي أيضاً - صدقاً كثيراً وفيها صراحة، وهذا حسبي

عندما عاد فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر منذ سنوات خمس، كان من ضمن منهاجه الإصلاحي لتجديد الأزهر والتفكير الديني بعثُ البعوث من علمائه ومن أساتذته إلى أوربا، وكان ذلك في رأينا أجرأ ما أقدم عليه شيخ للأزهر وأعظم ما فكر فيه مصلح شرقي بعد الشاذلي باشا لتقويم الحياة العلمية في الأزهر وتوجيه التفكير الديني وجهة الحياة والنماء والإصلاح، وتقويم هذه الحياة العلمية وتوجيهه هذا التفكير الديني وجهة الخير، هما أمتن العُمد وأرسخ الأسس للإصلاح الشامل في مصر والشرق

وعلى هذا الأمل العريض قابلنا وقابل المخلصون من المصلحين اختيار البعثة الأولى من هذه البعوث الأزهرية إلى أوربا، وكانت بعثة فؤاد الأول إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا

وقام لوداعها فضيلة الشيخ الأكبر ومن خلفه العلماء والأزهريون، ثم خطبها وخطبهم أنه سيجعل الأزهر وتجديده ونماء غرسه الإصلاحي فيه وديعة بين يدي هذه الطائفة المختارة من رجاله ومن أساتذته؛ إذ يعودون من بعثاتهم وقد تلقحت ثقافتهم الأزهرية بلقاح جديد واستفادوا من جامعات أوربا طرائق تفكيرها ومناهج بحثها وخصائص إنتاجها العلمي

وكان جميلاً وكان حقاً ما تحدث به شيخنا الأكبر لو أن الأمور سارت إلى نهايتها كما بدأت

وقد سافرت بعوث الأزهر إلى أوربا واستقر أعضاؤها في باريس ولندن وفي برلين يدرسون في جامعاتها. ومضت سنوات خمس عاد بعدها فريق من أعضاء هذه البعوث وقد أتم دراساته فيها، وفاز بما قصد إليه من الألقاب العلمية والدرجات الدراس ومن قبل هذه البعوث أرسلت ثم عادت بعثة المرحوم الشيخ (محمد عبده) التي أرسلها الشاذلي باشا سنة 1931 إلى ألمانيا فدرست وفازت بما قصدت إليه من الألقاب والدرجات. وعاد هؤلاء وهؤلاء أساتذة في الأزهر يشرفون على توجيه الفرق النهائية في كلياته وتخصصاته، حتى قام بعضهم يتساءل عن شخصية الأزهر العلمية، ويريد أن يضع في الميزان إنتاج كبار العلماء وأن يحكم على القيمة العلمية لما ألف جماعة كبار العلماء

الأزهر محتاج إلى لقاح علميّ جديد وإلى ثورة فكرية جديدة وإلى أسلوب من البحث العلمي قائم على الإخلاص للعلم وحده، وعلى الشجاعة في سبيل العلم وحده، وعلى حب الخير للعلم وحده وللأزهر وحده. ولا يزال في الأزهر روح قوي راسخ من الرجعية والردة والعود لعهود الظلم والظلام. وما من أحد يستطيع أن يرفع الشعلة ولا أن يديم اطراد السير لهذه الخطوات البطيئة من خطى التجديد والإصلاح، سوى أعضاء هذه البعوث التي أرسلها الأزهر من خلاصة رجاله، ولهذا وحده أرسلهم وانتظرهم حين غابوا ورجاهم حين عادوا

وأعضاء هذه البعوث العلمية التي فهمت الروح العلمي في جامعات أوربا واستقام تفكيرها على طرائق البحث العلمي فيها، هم الذين يعرفون ويقدرون ما هي الشخصية العلمية، وما هو الاستقلال في التفكير، وما هو النقد الإيجابي، وما هي حرية البحث؟ وهم الذين يعرفون ويقدرون مما شهدوا في جامعات أوربا وفي حياة أهلها ما هي قداسة الفكر

فهم بما عرفوا وما قدروا وما أحسوا هم النواة الطيبة والبذرة المباركة النامية لبعث هذه الطرائق وهذا الروح العلمي في الأزهر. وهم الذين تنبعث من أفكارهم ومن نشاطهم ومن إخلاصهم لهذه الطرائق العلمية الجذوة الأولى لهذا الثورة الفكرية التي يحتاجها الأزهر، والتي بها وحدها يأمن الأزهر وتأمن الحياة الدينية في مصر ما تخشاه من طغيان الرجعة وردة عهود الظلم والظلام.

ذلك ما فهمناه وارتقبناه حين اختيرت البعوث العلمية من رجال الأزهر، ثم عادت لتقود فيه الطليعة من الرواد في حياته الإصلاحية الجديدة

فهل يرى الأزهريون أن هذه البعوث تكوّن فيه الآن (البيئة العلمية) الجديدة؟. . . وهل يرى الأزهريون أن لهذه البعوث طابعاً علمياً خاصاً تتميز به عن أشياخها الذين ذهبت هذه البعوث لتكمل بما ليس عند هؤلاء الأشياخ من فهم ومن ثقافة ومن تفكير؟. . .

وهل يرى الأزهريون أن هذه البيئة العلمية الجديدة لها (معسكر خاص يتميز بنشاط خاص وبأسلوب خاص، ويقصد في دراساته وفي إنتاجه وفي توجيهه التعليمي مقصداً خاصاً يقوم على حرية البحث وقداسة الفكر والشجاعة في مواجهة ما يلقون من عنت (المعسكر الآخر) القديم؟. . .

وهل يرى الأزهريون أن هذه البيئة العلمية الجديدة قد اجتذبت حولها مدرسة خاصة من تلاميذها ومن مشايعيها تكثّر بهم جيش الحرية والتجديد في الأزهر وتحصن به نفسها وقوتها من جيوش الرجعية فيه؟. . . وهي جيوش لها هجمات، ولها هبوب بعد كل سكون

نحن نسأل ولا نحكم. ولو أننا لا نرى دليلاً على أن البعوث الأزهرية (بعثة الشيخ محمد عبده ومن عاد من بعثة فؤاد الأول) قد أقامت في الأزهر مدرسة للتجديد خاصة ولا نهجت فيه منهجاً دراسياً ولا تأليفا خاصاً ولا لمَّت حولها معسكراً جديداً يرفع معها وبعدها شعلة النور في الأزهر، ولم يبد من آثار رجالها وإنتاجهم ما يدل على تميزهم على أشياخهم، وقد ذهبوا ودرسوا في جامعات أوربا لتكمل ثقافتهم بما ليس عند هؤلاء الأشياخ

نحن لا نرى دليلاً ولا شبه دليل على وجود شيء مما ذكرناه نحن عند ذلك أمام واحد من فرضين: أن تكون هذه البعوث لم تفد شيئاً مما درست في جامعات أوربا ولم ترتفع بتفكيرها عن أشياخها وعن زملاء أعضائها الذين لم يبعثوا ولم يدرسوا

وهذا فرض بعيد يوشك أن يكون ممتنعاً لما رأينا ونرى من تبريز هذه البعوث في دراساتها الجامعية وفي درجاتها العلمية التي نالت بها في أوربا وفي البحوث التي نالت بها ما نالت من الدرجات. . .

أو أن تكون هذه البعوث العلمية قد أفادت من دراساتها الأوربية عقلية جديدة حرة وتفكيراً جديداً حرَّا ومنهجاً في البحث جديداً حراً. وهذا ما نراه ونعتقد به

وعند ذلك لنا أن نسأل: لماذا إذن كانت هذه العقلية الجديدة الحرة عقيما، وكان هذا التفكير الجديد الحر متوارياً، وكان هذا المنهج الجديد الحر مهجوراً من هذه البعوث في دراساتها وإنتاجها وأثرها في نفوس طلابها. . .؟

لماذا لا يفيد أعضاء هذه البعوث بما أفادوا ولا يعلمون ما تعلَّموا. . .؟ وهل يتوجّه اللوم في هذا لهم أم أين يتوجّه. . .؟

يقول صديقنا الدكتور البهي في مقاله الذي فيه صدق كثير:

(فإلى أن تنشر رسائل جماعة كبار العلماء فينا - لأن عملهم وحده أمام التاريخ وأمام الحكم العدل هو الأساس الذي يبنى عليه الآن التقدير والاعتراف أو عدم الاعتراف بشخصية الأزهر العلمية - يجب علينا نحن الذين لم يصبحوا بعد من جماعة كبار العلماء إما أن نسعى في أن نطلع غيرنا على أبحاثنا الشخصية، وبذا نكون علماء، أو نعمد إلى تناول عمل الجامعيين بالنظر العلمي فنؤمن بما يدعونه أو ندلهم على موضع الدعاية فيه)

ونحن نرد عليه ما سأل فنقول:

إلى أن نرى أثركم وإنتاجكم وتجديدكم وما جعلتم في الأزهر من بيئة علمية جديدة وثقافة جديدة وحرية جديدة في البحث. سنقول إنكم لم تفيدوا شيئاً مما تعلمتم ولا تميّز لكم على من لم يبعث ولم يدرس في جامعات أوربا، أو أنكم لا تجدون من نفوسكم شجاعة ولا قوة لكي تكونوا منتجين ولا مقيدين

وذلك قول أقوله لصديقي كاتب مقال (شخصية الأزهر العلمية) وإلى أنداده أعضاء البعوث الأزهرية من أوربا

وقد كانت بعوث النهضة المصرية في أيام محمد علي الكبير وخلفائه سعيد وعباس الأول تكاد تكون في مجموعها من طلبة الأزهر. تعلّم رجالها ثم عادوا فكانوا روَّاد الحياة الجديدة والحضارة الجديدة في مصر كلها ثم في الشرق كله

ولكن الأزهر يبعث البعوث من رجاله ثم يعودون إليه يرجوهم لنفسه حياة جديدة وحرية جديدة وتفكيراً جديداً

فهل نجد عند رجال البعوث الأزهرية الجديدة هذه الحياة وهذه الحرية وهذا التفكير يبثّونها بين رجاله وبين أهله؟

وهل نجد عند الأزهر نفسه ما يمكّن لهذا البعوث أن تعمل وأن تنتج وأن تفيد؟

ذلك سؤال ندع الجواب عليه لمن يجيب!

محمود الشرقاوي