مجلة الرسالة/العدد 390/كتب لم أقرأها
مجلة الرسالة/العدد 390/كتب لم أقرأها
بريد الفراعنة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
وهذا كتاب إلاَّ أكن قد قرأته فإن قليلين من أدبائنا هم الذين قرءوه. وفي اعتقادي أنه لا عذر لأحد في مصر ألاَّ يكون ذا نصيب منه إما مترجماً أو ناقداً أو قارئاً أو حاثاً على ترجمته أو قراءته.
وهو كتاب يقع في جزأين ويشتمل على الترجمة الإنكليزية لوثائق فرعونية عددها أربعمائة يوجد من أصولها المنقوشة بالخط المسماري على لوحات من الصلصال 194 وثيقة في متحف برلين و82 في المتحف البريطاني و50 في متحف القاهرة، وبقية الأربعمائة مبعثرة في متاحف خاصة وعامة في حواضر مختلفة ومن بينها وثيقتان في نيويورك
هذه المجموعة تعرف باسم وثائق تل العمارنة. وأول عهد اللغات الأوربية بها في برلين حيث نشر العالم النرويجي البروفسور كنودتسون طائفة منها - هي كل ما كان معروفاً منها إلى عهده. وقد استغرق مجهوده في ترجمتها الفترة ما بين عامي 1907 و1914 وترجم هذه المجموعة إلى الإنكليزية العالم الإنكليزي البروفسور كلاي من جامعة ييل، وأفرد لها جزءاً من كتابه (نقوش اللغة السامية القديمة) وأضاف إليها شروحاً وحواشي وقدمها بمقدمة طويلة
وفي المدة بين عامي 1919 و1929 اشتغل الدكتور مرسيه أستاذ اللغات السامية وعلم المصورلوجيا بجامعة ترنتي - بترجمة ما استكشف من الوثائق بعد نشر مجموعة كلاي وأضافها إليها ونشرها وهو يظنها كاملة. ولكن ظهرت بعد ذلك ثماني عشرة وثيقة أخرى فاشتغل بترجمتها أيضاً بين عامي 1936 و1937، وأعاد نشرها فكانت هي المجموعة موضوع هذا الحديث
وقد تحدث عنها المستر ألبرت فيلد جليمور في عدد 21 نوفمبر سنة 1940 من جريدة الإجبشيان غازيت فقال:
(إن أهمية هذه الوثائق إنما تتضح لك إن تخيلت ما يمكن أن يحدث بعد أربعة آلاف ع من استكشاف مجموعة في مثل عدد هذه المجموعة من رسائل متبادلة بين رئيس جمهورية الولايات المتحدة وبين ملك إنكلترا)
قال: إنه إن حدث ذلك فسيوضح هذا الأثر شطراً كبيراً من تاريخنا ومن أساليبنا السياسية وعلاقاتنا الثقافية وعاداتنا وصناعاتنا وحياتنا الاجتماعية
وأول العهد باستكشاف وثائق تل العمارنة هذه كان في سنة 1887 إذ كانت فلاحة مصرية من سكان قرية قرب هذا التل تجمع سماداً فوجدت قطعاً من الصلصال يختلف طول إحداها بين بوصتين ونصف البوصة وبين تسع بوصات. ويختلف عرضها بين ثلاث بوصات وأربع وعليها نقوش غريبة
وسرعان ما انتشر الخبر بين العلماء في القاهرة وفي باريس وبرلين ولوندرا واكسفورد وغيرها. وتبين أن هذه النقوش كتابة مسمارية، وأن هذه المجموعة ليست إلا رسائل متبادلة بين الملك امنوفيس الثالث وابنه اخناتون، وبين رجال مختلفين من حكام آسيا الغربية، ومعظمهم من حكام بابل وأشور وسوريا وفلسطين، وغيرها من بلدان آسيا الغربية
ويرجع تاريخ هذه الرسائل إلى المدة بين عامي 1411 و1358 قبل المسيح
ويقول هذا الكاتب وهو أستاذ في علوم الدين المسيحي: إن لهذه المجموعة أهمية خاصة لدى الذين يدرسون الكتاب المقدس لعلاقتها بسفر الخروج، وأخبار بني إسرائيل في رحلتهم إلى أرض كنعان، ولأنها تحدد التواريخ الدقيقة لبعض الأخبار التي تضمنها العهد القديم
لما اعتلى اخناتون عرش مصر خلفاً لأبيه امنوفيس الثالث نقل العاصمة من طيبة، ولعل ذلك كان اضطراراً بسبب ما ترتب على تغييره عقيدة مصر من الوثنية إلى التوحيد من خلاف مع رجال الدين. وكان المكان الذي اختاره لعاصمته الجديدة هو المعروف الآن بتل العمارنة. ولقد عاد مقر الملك إلى طيبة بعد أخناتون وأصبحت عاصمته الجديدة أطلالاً وعرفه الوثنيون من المصريين من بعده باسم (الكافر) لمخالفته عقائدهم
ولقد كان أخناتون شاعراً وفيلسوفاً ولم يكن ملكا فحسب.
ومن بين هذه الوثائق خمس تتضمن الحديث عن هدايا تبادلها الملك المصري وبعض الحكام والولاة. وتدل المصارحات التي تضمنتها هذه الرسائل الخمس على أن الحكام القدماء كانوا يحفلون بالقيمة المادية للهدايا ومن أمثلة ذلك كتاب من أمنوفيس الثالث يشكو فيه اختيار الرسل الذين حملوا إليه الكتاب والهدايا من بين ذوي المراتب الثانوية في المجتمع، وكان هذا الكتاب وتلك الهدايا من ملك بابل. وقد تضمن الكتاب كذلك شكوى من ضآلة قيمة الهدايا ولكنه مع ذلك بعث مع الرد بهدايا قيمة ووعد بأن يرسل أكبر قيمة منها متى قبل الملك البابلي تزويجه من بنته
وبدأت المنافسات بين الملكين المصري والبابلي في عهد أمنوفيس الثالث، ولكن مداها اتسع في عهد أخناتون إذ تفوقت بابل على مصر. وتدل بعض هذه الرسائل على ما كان ملك أشور يعلقه على نفسه من الأهمية فقد كان يلقب نفسه (الملك الكبير الذي يصر على المساواة مع فرعون مصر الذي يخاطبه بلفظ أخي) وهو ينوه في خطابه لأخناتون بقدر الهدايا التي تلقاها جده من فرعون سابق فقد كانت عشرين وزنة من الذهب، وهو يذكر في الخطاب أنه لا يعدو جانب التواضع حين يطالب أخناتون بالا تقل قيمة هديته عن هذا القدر حفظاً لكرامته
وتدل الرسائل أيضاً على أن مصر رفضت التدخل في المنازعات التي كانت بين بابل وبين أشور، عدا أنه لما اقتصر الخلاف على أمر الحدود بين الدولتين قبل أخناتون أن يتوسط لمصلحة الآشوريين لدى البابليين سادتهم القدماء. وهذه السياسة بين الملوك الأقدمين تطرد مع ما يجري في زماننا كأنما التاريخ يعيد نفسه
وأكثر هذه الرسائل مبعوث به إلى ملك مصر، وأقلها مبعوث به من مصر. ومن بين ما بعثت به مصر أربعة كتب للملوك منها ثلاثة لملك بابل والرابع إلى ملك ارزاوا. أما الرسائل التي وردت إلى مصر فمنها ما هو من بابل ومنها ما هو من أشور أو من مملكة الحيثيين أو سوريا، وأحدها إلى أمنوفيس الثالث والد أخناتون. ورسالتان أخريان إلى سيدتين مصريتين
ولهجات هذه الرسائل مختلفة اختلافاً بيناً، حتى لقد وجد المترجمون مشقة شديدة في ترجمتها، فلها من هذه الناحية أهمية لغوية عند علماء اللغات السامية
وفي الرسائل وصف دقيق لبعض عادات القدماء ومراسيم الدين وتقاليد الزواج، كما أن لها أهمية جغرافية، وتدل هذه الوثائق في جملتها على سيادة مصر على آسيا الغربية وعلى هيبتها منذ طردت الهكسوس إلى عهد أمنوفيس الرابع ولقد كان ملوك مصر في عهد مجدها محاربين، أما أمنوفيس الثالث فبدت فيه ميول أدبية، وأما ابنه أخناتون فقد بدأ به عهد الضعف، وقد كان شديد الكراهية للحرب
(انتهى ملخصاً)
عبد اللطيف النشار