مجلة الرسالة/العدد 390/أومن بالإنسان!
مجلة الرسالة/العدد 390/أومنُ بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أومن به إيماناً عميقاً بصيراً. . . وأرصده رصداً مستوعباً يطيف به في جميع بقاعه ومختلف أوضاعه، واستوحى نظرة الله إليه ورحمته به تسديده إياه في طريقه إلى مستقبله المجهول. . .
أومن به حتى في هذه الأيام التي ساء الظن به فيها وقبح الرأي بقيمته وكفر هو بنفسه وسخط على حياته، وبدت فيها خبائثه ومكايده وقسوته، وذاق بعضه من بعضه البأس الشديد والشقاء المنكر! وتهددت حياته عوادي فناء صنعها هو على أسلوب الصواعق والزلازل والبراكين وسائر غضبات الطبيعة التي طالما جأر إلى الله بالدعاء والبكاء أن يحفظه منها ويحفظ الأرض بما حملت من مواريث صناعاته وابتكاراته وأمواله وأعماله وعياله من سوء عقباها في التدمير والإبادة. . .
أومن به لأومن بربه. . . فلو طاوعناه على مقتضى قساوته وشقاوته في حياته الراهنة لأنكرنا كل مثل كريم هبط من السماء أو صعد من الأرض. . . ولأخلدنا معه إلى عالم الجحيم الذي فتح أبوابه على نفسه في أكرم البقاع عليها في لندن وبرلين. . .!
وأوصي به الناظرين إلى حاضره في يأس وقنوط وإلى مستقبله في تشاؤم. . . فما ينبغي للذين آمنوا بالمثل العليا، وعرفوا أن الإنسانية كلها مخلوقة لإدراكها أن يزلزلوا عنها ويجحدوها إذا ما أصاب الأرض نكسة إلى جهالة قديمة، وارتداد إلى أعراض السفه الأول. . . بل عليهم أن يرفعوا شعلة تلك المثل وسط احتدام الظلام والظلم حتى يمسك بخيوط نورها من يريد ألا تجرف روحه أمواج الظلمات. . .
وإيماننا بالإنسان هو الذي يوحي إلينا أن نعمل له ونبسط عليه شعور حبنا ونقدم إليه ما نستطيع من خدمة. ولو أنكرناه وكفرنا بقيمته ما بقى لنا شيء في الأرض نلوذ به ونأنس إليه من وحشة الصمت المطلق والسكون المطلق، والبكم والصمم والعمى التي تلف غيره من كائنات لم تدع في الحياة حديثاً مفهوماً عن غايات الحياة. . .
وإنني ما أبصرت شيئاً غيره تَعمُقُ معه الحياة وتتسع وتتركب وبتنوع الإحساس بها. . . ولولاه لكنت صندوقاً أبكم فارغاً إلا من معاني غرائز معطلة وتجارب شهوات قليلاً تتحرك. . . ولا اضطربت بي مجهولات الكون كغريق طاف على أكف الأمواج. . . إن كل شيء في الطبيعة صامت جامد لا يعطي جواباً عن غايات الحياة إلا هذا النوع الذي أحمله في جسدي وأستوحيه في فكري وأبادله ما صح وما فسد!
لقد قلت في مقال سابق: إن الإيمان بالإنسان هو عندي أول المعاني الدينية، فلا يؤمن بالكون ولا خالقه من لم يؤمن بهذا النوع. . . وكان قولي هذا كضربة معول موفقة وقعت على باب كنز مرصود فانفتح! ولست أزعم أن ما رأيته وراء هذا الباب حقيقة ينشدها الناس ويجدون في ظلها راحة وطمأنينة فالله أعلم بموقع هذا القول من نفوس القارئين. . . وإنما وجدت وراء اهتدائي إليه راحة لنفسي وحلاً لكثير من المشكلات التي أجدها فيها وفي الإنسانية والطبيعة.
ولقد علمني الخروج من نفسي ونوعي بعض الأحيان ورصدهما بعين غريب عنهما أن أرى كثيراً مما خفي على الذين يلبثون رهناء سجناء في الشبكة التي تلفهم مع سائر أفراد القطيع
أجل، إني أرصد هذا النوع كغريب عنه فأرى منه ما لا يراه إلا الفارقون لنفوسهم الخارجون بالفكر عن حدود وجودهم الناظرون إلى حياتهم نظرات الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان، والملأ الأدنى مما هن دون الإنسان. . .
فماذا وجدت في الإنسان؟ من قلوبه وعقوله تنبثق المعاني المكتومة المسجونة في أطواء المادة. وفي بيانه أصوات ربطت الكون كله ولاءمت بين نسبه المختلفة ولخصته واختزلته ووضعته أمام الفكر ملموماً. . . وفيه نغمة مفهومة رقيقة وسط صخب الأمواج التي لا عدد لها في البحار، والهبوات التي لا عدد لها في الأجواء. . .
إنه مشبوب الحاجة دائمها، واسع الآمال والخيال في تعظيم المادة وتنويعها وتصريفها والاحتفاء بكل سر فيها، لا يخرج من الأرض إلا بعد أن يصوغ ترابها ومواتها عرائس ومباهج، ويبنيها أجساماً محبوكة ذات أوضاع وفنون. . .
لقد استمرت الأرض من قبله جامدة لا يتغير فيها شيء من موادها إلا الدورات الأبدية المتشابهة من الهواء والماء والفصول وتعاقب الليل والنهار والشهور. . . ولم نر يداً غير يده تضع في الأرض حجراً على حجر أو تحفر قناة مستقيمة تصرف فيها ماء أو تجلب ماء، أو ترسم صورة أو تقيم تمثالاً أو تمتهن حيواناً لخدمتها. . . وإنما يبدو من الطبيعة أن كل شيء فيها كان ينتظر وجود هذا النوع ليقول ليده وفكره: هاأنذا لكما!
وما زالت المرآة التي فيه وهي عقله تتطبع فيها صور الكائنات واحداً وراء آخر وهو يحولها وينقلها من عالم الجماد والصمت إلى عالم الأسماء والبيان والصور والتعبير حتى فرغ منها أو كاد. . .
وما زال يدور حول ظواهر المادة وصورها وأشكالها ويحللها وينبش فيها ويسبر أغوارها حتى وصل إلى عالم الكهارب والأثير وهو الآن يجري اختباراته وتحليلاته على هذه الأصول الأولى للمادة ليكثفها أو يرققها ويتحكم في إخراج أنواعها بعد أن وصلت يده إلى مفاتيح توجيهها.
إنه تعمق في عالم الأجسام والقوى حتى وصل إلى مصادر الحياة الآلية ومادة الوجود الأولية، وتعمق في عالم المعاني والأفكار حتى وصل إلى الخفقات الروحية العليا والرياضيات العليا التي قام عليها تخطيط الطبيعة وهندستها
وإنه ليركب ما في الكون من المعاني كما يركب ما فيه من مواد، فيقيم الكتب العامرة والمقالات الحكيمة والصلوات المطهرة والألحان الساحرة كما يقيم القصر الكامل الجميل والصرح المشيد والقاطرة والطائرة والباخرة. . . وإنه ليسافر بفكره في الآفاق العليا كما يسافر بصوته وصورته في صندوق الراديو. . . وهكذا هو يتوجه في عالم المادة والقوى العمياء كما يتوجه في عالم الروح الواعي والفكر المميز المبصر الحاكم. . . وهكذا هو رباط بين العالم الساكن الخفي وبين العالم المتحرك المرئي
إن تكن للشرق الإسلامي رسالة جديدة في هذا العصر تضاف إلى رسالاته السابقة في العصور الخوالي فهي رسالة الدعوة إلى الإيمان بالإنسان سيد الأرض، وحبه وخدمته ومعرفة قيمته. . . ثم الضرب على أيدي محترفي السياسة واللاعبين بالشعوب ومؤرثي العداوة بينها في سبيل الأمجاد الشخصية والأطماع والتسلط والاستبداد والإخلاد إلى منطق الغرائز السفلى التي ما وضعها الله في تركيب الإنسان إلا لتكون له كالعجلات ودواب الحمل وآلات الدفع للقافلة السائرة إلى غاية
تاريخه مصباحه ولنستعرض تاريخ الإنسان على هذه الأرض لندرك مدى مركزه فيها، ولنعطيه من تاريخه مصباحاً يرى به نفسه: إن الله أسلمه الأرض، وليس فيها شيء معقد التركيب غير الأجسام العضوية الحية، وهي أجسامه وأجسام الحيوان والنبات. أما المادة فأسلمها إليه بسيطة في صورها الأولى وخاماتها البكر، فما زال يدور حولها ويعبث فيها وينبش ويخرج أسرارها واحداً بعد آخر حتى حدثته أخبارها، وأخرجت له أثقالها، ووضعت بين يديه أجنتها وعيالها، واستفاد من تجاربه فيها عقله وحكمه - والعقل هو حفظ التجارب والحكم بمقتضاها - وعلمه ووثائق سيرته ومدونات فكره. وكلما أنماها وعقد نموها أنمت هي فكره وعقدته - والتجاوب بين المادة والفكر قانون - حتى ملأ الأرض بما ولد منها وأخرجه من كوامنها وركبه من بسائطها
وشاء الله أن تكون قوة الفكر في الإنسان لا حد لها، فصارت تخاريج المادة وفروقها وتمايزها لا حد لها. . . وتارة يكون كشفه عن أسرارها بطريق الصدفة، فيلقط ويدون، كما هو واضح من نمو علم الكيمياء، فإن كل أمورها تجريبية لا دخل للفروض والظنون والتجريدات فيها. . . وتارة يكون الفكر سابقاً قادراً على الفروض وقياس النسب الغائبة على الحاضرة.
أي تارة تكون الطبيعة سابقة في الوحي إليه، وزيادة علمه وفكره، وتارة يكون هو سابقاً في الوحي إليها وزيادة موجوداتها ومشاهدها
وإني لأستعرض أعماله في الطبيعة منذ أن كان هائماً لا سقف له يصنع من ورق الشجر ستاراً لسوأته، ويتخذ من الحجر خنجراً لسطوته، إلى أن صنع لباسه الأوربي المعقد المنوع المزين الملون، وصنع بيته من ناطحات السحاب، وآلات سطوته من الطوربيد وسلة مولوتوف. . . ومركبه من الحصون الطائرة، واستوعب جميع أجزاء الآلات المعقدة في رأسه قبل تركيبها بمساميرها وحذافيرها. . . وصنع له مجاهر ومقربات يقرب بها مشاهد السموات والسدم ويحلل عناصرها، ويكبر بها أحجام الجراثيم ويقيس بها الخلايا ويحكم بها على كل أولئك حكما صحيحاً خاضعاً لمقاييس الحس والفكر. . . أستعرض أعماله هذه فأراه بعد ذلك قانوناً نامياً لا حد لنموه في ذاته وقانوناً منمياً للطبيعة وصورها وأشكالها لا حد له كذلك.
وجميع قوانين الطبيعة قوانين متحجرة صارمة إلا هذا الإنسان فإنه قانون مرن يذهب في كل اتجاه. أليس فيه نفخة من روح الله ليست في سواه؟! والله خالق هذه القوانين وواضعها؛ فلا عجب أن تدفعه هذه النفخة إلى الأمام في مجاهل الكون دائماً
إن الأطفال يقلدون الرجال بغريزة التقليد والمحاكاة التي فيهم للاستعداد لمستقبل الفرد، والرجال يقلدون صنع الله للاستعداد لمستقبل الإنسانية كلها. وجميع آلاتهم التي ركبوها وجدوا نماذجها أمامهم مما خلق الله. وجسم الحيوان هو نموذج الآلات الكبيرة السريعة التي ابتدأ بها الإنسان يتسلط على المكان والزمان والمسافات والأبعاد. وجميع أعمالهم في الكهرباء والقوى الخفية إنما وجدوا نماذجها من المجموعات العصبية في الحيوان والنبات، فأرسلوا الإشارات والصور والأصوات إلى عيون وآذان صناعية عبر المحيطات والصحارى والقارات والجبال الشاهقات كما يرسل الجسم الواحد خواطره وصوادره إلى كل خلية في أعضائه.
وعلى ذلك صارت الأرض كجسم ينبض ويترابط، وإنسانها فيها كالمراكز العصبية في الجسم الحي: تصدر وتتلقى الجواب
حياة الشرنقة
ولكن هل يجوز أن يقف الإنسان في ضجة ما صنع من الآلات والمفرقعات ضائعاً مغموراً غائباً فيها كما تغيب دودة القز في الشرنقة التي تنسجها، وكما تغيب النواة في النخلة السحوق والبذرة في الدوحة الفارعة؟
إنه يرسل في الطبيعة لمحات فكره وومضات خواطره، وصار الأثير والهواء والماء والتراب مليئاً بهمساته وأزيز محركاته وضربات معاوله إلى أعماق المناجم والركاز.
وهذا حسن لو أنه لا ينسى نفسه وسط الضجة والقوة والجبروت الآلي، والحديد البليد القاسي، حتى يختنق ما فيه من وداعة الروح وتأمل الفكر، والإحساس بالانفصال عما صنعته يداه
أجل يجب ألا يكون الإنسان قوة عمياء تعمل في المادة بدون فكر وروح وإحساس صوفي فيما تعمل ولذة به وإلا استحال إلى قوة متنقلة في عمليات التكوين والتركيب بدون وعي وفي ذهول وغفلات تشبه عمى القوى العمياء إن طاعة الحديد البليد القاسي للفكر الطليق البارد تركت في أعصاب الأمم الصناعية آثاراً عميقة ستطمر لا محالة جوانب من عواطف الرحمة والمروءة في قلوب أفرادها، وتمحو آثار العصور الصوفية التي أدرك الإنسان نفسه فيها حين كانت النبوات تتلاحق عليه.
وإني لأتخيل الآن ما جرى في ساحات (الفلاندر) فأرى الإنسان وهو يدفع الحديد الجبار فيندفع، ويطلق البارود الصاعق فينطلق، والقنابل الصارخة فتصيح في نكر وشدة، ويملأ الجو بالدخان الأسود والنار الحمراء فيمتلئ، ويسيل النار من (باصقات) النار فتسيل على الأجسام البيضاء الجميلة ذات العيون الزرقاء والشعور الذهبية والجماجم المستوية وتذيبها كالشمع، وتسحقها كالرفات، وتذروها كالرماد. . . ويرفع القلاع الطائرة إلى أجواز الفضاء فترتفع. . . أتخيله وسط هذا كله لا يسمع صوت نفسه إذا تحدث، ولا يعي خروج نفسه إذا تنفس، ولا يحس ألمه إذا تألم، ولا صعق جسمه إذا أصيب؛ فهو في جنون الحرب يضرب الأجسام الحية النامية من شجر أو ضرع أو زرع أو حيوان أو إنسان ويخرب العامر ويهدم القائم فأقول: لقد تحول إلى قوة عمياء، وصار عاتياً كالريح. . . جارفاً كالتيار. . . أعمى كالصاعقة. . . قاسياً كالحديد. . . صابراً كالفولاذ. . . فظيعاً كالنار. . .
ولست أدري متى يفيق لنفسه ويعني بوضعه وتحولات حياته كما يعني بمستقبل المواد والقوى، ويربط ما بينه وبين الله مفيض الفكر والحياة كما يربط ما بين نفسه وأجزاء الأرض؟!
إن الآلة لا تدركه وهو يعمل فيها ويقوم عليها، وهي لا ترحمه من السحق أو البتر أو الصعق إذا تعرض لها جاهل بقوانين سيرها، فلا قلب فيها ولا فكر ولا حياة دم وعصب وروح. ولكن ما باله هو لا يفكر في الاتصال بمن أنشأه وركبه ونسقه وصوره وهو ذو الفكر والروح والوجدان والنزوع والإرادة والاختيار والتطلع والحزْر والحذَر والقدرة على قياس ما غاب بما حضر؟!
إن الاستسلام لغيبوبة الحياة الآلية ضياع وتطبُّع بطبع الحديد البليد الأعمى الدائر في غير وعي وإحساس، وأخوف ما يخاف على الإنسان أن يترك هكذا فريسة وضحية للآلات يعيش معها ويقدم لها وقودها إلى أن يفني وقود حياته هو وينطفئ مصباحه ويذهب إلى ظلمة القبور بدون بصيرة منيرة يسعى نورها بين يديه في العالم الباقي غير المنظور.
وعلى هذا ينبغي أن تقوم في الناس دعوة إلى الإحساس بالنفس واليقظة الدائمة لها وتزكيتها والرفع من قيمتها، وهذا لا يكون إلا بالدين والفن الرفيع: الدين العقلي الطبيعي المبني على إسلام النفس لله البارئ وللطبيعة الأستاذة! والفن الرفيع الذي يخلق جواً يحضر للقلب بعض المعاني الغائبة التي تري الإنسان وضعه الممتاز الفريد الطليق وسط ما في الكون من المواد والقوى والمخلوقات السجينة. . . تلك المعاني التي تتراءى وراء بيان ذوي البيان النظيف، وألحان ذوي الأصداء البعيدة، وعيون ذوي الصفاء والإدراك. .
عبد المنعم خلاف