مجلة الرسالة/العدد 383/قصة القمر العاشق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 383/قصة القمر العاشق

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1940



للأستاذ علي محمود طه

للأديب محمد سيد الكيلاني

هي قصة بارعة في قصيدة رائعة عدتها اثنان وثلاثون بيتاً، ومع هذا، فإنها تقع في أربعة فصول تمثل لنا العشق في صورة مستحدثة، وتعطينا لوناً لا عهد لنا به من ألوان الموسيقى. وهذه القصة واضحة المعاني، بينة المرامي، بالرغم مما فيها من رموز وإشارات. وهي مفعمة بالشذوذ، ولكنها مع هذا كله مما يستقيم به منطق الشعراء الواقعيين

يتحدث الشاعر في قصيدته عن (قصة قمر عاشق) يهوي الصبايا الحور، ويقتحم عليهن الخدور. ولقد تواضع الشعراء من قبل على أن يجعلوا من القمر معشوقاً جميلاً رقيقاً فاتن السمات، بديع القسمات، فشبهوا به وجه الحبيب، وفي ذلك يقول قائلهم وهو يخاطب الليل:

لو كان عندي قمر ... ما بت أرعى قمراً

ولكن شاعرنا المهندس خرج على هذا الإجماع فجعل من هذا المعشوق الوادع الرقيق عاشقاً سابياً وعربيداً فاتكاً، فأسبغ عليه منصفات الرخاوة حيناً، والضراوة حيناً آخر، ما جعل قصيدته قمينة بالنظر، حرية بالاستقراء، جديرة بتأمل كل حسناء كأنما يوجه إليها الشاعر قصيدته، كيلا يستخفها هذا الضوء الرطب المنحدر من قمر الليالي الصائفة فيلهيها عن نافذتها المفتوحة قال مخاطباً هذه الغادة:

إذا ما طاف بالشرفة ... ضوء القمر المضني

ورف عليك مثل الحلم ... أو إشراقة المعنى

فهنا شرفة يطوف حولها ضوء القمر متعباً من طول ما قطع من مسافة إليها وهذا الضوء لطيف عذب كالحلم، مشرق كالمعنى المتوقد في خاطر الشاعر، يرف على زنبقة نائمة في مهدها، وقد انحصرت غلالتها الرقيقة عن بعض جسمها. قال وأنت على فراش الطهر كالزنبقة الوسنى:

فضمي جسمك العاري ... وصوتي ذلك الحسنا

وفي هذا النداء الأخير تتجلى عبادة الشاعر للجمال وتقديسه له، فهو يربأ بهذا الجسم الفاتن أن يكون نهب هذا الضوء المفتون، أو بمعنى آخر نهب الأعين الشرهة الجارحة، ف ينصح صاحبته الحسناء أن تضم جسمها العاري وأن تستره حتى يبقي حسنها مصوناً. فنظرة شاعرنا المهندس إلى المرأة وجمالها في هذين البيتين نظرة فنية روحية في حين أن شاعراً كإسماعيل صبري كان ينظر إلى الجمال نظرته إلى المتعة المبذولة. قال:

إن هذا الحسن كالماء الذي ... فيه للأنفس ري وشفاء

لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بعض واعدلي بين الظلماء

فنظرة علي محمود طه إلى الجمال أسمى وأنبل وهي على أنها نظرة شاعرية متخيلة إلا أنها واقعية مستمدة من صميم الحياة وطبائع الأشياء. أما نظرة إسماعيل صبري فهي ساذجة أو قل إنها تنافى منطق الحياة وتجافي طبائع الأشياء إن هذه المرأة التي يطلب منها إسماعيل صبري أن تجعل من حسنها مورداً لكل ظمآن ومتعة لكل إنسان وأن تعدل بين الظماء فلا تزيد في كأس هذا قطرة عما في كأس ذاك لم تخلق بعد وهي كما يصورها إسماعيل صبري ليست من بني البشر، إنما هي آلة مصنوعة توزع الطعام والشراب بالدرهم والمثقال. هذا هو التمهيد الذي قدمه الشاعر لقصته

أما الفصل الأول فهو هذا الضوء الذي نظر من خلال السحاب فرأى هذه الفتاة النائمة وقد تعري بعض جسمها ففتنه جمالها فهبط من عليائه إلى أرض حديقتها، ثم نظر فإذا هي نائمة في فراشها تحت نافذتها وهنا يمثل الضوء دوراً تاريخياً من أدوار العشق والغرام التي قام بها روميو، فيسترق الضوء الخطأ حتى يصل إلى هذه النافذة فيراها عالية فيتسلق إليها الأغصان لا يبالي بأشواكها حتى يصل إلى فاتنته قال الشاعر:

ومس الأرض في رفق ... يشق رياضتها الغنا

عجبت له وما أعجب ... كيف استلم الركنا؟

وكيف تسور الشوك ... وكيف تسور الغصنا

والفصل الثاني حين يقف الضوء في مخدع الحسناء فيرى في خديها خمر صبابة. ولقد ألفنا الشعراء يصفون خدود الملاح بالتفاح ولكن علي محمود طه إلى وصف ما ينبعث من الخلود من سحر وجمال بخمر صبابة لا ينضب معينها قال:

على خديك خمر ... صبابة أفرغها دنا

رحيق من جنى الفتنة لا ينضب أو يفني ثم أسترسل الشاعر في الخيال فتصور ضوء القمر غريماً له ومنافساً سبقه إلى هذه الغانية، ثم ذكر غيرته عليها كلما قبل ثغرها أو لف نهدها أو ضم جسدها قال:

أغار، أغار إن قب ... ل هذا الثغر أو ثني

ولف النهد في لين ... وضم الجسد اللدنا

ثم أخذ ينصح صاحبته بألا تستهين بهذا الضوء وأن تأخذ حذرها منه، وأن تخشى بأسه. وقد دعم أقواله بحقيقة من الحقائق العلمية، فذكر أن هذا الضوء يؤثر في الموجة الكبرى ويرغمها على الخروج من أعماق البحار. وفي هذا إشارة علمية لطيفة إلى المد فإن الأمواج ترتفع تحت جاذبية القمر. وهنا ينتهي الفصل الثاني

أما الفصل الثالث فيبدأ حينما تصور الشاعر هذا الضوء وقد عجز عن أن ينال من هذه الحسناء بعد أن أسبغ عليها كل فنه وجماله. . . قال:

أراد فلم ينل ثغراً ... ورام فلم يصب حضنا

حوتك ذراعه رسماً ... وأنت حويته فنا

في حين أن الفصل الرابع يتمثل في ثورة هذا الضوء الذي أظهر الرعونة والطيش ومضى يطوي السهول والحزون:

يثير الليل أحقاداً ... وصدر سحابه ضغنا

وعاد الطفل جباراً ... يهز صراعه الكونا

فهذا الذي كان يجثو أمامها كالطفل ملتمساً العطف عاد جباراً يهز الكون هزا بصراعه الشديد المتواصل، يثير الرياح ويرسل العواصف فيهرع الناس إلى منازلهم كما يهرعون عند سماع صفارة الإنذار من الغارات الجوية، ويسرع كل منهم إلى لقاء زوجته. وحينئذ يذكر الناس أن القمر لابد أن يكون مفتوناً بغادة ملكت عليه كل جوارحه. ثم نصحها بأن تتقي شر ذلك الجبار وتقفل النافذة حتى تصون حسنها من ثورة هذا العاشق، وحتى لا يظن الناس بمخدعها الظنون. وختم هذه الدرة الثمينة بقوله:

فكم أقلقت من ليل! ... وكم من قمر جنا!

محمد سيد الكيلاني