مجلة الرسالة/العدد 383/عودة إلى الروض
مجلة الرسالة/العدد 383/عودة إلى الروض
للأستاذ محمود البشبيشي
كنت أعلم أن للقلم غفوة كما للقلوب، ولكن لم أكن أدري أن للقلم صحوة كصحوة القلوب
وما كنت أعلم أن القلم يدرك معنى الحنين، ويحس لوعة الفراق، أنه كالقلوب تحس أن الحنين دليل الرغبة، والرغبة سبيل العودة
لم أكن أعلم هذا، حتى قرأت كلمة الدكتور الفاضل زكي مبارك، فأحسست أن القلم غلبه الحنين والشوق، وأنه أصبح من مادة القلوب يسيره الشعور وبأمره فيطيع!
. . . ودبت فيه الحياة من جديد وأخذ يمطرني وابلاً من الخواطر السيالة بالعاطفة، المتلألئة بالنور، الفواحة بالزهر، تخلص من فكرة لفكرة خلوص كلمة الحب من قلب المحب! نقية طاهرة. وللقلم حق عزيز عليَّ. . . آه من تبعاته ورغباته!
فيا ليتك يا صديقي ما تلفت فهجت أحلاماً كانت هي أيضاً في حلم! ويا ليت قلبي ما تلفت وتسمع. . . يا ليته، يا ليته!
فأيقظ القلم وحرك الطبيعة الكامنة في النفس كمون سر الحياة فيها. . . أنت السبب في كل ذلك يا دكتور. . . أنت السبب في العودة وحنين العودة، فقد أحسست روحاً غريباً ينشره أريج كلماتك سحراً تتلفت إليه القلوب فيقيدها! ثم هي برغم ذلك تهنأ بالقيد لأنه روحي نبيل في ضغطه على النفوس. . . فأعجب لقلب ينعم بأن يتعذب ويتعذب بأن ينعم! إنني هذا القلب الغريب!
فمن الناس من يرق ويرق، وينبل وينبل، ويدق شعوره حتى يُصبح كل جزء من جسده البشري قلباً حياً. . .!
وأنت أيها الصديق من هذه القلوب التي تمشي على الأرض! وتتألم لأنها لا تستطيع إلا أن تتألم، وتحب لأنها لا تستطيع سوى أن تحب! هي حرة في كيانها وليست بحرة. . . صريحة في فعلها وميولها وليست بصريحة. . . يقيد حريتها خوف الجور على حرية الغير! وهذا نبل جميل. . . ويمنع صراحتها خوف جرح قلوب الغير. . . وهذا نبل آخر. . .
أنت من هذه القلوب أيها الصديق وإن احتار في أمرك الكثير، وطالبك البعض برفع القن عن زكي مبارك الأديب. وليتهم قالوا عن القلب المبارك الأديب!
أيها القراء إن أردتم معرفة زكي مبارك الرجل فأنا أقول: إنه الوفاء والشهامة والسهولة في الطبع. . . وإن أردتم معرفة زكي مبارك الأديب أو القلب المبارك الأديب واحترتم في أمره فعليكم بما كتب وما سوف يكتب في عالم الحب والجمال وصوفية الحب والجمال
هناك تلمسونه روحاً تتدفق، وقلباً يعرف كيف يحب وكيف يكره، كيف يصارح وكيف يرائي، كيف يتألم فيستر الألم لعزة في نفسه، ويفرح فيملأ الدنيا غناء، لأنه قلب إنساني كما قلت لا يحب أن ينعم وحده. بل يسعده أن يُطلع قلوب الغير على أطياف السعادة!
أيها الحائرون في أمر الدكتور، أنا لا أرى سبيلاً للحيرة في أمره. وكيف تصح الحيرة في رجل (يقتل الوقت والعافية في تذكر القلوب الغوادر، وفي دنياه تكاليف تميد من أثقالها الجبال. لأن الموجب معروف وهو الوثاق المسطور في اللوح المحفوظ بألا تعيش روح إلا مجذوبة إلى روح).
كيف الحيرة في رجل يرى من يكذبه صادقاً. لأنه كاذب في تصوير ما يعانيه!
تلك يا دكتور فلسفة جميلة، وأجمل منها أنك أحكت أحبولة الرياء وجه الوشاة والعذال. إنه رياء نبيل حقاً. . . ولكني في حيرة من أمر ذلك الرياء الذي تقربت إلى الله به. وأنا في حيرة فهل لك أن تأخذ بيد صديقك من الظلمة فيطمئن قلبه عليك وعلى نفسه! أهو رياء المجد كل ما فيه حب ووفاء!. . . ما أصدق حنين القلم وما أجمل العودة إلى الروض!
يا صديقي. . . لست أدري أي سحر في ظلال دوحة أفكارك استطاع أن يخرجني من صمت ظننته لا يفارقني ولا أفارقه. . . أي سحر يا صديقي أي سحر!
ترىُ هل ودعني الأدب يوم ودعته لغير عودة، وفي نفسه أن يعود، وأن يكون بعثه على يدك يا دكتور، وإلا فما هذا الصوت الغريب الذي يناديني من ثغور أزهارك؟ وما هذه الألوان النفسية الصوفية التي تغمرني من خواطرك الجريحة في الشوق والحب!
تسأل يا دكتور ماذا تضمر الدنيا في أيامها المقبلات؟! إنها تضمر الخير والحب والنور والمجد، وما كان لها سوى أن تضمر ذلك للقلب الذي صير الحديث عن الوفاء والحب شريعة من شرائع الوجود!! للقلب الذي يسأل أين بائع النسيان؟ وأين بائع السلوان؟ للقلب الذي علمته صوفية الحب ألا يرائي من يبغض، ويرائي من يحب!! إنها القلوب أيضاً يا دكتور لها من منطق شعورها صراحة لا يعرفها سوى الذين خلقوا وكل ما فيهم قلوب حية!!
يا طالما أحسست في نفسي شيئاً لم أستطيع إدراكه، ومر على قلبي إحساس لم تفسره دقاته! ولكنني اليوم واليوم فقط علمت هذا الشيء وعرفت هذا الإحساس. إنها أغنية العودة إلى الروض، أغنية القلم تذكرني بأيامه ولياليه، بل بأيامنا وليالينا أيام كنا يا دكتور نصل الحديث بالحديث، نتقابل لنتكلم في النثر والشعر، ونفترق لنعود للنثر والشعر. . . أيام كانت نفس تشعر بالحياة لأن كل شيء في الحياة يشعر بها. . . وقبل أن تسود الضمائر وتجحد الأيادي!
. . . لا يكاد يظهر كتاب حتى نقتله بحثاً أو ننقده نقداً نزيهاً يعلمه الدكتور. تذكرت هذه الأيام والليالي، وما كان منا في هذه الأيام والليالي، وهاجت الذكرى في نفسي فأصبحت شعوراً قوياً وكبر الشعور للقوي فصار رغبة، وتجسمت الرغبة فكانت عودة إلى الروض، الروض الحبيب، روض الأدب، وكنت أنت باعث هذه الرغبة وصاحب الفضل في تلك العودة
فيا أيها القلم تحية لقاء حبيب مني!. . . علم الله ما تركتك زاهداً. . . إنما عز علي أن أشرعك في وجه من يشرع في وجههم السيف وشيء آخر أحقر من السيف! ولكنها عودة جميلة. . . ومن العيب أن أناديك فلا تلبي النداء. . . إن الروض قد ابتسمت أزهاره فلم لا تبتسم. . . وإن رفاق الفكر والقلب ينتظرون منك الأغنية. . . والعودة إلى الروض. . . بعد أن ظن رفاق السوء أنها غفوة لا صحوة بعدها! أيها القلم، عزيز على هذه الغيبة الطويلة. . . وحبيب إلى هذه العودة الجميلة. . . وليعلم الذين جحدوا آياتك. . . أن الدائرة تدور. . . وأنك بالمرصاد! وأن القلب الكريم إن هو لم يثر في وجه المعتدي يوماً فله عودة وعودته غير عودته إلى الروض!
(المنصورة)
محمود البشبيشي