مجلة الرسالة/العدد 383/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 383/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1940



تأملات:

الفن والاطمئنان

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

منذ سنة شاهدت السيدة ميمي شكيب في رواية الدلوعة، فأعجبت بها إعجاباً خفيفاً، لأني لم أجدها أكثر من ممثلة درست دورها على يد أستاذها الريحاني، واتبعت إرشاداته وتعليماته بأمانة وتدقيق.

ومنذ أسبوع شاهدت السيدة ميمي شكيب في رواية الدلوعة أيضاً، فإذا بي أراها شيئاً جديداً، وإذا بشبح الريحاني الذي كان يصاحبها في السنة الماضية ويقودها على خشبه المسرح خطوة خطوة، ويلون صوتها في إلقائها نبرة نبرة، قد اختفى تماماً. . وإذا بالسيدة ميمي شكيب ممثلة أستاذة تعربد على المسرح عربدة حية توحي بها إليها خواطره هي، وتتبع فيها اختيارها هي، ولا تقيد فيها بإرشادات موجهة إليها، ولا تعليمات مدروسة. . .

فما الذي حدث للسيدة ميمي شكيب، حتى استطاعت أن تقفز هذه القفزة، وأن تخرج في عام واحد من صفوف التلميذات النجيات إلى صفوف الأستاذات المجيدات؟

لابد أن يكون شيء ما قد حدث لها، ولا يمكن أن يكون هذا الشيء اجتهاداً في دراسة المسرح، أو اهتماماً بالفن زاد عندها عن ذي قبل. فليس شيء من هذا بقادر على أن يخلق على أن يخلق الإنسان خلقاً جديداً، وإن كان قادراً على أن يصقله شيئاً ما، وأن يهذبه شيئاً ما، وأن يرفعه شيئاً ما. . .

فما الذي حدث للسيدة ميمي شكيب إذن؟

الذي حدث هو أنها تزوجت!

ولكن ما للزواج والفن؟ وكيف يمكن أن يكون الزواج سبباً في النهوض بفنانة نهضة تلفت الناقد هذه اللفتة المحيرة؟ وإذا كان الزواج هو السبب في هذه القفزة التي قفزتها السيدة ميمي شكيب، فإن أستاذها الريحاني نفسه ليس متزوجاً ومع هذا، فهو أستاذها، وهو الفنان الذي لا يشق له غبار. . .

الواقع أن الزواج يبعث في النفس اطمئناناً وارتياحاً وهو يبعثهما في نفس المرأة أكثر مما يبعثهما في نفس الرجل، وكل فنان محتاج إلى الاطمئنان والارتياح كي يتفرغ لفنه ويجيد فيه، وإذا عدم الفنان الاطمئنان والراحة فهو مهدد دائما بأن ينعكس على فنه ذلك يتردد في نفسة، وهومهدد كذلك بأن يصطبغ فنه بلون معتم مظلم أسود هو لون اليأس والشقاء اللذين يعانيهما من قلقة. وكثيرا ما كان هذا القلق سببا في اندحار الفنانين وذبولهم، وكثيرا ما كان سببا في الانزلاق بهم إلى مهاوي الخبل يطلبون الاطمئنان عبثا في الخمر، والمخدرات، والمواخير.

والخمر والمخدرات والمواخير، لاشك في أنها تبعث اطمئناناً عارضاً وارتياحاً وقتياً في نفس الفنان، ولكن آثارها عندما تزول ان يصبح الفنان فإذا به يرى نفسه فارغة كما كانت قبل السكرة، وإذا به يرى نفسه وحيداً هائماً على وجهه لا يدري له مستقراً، ولا يعلم له هدفاً، فيعود إلى ما كان فيه، ويطلب السم الذي يطمئنه ويقتله في الوقت نفسه، ولا يطول به الزمن حتى تتلف صحته، وتتحطم أعصابه، ويخمد عقله، ويتبلط إحساسه، ويخبو من نفسه ذلك النور الذي يهديه ويلهمه، فيصبح في آخر الأمر إنساناً مسكيناً لا حياة له إلا الأوهام، فهو يحسب نفسه قادراً على الإنتاج لأنه يلمح أطيافاً من الفكر تجول في رأسه، ولكنه إذا أراد أن يحصرها، وأن يجندها وأن ينظمها، وأن يطلقها، إلى الدنيا فناً رآها تشق عصا الطاعة عليه، وتستعصي، وتلفت منه وتذوب في رأسه كأنها لم تكن. . . وإذا ابتلى فنان بحال كهذه فمآله الانهيار من غير شك فإما أن يموت كما مات سيد درويش وإما أن ينتحر كما انتحر إيفان مسجوكين، وإما أن ينطلق في الدنيا مشرداً مسكيناً إن عطف عليه الناس اليوم فسينبذونه غداً

والفنانون في الدنيا بأسرها ليسو غائبين عن هذه الحقيقة، كما أنه ليس في الدنيا إنسان غائباً عنها، فلماذا يعرض كثيرون من الفنانين والفنانات عن الزواج، ولماذا يجرؤ بعضهم على أن يدعو غيره إلى الإعراض عنه حتى أصبح هناك مذهب فاسد عشش في رؤوسهم أو في رؤوس بعضهم، واجتذب له أنصاراً يقولون بأن الزواج يعرقل الفن. . .

هناك سبب خفي لهذا وهو أن في الفنانين كثيراً من طبائع النساء، فهم أشد إحساساً من غيرهم من الرجال، ومن شدة إحساسهم هم أشد غيرة من غيرهم، ومن شدة إحساسهم هم أقل حكمة من غيرهم. ولهذا كان مما يشبه الأمر العسير أن يجمع الرجل بين الفن والمرأة، لأنه من العسير أو من المستحيل أن تجمع بين المرأة والمرأة

وقد نتج من هذا أن كثيرين من الفنانين شذوا عن الحياة الطبيعية، وأصبحوا يطلبون الاطمئنان والارتياح في المغالطات والأوهام. وقد كانت هذه المغالطات وهذه الأوهام مواد لذيذة لكثير من الفنون استمتع بها الناس، ولكنهم كانوا وهم يستمتعون بها يشفقون على أصحابها ويقولون دائماً: يا لهؤلاء من أشقياء مساكين محرومين. . .

والعجب أن هذا لم يكن في يوم من الأيام محرضاً على نبذ هذه المغالطات وهذه الأوهام، وإنما كان دائماً محرضاً على الإقبال عليها، فكلما نشأ فنان صغير وأحس في نفسه شيئاً من الضعف حيال الحياة الطبيعية، وأدرك أن ضعفه هذا راجع إلى قوة إحساسه وحدة نفسه، لم يسرع إلى تنمية عقله التنمية التي توازنه، ولم يسرع إلى توطيد أخلاقه التوطيد الذي يحميه من الوقوع في اضطراب الشذوذ، وإنما طلبته صور هذا الشذوذ، وحسبها نوعاً من الحياة يمكن أن يعيش إلى جانب الحياة الطبيعية التي لا سبيل إلى الخلود إلا بها. . .

وهكذا ضعف كثيرون من الفنانين، وهكذا انهاروا، وهكذا أعقبوا فنوناً لا أنكر أنها لذيذة وإن كنت أسخط عليها وأمقتها مقتاً جد على نفسي ووجدته حقا

وإلى هؤلاء الفنانين أريد أن أوجه الحديث اليوم

فليتصوروا سلماً يصل ما بين الأرض والسماء، وأن الناس جميعاً مطالبون بأن يصعدوا هذا السلم، وليقولوا لي أي الناس أضمن وصولاً إلى قمة هذا السلم!

الإنسان الذي يقبض عليه برجليه ويديه وأسنانه ويصعد درجة درجة فما تفلت منه درجة، أم الإنسان الذي يقفز عليه برجليه فقط بينما يداه يلوح بهما في الهواء، وبينما يزعق بحنجرته مغنياً أو نادباً أو مهللاً؟. . .

لاشك في أن الأول أضمن وصولاً من الثاني، كما أنه لاشك في أن الثاني كلما قطع مع الأول مرحلة كان ذلك دليلاً على أنه أبرع منه وأقدر. . .

فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون هذا الثاني البارع القادر إذا استغل قواه جميعاً، واستخدم جوارحه جميعاً كما يفعل الأول؟. . .

لابد أنه يسبقه بمراحل، ولابد أنه يشعر بعد ذلك بدافع من نفسه يدفعه إلى مساعدة غيره والأخذ بأيديهم. . .

وهذا هو ما يفعله الأنبياء وأصحاب الرسالات، فهم ليسوا إلا بشراً وهم أشبه الناس بالفنانين، ولكنهم يزيدون على الفنانين قوة العقل وقوة الخلق إلى جانب قوة الإحساس، ولذلك فإنهم ساروا دائماً نحو المثل الأعلى في خطى ثابتة ومن غير قلق، ومن غير يأس، ومن غير شذوذ ولا خروج على قواعد الطبيعة وسننها

ولعل أقوى حجة من حجج أولئك الأنانيين الذين يمقتون الزواج هو قولهم إن مسئوليات الزواج تثقل على كاهل الفنان وتحرمه من الفن وتحرم الفن منه. وهذا قول سخيف، لأن الحياة من غير زواج ليست إلا (رهبنة) أو قرصنة، و (الرهبنة) شيء ليس من اليسير على الإنسان أن يحققه، ولو حققه الناس جميعاً لتعطلت الحياة التي أرادها الله، والقرصنة شيء قد يكون من اليسير على كل إنسان أن يحققه، ولكنه لو حققه كل إنسان لفسدت الحياة واضمحلت وتخاذلت ودبت إليها الأمراض البدنية والنفسية، ثم يعالجها بعد ذلك الموت السريع. ثم إن حياة الأسرة نفسها فيها تلخيص لقصة الخلق لا يمكن أن يتذوقه إلا من يباشرها؛ والعجيب أنه لا يمكن أن يتذوقها إنسان مثلما يستطيع الفنان الحساس العاقل القويم الخلق أن يتذوقها، فهي تجعل منه رباً صغيراً لجماعة من الناس الأحياء، وتمكنه من أن يرزق، ومن أن يعلم، ومن يصلح، ومن أن يوجه، ومن أن يعطي، ومن أن يجازى، ومن أن يحاسب، ومن أن يرحم، ومن أن يشفق، ومن أن يغفر، ومن أن يضمن الذكر لنفسه بعد موته، فيكون هو الوصلة بين الماضي والمستقبل، ومن أن يطلب حقه بلا تفريط ولا تهاون، ومن أن يعز ويعتز، ومن أن ينصر وينتصر، ومن أن يقول لشيء كن فيكون. . .

وهذا هو ما يريده الله لنا، وما يريده منا، ففي هذه الحياة من المعاني ما لو أنتبه الفنان وأستغله لأخرج منها صوراً وسلاسل لا نهاية من الفن الذاخر بالعواطف والفكر والمثل الخلقية العليا التي تفيض بها أنفس الآباء العاديين ويعجزون عن تسجيلها.

وقد يعترض علي معترض من غير المجربين ويقول لي: ما لنا نرى كثيرين من أفذاذ الفنانين الذين مجدتهم أنت نفسك واقعين في ذلك الشذوذ الذي تعيبه وهاربين من الزواج مع أنهم لا تعوزهم الحكمة ولا العقل ومع أن أفعالهم تشهد لهم بأن من الأخلاق الفاضلة ما ليس لغيرهم، فهم محسنون غير أنانيين، وهم يربون أولاد غيرهم بأموالهم ويصنعون ويصنعون. . .

ولهؤلاء أقول. . . إن غلطة واحدة يرتكبها الإنسان في صغره مختاراً أو مجبراً قد تظل آثارها عالقة بأعصابه وحياته إلى أن يموت. فإذا لم يلفت الإنسان إليها التفاتاً خاصاً، ويقاومها مقاومة خاصة فإنه يظل منساقاً وراء نتائجها ويظل يعاني الأمرين من آثارها، وقد يخيل إليه في ظروف من الظروف أنه مستطيع الانخراط في طريق الحياة الطبيعية العادية إذا ما اعتزامها واصطنعها، فيعتزمها ويصطنعها ولكنه لا يلبث أن يرى نفسه بعد حين عاجزاً عن المضي فيها. . . كما حدث ذلك للفنان الكبير شارلي شابلن فإنه تزوج أكثر من مرة واحدة، وأنجب من زوجه الأول ولداً هو الآن شاب كبير. ومع هذا فإن شارلي لا يزال يتخبط في حياته وإن كان له عذره في تخبطه، وإن كان فنه السامي مما يشفع له، فنحن إذا طالبناه بإصلاح نفسه الآن بعد فوات الأوان فإن ذلك قد يستنفد منه بقية حياته، وإن أنانيتنا نحن لتمنعنا من أن نسدي إليه هذه النصيحة، فخيرنا في أن نستمتع بفنه، ولو كان في ذلك هلاك روحه. . .

إذن فمن الذي يستطيع أن يضع حداً لهذا الاضطراب. . .

هم الآباء، والمربون، والأمهات قبل هؤلاء وهؤلاء. . . فعلى أولئك تقع التبعة الأولى في المحافظة على تعادل أبنائهم النفساني. وإني لا أشك في أن حضارة القرن العشرين قد بدأت تحس بأنها في حاجة إلى تبديل وتغيير، وعلى الخصوص بعد أن انهارت فرنسا هذا الانهيار السريع الذي لم يكن المعجبون بها يتوقعونه لها؛ وإني لا أشك كذلك في أن أصحاب الرأي والفكر يتربصون اليوم للحرب القائمة يريدون أن تضع أوزارها ليستطيعوا بعد ذلك أن يقولوا كلاماً صريحاً مفهوماً تلخيصه: أن عودوا أيها إلى حياة الطبيعة فلا مفر منها، ولا مهرب من الشر إلا بها، وهي سنة الله

عزيز أحمد فهمي