مجلة الرسالة/العدد 383/الفنون أسرار
مجلة الرسالة/العدد 383/الفنون أسرار
للأستاذ عبد اللطيف النشار
كانت غرفة المكتبة في منزل المسيو (بنديبي) محتوية على (دواليب) قصيرة ذات طبقتين وفوق ظهورها عدد غير قليل من الصور والتماثيل الصغيرة والعاديات والتحف المختلفة الأنواع والأشكال، وكان (بنديبي) على فقره رجلاً على درجة من الأهمية لاشتغاله بالآداب والفنون، وكانت التحف الموضوعة فوق دواليبه مجردة عن النظام والترتيب، وكانت زوجته مدام بنديي الضعيفة البصر تعاني جهداً في تنظيف الدواليب وما فوقها بمكنستها الصغيرة المصنوعة من ريش النعام
وفي يوم من الأيام أدت واجبها بالمنزل وجلست مستندة إلى ذراعي مقعد كبير تنتظر عودة زوجها فعاد وعلى وجهه كل علائم الاهتمام وقال: (انظري إلى هذه القطعة) وأشار بإصبعه إلى شيء فوق الدولاب واستمر يقول: (لقد استكشفت أن هذه القطعة الفنية تساوي مائة ألف فرنك). فأدارت السيدة نظرها الضعيف إلى حيث يشير إصبعه ورأت طبقاً عادياً من أطباق الحساء (سلطانية) فقالت: (أحقاً إنها تقوم بهذا الثمن؟)
قال المسيو بندبي: (نعم والذي قومها بهذا الثمن من أشهر هواة العاديات، وقد رفضت بيعها مع إلحاحه في طلبها. وماذا أفعل بالمال؟ إنني لست تاجراً ولكنني هاو. وأذكرك أيضاً بأني كلما اشتريت تحفة من هذه التحف كنت تقولين لي إنها حقيرة لا تساوي شيئاً، فهل تقدرين الآن أنني كنت مصيباً لما اشتريت هذه القطعة بسبعة فرنكات؟)
ومن ذاك اليوم لم تكن الزوجة تجرؤ على أن تمس الطبق خوفاً عليه من الكسر. وكانت تنظر إليه فتتذكر أنه كان في بيت جدها آنية مثله تماماً وأنها كسرت فلم يحزن عليها أحد، فكانت تقول في نفسها: (حقاً إن الفن كله أسرار. وكان زوجها يقول: (انظري إلى بهجة لونها وإلى الرنين الذي تحدثه عند لمسها بالإصبع). فتنظر ولكنها لا تجد جديداً في اللون ولا في الرنين. وكان الأولى بها أن تقول ما تعتقد؛ فيحاول زوجها إقناعها، وتنكشف لها الحقيقة فتعرف خطأها.
ولكنها كانت توافق زوجها إذعاناً. وكان ذلك من سوء حظها، فمات زوجها بعد أمد قصير ولم يبين لها سر الفن الذي يعرفه هو وجامع العاديات الذي عرض عليه مائة ألف فرنك في القطعة الأثرية. ولم تكن القطعة هي الآنية، ولكنها تمثال فتاة كان موضوعاً خلف الآنية. وكانت تلك المسكينة لضعف بصرها تحسب زوجها يشير إلى الآنية. وبعد موته رأت مدام يندبني أن تبيع كل ما تركه زوجها إلا الاتية؛ واستدعت أحد الهواة فأرته المكتبة وما فوق دواليبها، وقالت إنها تريد أن تبيع ذلك كله صفقة واحدة. وكان التمثال لسوء الحظ لا يزال موجوداً وراء الآنية، فنظر المشتري إلى كل الأشياء فأدرك قيمة التمثال وأشار إليه وقال: (وهل تدخل هذه القطعة ضمن الصفقة؟) فصاحت الأرملة محتدة (الآنية! فإنني لا أبيعها، فهي أنفس شيء عندي إنني لا أبيع هذه الأشياء لأني محتاجة إلى الثمن، ولكن لأنه ليس لها لزوم عندي) ونظر المشتري إليها وقدر أنها مجنونة فلم يناقشها، وأشترى التمثال بخمسين فرنكاً ثم باعه بعد ذلك في أمريكا بنصف مليون وباعت السيدة سائر التحف والمنزل وما فيه. وأخذت الآنية معها وذهبت إلى الريف. ولاحظ خدمها الجدد وأقاربها وجيرانها أنها لا تخشى على شيء غير الآنية، وأنها تحذرهم من المساس بها كل التحذير. وشاع في القرية أنها تعبد آنيتها هذه، وأن عقلها غير سليم
وأخذوا يناقشونها وهي تحتد في طلب سكوتهم، وتزيد في حرصها على آنيتها وإيصاء الخدم بها، فاستدعى أهلها طبيباً، وسألها الطبيب عن سر هذه الآنية. فقالت: إنها مستعدة لإطلاعه على الحقيقة على شرط أن يعادلها على الكتمان فالأمر سر عظيم؛ وقالت: (لقد اشترى زوجي هذه الآنية بسبعة فرنكات وهي الآن تساوي مائة ألف فرنك كما قرر ذلك أحد الهواة) قال الطبيب: (أظنك يا سيدتي تمزحين، فإن هذه الآنية لا تساوي شيئاً وأكثر العائلات تملك نظائرها) فقالت: (أو بمثل هذه البهجة في اللون؟ وهل تحدث مثل هذا الرنين؟!)
فأضطرب الطبيب ودهش لثقتها بشيء لا وجود له، فلم يكن للآنية لون مبهج ولا لها أي رنين. ولم يشأ مجادلتها لاعتقاده أن مرضها هو (الجنون بالفكرة الواحدة) وأنها إذا عولجت فقد تشفى. وبناء على قرار الطبيب نقلها أقاربها إلى مستشفى الأمراض العقلية، فدخلته راضية ومعها الآنية؛ ولم يهمها هذا الانتقال ما دامت معها هذه الثروة العظيمة، ولم يضن أهلها عليها بها ولكنها انتقاماً منهم لكيلا يرثوها أوصت بها لمتحف (اللوفر)
ومن يدري كم بالمتاحف من أمثال هذا الأثر؟ أليست الفنون كلها أسراراً؟ (عن الفرنسية)
عبد اللطيف النشار