مجلة الرسالة/العدد 382/في الاجتماع اللغوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 382/في الاجتماع اللغوي

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1940



تطور اللغة وارتقاؤها

أثر العوامل الأدبية المقصودة: التجديد في اللغة

للدكتور علي عبد الواحد وافي

مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

تبدو حركة التجديد المقصود في مظاهر كثيرة من أكبرها أثراً في التطور اللغوي الأمور الآتية:

1 - تأثر الأدباء والكتاب بأساليب اللغات الأجنبية، واقتباسهم أو ترجمتهم لمفرادتها أو مصطلاحاتها، وانتفاعهم بأفكار أهلها وإنتاجهم الأدبي والعلمي. فلا يخفى ما لهذا كله من أثر بليغ في نهضة لغة الكتابة وتهذيبها وأتساع نطاقها وزيادة ثروتها. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر. فأكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في عصر بني العباس يرجع إلى انتفاع العلماء والأدباء باللغتين: الفارسية والإغريقية. فقد أخذوا في ذلك العصر يترجمون آثارهما، ويعقبون عليهما بالشرح والتعليق، ويستغلونهما في بحوثهم، ويحاكون أساليبهما، ويقتبسون منهما عدداً كبيراً من المفردات العلمية وغيرها، ويمزجونها بمفردات لغتهم عن طريق تعريبها تارة وعن طريق ترجمتها تارة أخرى؛ فأتسع بذلك متن اللغة العربية، وأزدادت مرونة وقدرة على تدوين الآداب والعلوم. ويرجع كذلك أكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في العصر الحاضر إلى انتفاع الصحفيين والأدباء والعلماء باللغات الأوربية الحديثة، ومحاكاتهم لأساليبها وتعريبهم أو ترجمتهم لألفاظها ومصطلحاتها، واستغلالهم في مؤلفاتهم ومترجماتهم لمنتجات أهلها في شتى ميادين الحركة الفكرية. ولغة الكتابة بفرنسا في العصر الحاضر مدينة بأهم نواحي رقيها إلى تأثرها باللغتين الإغريقية واللاتينية من جهة، وباللغات الأوربية الحديثة من جهة أخرى. فمنذ (عصر النهضة) لم ينفك أدباء فرنسا وعلماؤها دائبين على اقتباس المفردات اللاتينية واليونانية القديمة، ومحاكاة أساليب هاتين اللغتين، وترسم قواعدهما ومناهجها في البحث وقد أخذوا منذ عهد بعيد يقتبسون كثيراً من المفرد والأساليب عن اللغات الأوربية الحديثة وخاصة الإنجليزية والألمانية؛ ولولا آلاف المفردات التي أقتبسها المحدثون من أدباء ألمانيا وعلمائها من اللغة اللاتينية وما تفرع عنها ومن اللغات الأوربية الحديثة، وبخاصة الفرنسية والإنجليزية، ما قويت لغة الكتابة بألمانيا على أن تصل إلى الشأو الذي بلغته الآن. . . ومثل هذا يقال في معظم لغات الكتابة في العصر الحاضر

وكثيراً ما تقتبس لغة الكتابة عن اللغات الأخرى بمفردات لها نظير متنها الأصلي. وكثيراً ما تقتبس مفرداً من لغة، وتقتبس نظيره في الدلالة عن لغة أخرى. وإلى هذه الظاهر وما إليها يرجع السبب في كثرة الألفاظ المترادفة (المشترك المعنوي) في لغات الكتابة. فما يذهب إليه بعضهم من أن الترادف بالمعنى الكامل لهذه الكلمة لا وجود له في اللغات ليس صحيحاً إلا فيما يتعلق ببعض لغات المحادثة التي تظل بمأمن من الاحتكاك باللغات الأخرى. أما لغات الكتابة التي يستحيل بقاؤها بمعزل عن غيرها، ولغات المحادثة التي يتاح لها هذا الاحتكاك، فلا تخلو من الترادف بالمعنى الصحيح للسبب الذي ذكرناه

2 - إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة فكثيراً ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرغبة في استخدام كلمات غريبة أوفى الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيراً

وبكثرة الاستعمال تبعث هذه المفردات خلقاً جديداً، ويزول ما فيها من غرابة، وتندمج في المتداول المألوف. ولا يخفى ما لذلك من أثر في نهضة لغة الكتابة واتساع متنها وزيادة قدرتها على التعبير. وقد سار على هذه الوتيرة بمصر في العصر الحاضر كثير من الأدباء والعلماء والصحفيين، فردوا بذلك إلى اللغة العربية جزءاً كبيراً من ثروتها المفقودة، وكشفوا عن عدة نواح من كنوزها المدفونة في أجداث المعجمات

3 - خلق الأدباء والعلماء لألفاظ جديدة. فكثيراً ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن أمور لا يجدون في مفردات اللغة المستعملة، ولا في مفرداتها الدائرة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقا. ً وقد لا يضطرهم إلى ذلك إلا مجرد الرغبة في الابتداع أو مجانبة الألفاظ المتداولة المألوفة، أو إبراز المعنى في صورة رائعة وتثبيته في الأذهان وتذليل سبل انتشاره بالإغراب في تسميته. وقد عم استخدام هذه الطريقة في الأمم الأوربية منذ القرن التاسع عشر، وكثر التجاء الأدباء والعلماء إليها بنوع خاص في تسمية المستحدث من المخترعات الصناعية، والمصطلحات العلمية والأحزاب والمبادئ السياسية والاجتماعية، وفي التعبير عن بعض معان دقيقة في عالم الأدب والفلسفة، فناءت مؤلفاتهم بهذه الكلمات المصنوعة وتألف منها معظم المصطلحات في الفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة. . . وما إلى ذلك، وصبغ معظم هذه المصطلحات بصبغة دولية، فأقرته المؤتمرات والهيئات العلمية الممثلة لمختلف الأمم الأوربية وعم استخدامها في لغاتها (تلغراف، تليفون، سوسيولوجيا، جيولوجيا. . . الخ)، وقد أجاز المجمع اللغوي بمصر الالتجاء إلى هذه الطريقة حيث تدعو إلى ذلك ضرورة، بألا يوجد في مفردات اللغة متداولها ومهجورها ما يعبر تعبيراً دقيقاً عن الاصطلاح المراد التعبير عنه

ولا يخفى ما لهذه الوسيلة من أثر في نهضة لغة الكتابة، واتساع متنها ودقة مصطلحاتها وزيادة مرونتها وقدرتها على التعبير وقد أرتضى الأدباء والعلماء بعض قواعد عامة في وضع هذه الألفاظ، ويستعينون عادة في تكوينها بالنحت والاشتقاق الأكبر ومزج كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة. ويستمدون أصولها من اللغات الحية أو الميتة، وخاصة اللاتينية واليونانية القديمة. وكثيراً ما يستعان في تكوينها بأكثر من لغة واحدة. فمن هذه المفردات ما هو مؤلف من لغتين (سوسيولوجيا) أي علم الاجتماع: فصدر الكلمة (سوسيو) من أصل لاتيني معناه الجمعية، وعجزها (لوجيا) من أصل يوناني معناه المقال أو البحث أو الخطبة , بل منها ما هو مؤلف من ثلاث (بيسيكلت) أي الدراجة، فإن (بي) من أصل لاتيني يدل على التثنية، و (سيكل) من أصل يوناني معناه الدائرة، وعجز الكلمة علامة فرنسية للتصغير , ,

وقوام هذه المفردات هو التواضع والاصطلاح. ولذلك كثيراً ما تختلف معانيها اختلافاً يسيراً أو كبيراً عن معاني الأصول التي استمدت منها

ولا تبقى هذه الألفاظ جامدة على الحالة التي وضعت عليها، بل ينالها ما ينال غيرها من المفردات، وتخضع في تطورها الصوتي والدلالي لنفس القوانين العامة التي تخضع لها الألفاظ الأصلية؛ فبمجرد أن يقذف بها في التداول اللغوي، وتتناقلها الألسنة، تفلت من إرادة مخترعيها وتخضع لنواميس الارتقاء العامة المسيطرة على ظواهر الصوت والدلالة.

فاللفظ الموضوع أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف في جهة معينة بقوة خاصة؛ فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره في تعطيلها أو وقف آثارها. ولذلك يختلف الآن النطق بالألفاظ الموضوعة، ويختلف رسمها باختلاف الأمم واللغات. والأسلوب الصوتي الذي كانت تلفظ به منذ قرن أو قرنين مثلاً غير الأسلوب الصوتي الذي تلفظ به الآن. وقد أخذ كثير منها عند جميع الكتاب أو عند بعضهم ينحرف في دلالته نفسها عن المعنى الذي له في الأصل

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون