مجلة الرسالة/العدد 380/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 380/رسالة العلم
قصة الفيتامين
الفيتامين المضاد للالتهاب العصبي أو فيتامين البري بري
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 5 -
زال كل شك على التقريب لدى من بقي متردداً في احتواء قشرة الأرز الرقيقة على هذه المادة الحيوية العجيبة المضادة للالتهاب العصبي، وخاصة بعد ما عزز اليابانيون هذه النظرية بنتائج قاطعة وقعت في جيوشهم وبحريتهم إذ كانت هذه تعتمد في غذائها على الأرز الأبيض المقشور، وكانت تقدم سنوياً ضحايا للبري بري من لا حصر لعدده من الرجال حتى بلغت نسبة الضحايا في بعض السنين أربعين في المائة من رجال القوات المحاربة مما تأثر به الجيش والبحرية، ولكن حدث بعد هذا أن أضرب عن طعام الأرز كغذاء رئيسي أساسي وأضيف إليه البطاطس والفواكه والدرنات وخبز الحبوب، فكانت النتيجة اختفاء مرض البري بري، وهذه الخطوة الأخيرة من أهم الخطوات العملية الجديدة التي خطاها البحث وقاوم بها الداء وكسرت بها شوكة المرض، ولا يلعب الآن هذا المرض إلا دوراً بسيطاً في تلك البلاد الآسيوية الشرقية التي عرفت الأهمية الصحية لما تحويه قشرة الأرز من المواد الحيوية، فأحلت الأرز غير المقشور أو نصف المقشور محل الأرز المقشور، وقد لا يقدر قيمة هذا العمل الأخير أحد مثل الذين رأوا بعيونهم الفعل الوبيل للمرض الذي كان يتخطف الناس زرافات من الوطنيين وآكلي الأرز بعد أن يهلك أبدانهم ويضنيهم.
وربما يكتفي الإنسان في مثل هذه الأحوال في البلاد التي تعتمد في غذائها على الأرز اعتماداً كلياً بسن قانون يمنع تبييض الأرز. ولكن مثل هذا العمل لا يحل المسألة ولا يرضي الروح العلمية البحاثة التي تصبو إلى تقرير معرفة وتكييف طبيعة هذه المادة التي تمنع حدوث المرض وعلة وجودها في القشرة الفضية الرقيقة ضمن الطبقة البروتينية التي تكسو حبة الأرز؛ وقد توصل بعض لباحثين اليابانيين، وكذلك البيولوجي فونك الذي سبق ذكره، وكان أول من وضع لفظ (الفيتامين) - إلى فصل وتحضير مادة من كساء (الطبقة الكاسية) الأرز كفت كميات منها متناهية في الصغر للقضاء التام على أعراض مرض الالتهاب العصبي الناتج من تناول الأرز المبيض غذاء أساسياً. وبعدئذ وعند تبويب وتصنيف الفيتامينات أطلق على الجزء الفعال من هذه المادة المحضرة الحرف الهجائي ولما كان الاسم العلمي للالتهاب العصبي هو المأخوذ من الإغريقية بمعنى أعصاب لقب هذا الفيتامين بالإنتينويريتيك.
وتوجد هذه المادة الحيوية في الأرز الغير المقشور بنسبة جرام واحد في كل ألف كيلو جرام أو بنسبة جرام ونصف في كل مائة كيلو جرام من نخالة الأرز (نخالة الأرز هي القشرة الداخلية للأرز التي تنزع عن حبة الأرز وتفصل عنها أثناء تبييضه) وقد استبعد وجود هذه المادة فقط في قشرة الأرز فدل البحث بعدئذ على وجود الفيتامين كذلك ضمن الطبقة البروتينية في الحبوب كالشعير والذرة والقرطم والقمح وفي بذورها كذلك، وقد لا يثير عجبنا غنى بذور تلك الحبوب بهذه المادة، فالبذرة هي مصدر الحياة، فلا بدع إن حملت كذلك المادة الحيوية اللازمة للبناء والنمو والحفظ، أما في داخل الثمرة (في الحبوب) أي النسيج الخلوي النشوي، حيث المستودع الغذائي للنبت الجديد، فيندر وجود الفيتامين أو ينعدم.
ولهذه النتيجة أهمية في حياتنا اليومية، فتقل إذن أو تكثر نسبة الفيتامين في الخبز الذي نأكله تبعاً للنسبة المئوية في طحن الحبوب أي نسبة إنتاج الدقيق من القمح المطحون، وهذا يعني كثرة وجود أو قلة النخالة والبذرة في الدقيق؛ فكلما قلت نسبة الإنتاج وقل وجود قطيعات النخالة والبذرة في الدقيق الأبيض الناتج قلت معه نسبة الفيتامينات؛ أما الدقيق ذو الإنتاج العالي أو الدقيق الكلي الذي يحوي معظم الحبة فنسبة وجود وهذا ما أثبتته التجارب الغذائية التي قامت للتدليل على التأثيرات المختلفة للفيتامين في أنواع مختلفة من الدقيق، وإحدى هذه التجارب قامت على تحضير عدة مجموعات من الفيران أطعمت كل واحدة على حدة نوعاً خاصاً من الغذاء من دقيق القمح والذرة والقرطم والشعير، فكانت أولى الضحايا هي المجموعة التي كان دقيق القمح من نصيبها، أما المجموعة المطعمة دقيق الشعير فقد مكثت أربعين يوماً حية رغم صنف غذائها الواحد - أما الفيران التي أكلت من غذاء القرطم الأسود فلم يصبها أي سوء وذلك لاحتواء الدقيق الأسود على كميات وفيرة من الفيتامين.
ولم لا يصاب الإنسان إذن بتلك الأعراض القاسية للالتهاب العصبي إذا ما اعتمد في غذائه الخبز الأبيض لاسيما وقد أكد هذا القول نتائج تجارب قامت حول تغذية الحيوانات، فالكلاب إذا ما أطعمت بالخبز الأبيض فقط تمرض بالبري بري بعد أربعين يوماً والدجاج بعد عشرين، أما الفيران فيمضي اثني عشر يوماً. وفي كل هذه التجارب تلاشت أعراض المرض سريعاً عندما أضيف إلى دقيق القمح نخالة القمح، وإذا ما لاحظنا أننا قد لا نمرض إذا تناولنا الخبز الأبيض فإن لنا في بقية أصناف الطعام المتممة مصادر أخرى للفيتامين إذ نجد تلك المادة الأنتينويريتيكية خلاف الدقيق الأسود العالي الإنتاج في الخميرة بكميات كبيرة وفي الخضروات والفواكه الطازجة وفي الدرنات واللوز والبندق وصفار البيض واللبن والكبد واللحم الطازجة، ولا يتأثر الفيتامين كثيراً في هذه الأطعمة عند طهيها طهياً عادياً ولا يفقد قدرته الفعالة عند سواد الأطعمة فيموِن الجسم بكميات كافية من الفيتامين عندما نتناول ألواناً مختلفة من الطعام العادي. وهنا تضرب الطبيعة مثلاً غريباً في القناعة، إذ يكفيها يومياً من ثلاثة أرباع إلى واحد على الألف من الجرام من فيتامين الأنتينويريتيك ضمن الغذاء اليومي للقيام بمهمتها في حفظ كيان الإنسان وصونه من الأمراض.
ومن الثابت المحقق الآن أن مجال عمل الفيتامين الأنتينويريتيكي وموضع تأثيره هو عند تحول المواد في الخلية العصبية، ولذا نرى أنه عند غياب هذه المادة الحيوية تحدث الاضطرابات وأعراض الإصابة في محيط الجهاز العصبي. وزيادة على ذلك يعمل هذا الفيتامين على تنظيم عمل الغدد الدرقية وأخيراً وبفضل مجهود العالم إميل أبدرهالدن ثبتت أهمية هذا الفيتامين عند تمثيل الكربوهيدرات (المواد النشوية والسكرية) وأثر هذا أنه بغياب هذا الفيتامين تحدث اضطرابات في تحليل الجليكوجين (سكر الكبد) أو في أية مادة سكرية نشوية تبقى في الجسم كاحتياطي من الكربوهيدرات، ونتيجة ذلك ازدياد كميات سكرية نشوية في الكبد وفي عضلات وأنسجة القلب ازدياداً غير عادي، وتأخذ هذه الكميات في الهبوط والنزول عند تموين الجسم ثانياً بفيتامين
ومع أن البحث العلمي بذل قديماً جهوداً عظيمة في سبيل التعرف على طبيعة تكوين هذه المواد الحيوية التي تكفي منها
كميات ضئيلة لحدوث تأثيرات بيولوجية هامة في جسم
الإنسان، ورغم تعاون الكيمياء مع علم الطب لم تثمر هذه
الجهود ولم يتحقق إلا حديثاً بعض الحلم في تحضير الفيتامين
في حالة نقية. إذ توصل الكيميائي فونك الذي تردد ذكره
مرات في هذا المقام إلى تحضير بلورات دقيقة من نخالة
القمح استخدمت منها أجزاء ضعيفة من الألف من الجرام
الواحد في علاج حمام مصاب بالبري بالبري، فكان لها مفعول
السحر في شفاءه كما حضرت كذلك خلاصة من الخميرة كان
لمفعول أربعة أجزاء من الألف من الجرام منها أثر بالغ
العجب في إزالة أعراض الالتهاب العصبي في حمام مصاب
بالبري بري، وفي ردهة اجتماع مؤتمر طب المناطق الحارة
الذي عقد في برلين عام 1911 وضع العالم الألماني شاومان
في حنجرة حمامة كسيحة مريضة بالبري بري - حبيبة من
الفيتامين الخام كان من أثرها الشافي أن طارت الحمامة في
اليوم التالي في جو ردهة المؤتمر. ولم تتضح درجة نقاء هذه
المنتجات المحضرة إلا بالمقارنة. وعندما توصل العالمان الهولنديان، يانسن ودونات , في سنة 1926 بعد تحضير
وتنقية تامة لبلورة محضرة من نخالة الأرز حالت كمية منها
لا تزيد على عشرة أجزاء من مليون من الجرام دون إصابة
حمامة رغم تقديم غذاء البر بري لها ورغم هذه الجهود
الجبارة المضنية من يانسن ودونات، فلم يثبت أن المادة التي
استخلصاها ونقياها ذات تركيب كيميائي واحد، ولم يتوصل
أحد إلى معرفة الحجر الأساسي لهذا البناء الكبير، وكذلك
الاحتفاظ بسر تركيبه قبل العالمين الألمانيين: أدولف ونداوس،
فريتز لاكور & وذلك في أواخر عام 1931، إذ تمكنا مع
مساعديهما من إزالة الستار عن الفيتامين وتحضير مادة نقية
بلورية من الخميرة يكفي منها جزءان من المليون من الجرام
لإظهار أثر حميد في شفاء حمام مصاب بالبري بري. وقد
وصلا إلى تحضير كمية هي 100070 سبعين على ألف من
الجرام من مائة كيلو جرام من الخميرة بينما توصل غيرهم
من الباحثين إلى تحضير نضف جرام فقط من ألفي كيلو جرام
من الخميرة مع الفارق العظيم في الإنتاج الصناعي، وللآن لم
يذع أي شرح كيميائي تفصيلي لطبيعة هذه المادة.
والمعروف عن فيتامين الأنتينويريتيك فقط أنه يتركب من الكربون والإيدروجين والآزوت والأكسجين، وأحياناً من الكبريت، وأنه سهل الذوبان في الكحول والماء، وأنه يتأثر بالحرارة الطويلة المدى عند درجة 120ْ وأنه لا يتأثر عند الإغلاء القصير المدة. ولو قدر يوماً ما الوصول إلى الإحاطة التامة بالتركيب الكيميائي لفيتامين البري بري والإعلان عنه، فسوف لا يصل العلم إلى هذا الفتح قبل الاصطدام بنواحي وأبواب كثيرة موصدة، إذ كلما تعمق العلماء في حل لغز الفيتامين تكشف لهم أنهم ليسوا حيال فيتامين واحد، بل أمام مجموعة من المواد الحيوية، بل المعروف الآن أن ما اعتبره الباحثون فيتامين ليس إلا مجموعة تكون من خمسة فيتامينات مختلفة على الأقل والتي منها ما تكلمنا عنه في هذا الباب تحت عنوان فيتامين الأنتينوترتيك (الفيتامين المضاد للالتهاب العصبي) أو فيتامين البري بري أما الفيتامينات , , فلا يعرف عنها إلا ما استنتج من التجارب الغذائية التي أجريت على الحيوانات وهي معرفة علمية نظرية بعيدة عن الناحية العملية - بينما تأثيرها وصلتها بفسيولوجيا الإنسان فلم تعرف بعد. أما الفيتامين فلصلته القريبة الهامة بالتمثيل عند الإنسان ووجوده في الطبيعة ملازماً للفيتامين فسنخصص له الكلام في المقال القادم.
عبد اللطيف حسن الشامي